الحضارة اليمنية القديمة والمنقولات الأثرية للخارج محمد عبد الله باسلامة

الحضارة اليمنية القديمة والمنقولات الأثرية للخارج

كان لليمن القديم دور حضاري, امتدت جذوره منذ الألف الثالثة قبل الميلاد, وظهر نشاطه التاريخي خلال الألف الأولى قبل الميلاد وبداية العصر الميلادي من خلال ممالك سبأ ومعين وحضرموت وقتبان وأوسان وأخيراً مملكة حمير(سبأ وذوريدان وحضرموت ويمانه...) ولا يعرف بالتحديد بداية كل منها أو كيف اختفت ومتى انتهى بعضها, إلا أن اسم سبأ استمر منذ ظهورها حتى انتهاء دورها بعد الاحتلال الحبشي لليمن في القرن السادس للميلاد وظهور الإسلام, وقد تعاصرت بعض الدول أو أدخلت في كيانات سياسية في بعض الفترات, وكان لها وجود سياسي وجغرافي ومراكز حكمها, وتفاعلت مع بعضها البعض ومع دول الجوار بأنشطة حضارية مختلفة. نتج عن النشاط الحضاري لليمن القديم ظهور شواهد أثرية متعددة ومتنوعة في مواقع مختلفة, عثر على بعضها بواسطة أعمال البحث والتنقيب لبعثات أجنبية, وأغلبها كانت لقى التقطها أشخاص وعرضت في متاحف اليمن وخارجه, ومن بين تلك الشواهد الأثرية نقوش كتابية ونماذج فنية لأشكال آدمية وهندسية, بما فيها من عناصر حيوانية ونباتية وأدوات ورموز دينية, عملت من الطين وأنواع الأحجار الجيرية والكلسية والرخام والمرمر والبرونز ومن الخشب والعظم والزجاج.

إن أعمال نهب الآثار ونقلها إلى الخارج مسألة قديمة ومستمرة, خاصة إذا ما علمنا أن المواقع الأثرية في اليمن كثيرة, وتحتاج إلى المزيد من الحرص والوعي لأهمية كل أثر, كما أن فقدان الأثر وعرضه أو الاحتفاظ به في بقعة من العالم يشكل نقصاً في مدلوله العلمي والثقافي لدى الباحثين والمهتمين.

الممالك اليمنية القديمة

ينبغي أن يسبق المراحل التاريخية الحضارية لليمن القديم, ذكر لعصر التاريخ المبكر وعصر ما قبل التاريخ, وهما عصران لم تتضح بعد الصورة الأولية لهما نظراً لقلة العمل الأثري في اليمن بهذا الخصوص, وقد أنبأت الشواهد القليلة المتوافرة عن فترات العصر البرونزي والعصر الحجري وهي الفترات السحيقة التي ينبغي أن تسبق في العادة عصر التاريخ القديم أو فترة الحضارة الراقية, بل يرجح أن بلاد اليمن قد شهدت مراحل التحولات الحضارية الأولى التي عهدت في بقاع مهد الحضارات المعروفة مثل حضارة ما بين النهرين وحضارة وادي النيل وحضارة بلاد الشام, فموقعها المجاور والملامس لتلك البقاع يقتضي أن تكون قد عرفت حضارة مبكرة تشكل امتداداً لها أو من بعض أصولها.

غير أن اليمن لم تنل حظها من الجهود الأثرية التي نالتها تلك البقاع, ولذا كانت الدلائل الأثرية القليلة التي تومئ إلى تلك العصور السحيقة غير كافية, ولا بد من جهود كبيرة متضافرة ومسح آثاري شامل وتنقيب علمي منظم يتم في هذه البلاد حتى يتسنى لها إبراز شواهدها الحضارية وكتابة فصولها التاريخية منذ أقدم العصور.

ظهرت في اليمن حضارة عريقة, امتدت قديماً إلى معظم أجزاء الجزيرة العربية, ففي هذا الإقليم من بلادالعرب, قامت حضارة يعود أقدم آثارها إلى ما قبل الألف الأول قبل الميلاد, حضارة جذبت إليها أنظار العالم القديم وأثرت فيه, وبلغت من ذيوع الصيت ما جعل الكتاب الكلاسيكيين من أمثال سترابو وبلني وبطليموس يتحدثون عنها بكثير من الإعجاب والانبهار. ففي تلك العهود عاشت على مسرح الحوادث في العربية السعيدة ممالك في فترات متداخلة ومتعاقبة هي: سبأ ومعين وحضرموت وقتبان, ومملكة لم تظهر هويتها كاملة هي تلك التي كانت تدعى أوسان, والتي تبدو أنها كانت على الأغلب متعاصرة متعاونة أو متنافسة متناصرة, كل منها تستقل بنفسها تارة وتدين بالولاء لبعض جاراتها تارة أخرى.

وتنافست الممالك الأربع التي تختلف في قوتها, بعضها مع البعض الآخر. وفي نهاية القرن الثاني قبل الميلاد برزت سبأ قوة استطاعت أن تغزو معين, وكذلك أجزاء من مملكة قتبان الغربية. أما التهديد الخطير الوحيد لممالك اليمن فهو الذي جاء في حوالي (25-24 ق.م), عندما سيطر الجيش الروماني بقيادة اليوس جاليوس (Aelius Gallus) على مصر, ومن ثم تغلغل إلى الجنوب العربي بمساعدة أدلائهم من الأنباط, وهاجم الرومان نجران ومعين التي ربما فتحت أبوابها للأعداء. أما مأرب فقد صمدت وتراجع الرومان بسبب قلة الماء وانتشار الأمراض. وكان في خطط الإسكندر المقدوني القيام بحملة عسكرية الغرض منها السيطرة, والتي لم تتم بسبب موته المبكر, أما مملكة قتبان فقد استمرت في ضعفها, فعاصمتها (تمنع) دمرت في الربع الأول للقرن الأول بعد الميلاد من قبل حضرموت, أما الأجزاء الأخرى لقتبان فقد سقطت في أيدي السبئيين وأهل حضرموت.

مملكة سبأ

مملكة سبأ هي الأقدم من بين الممالك اليمنية القديمة فتاريخ سبأ هو في الحقيقة سناد التاريخ اليمني القديم وعموده, ودولة سبأ في العصر الأول, هي أكبر وأهم تكوين سياسي فيه, وما تلك الدول التي تذكر معها سوى تكوينات سياسية كانت تدور في الغالب في فلكها, ترتبط بها حيناً وتنفصل عنها حيناً آخر, مثل دول معين وقتبان وحضرموت, أو تندمج معها لتكون دولة واحدة مثل حمير, والتي لقب ملوكها بملوك سبأ وذوريدان, وذوريدان هم حمير, وأرض سبأ في الأصل هي منطقة مأرب, وتمتد إلى الجوف شمالاً, ثم ما تلاها من المرتفعات والهضبات إلى المشرق, مثل مناطق أرحب وخولان وقاع صنعاء وقاع البون. كان موقع مأرب عاصمة مملكة سبأ في وادي سبأ على مشارف الصحراء يسيطر على طريق التجارة المهم المعروف بطريق اللبان.

وقد وصفت أرض (شبا) (سبأ) في التوراة بأنها كانت تصدر اللبان وكانت ذات تجارة, وأن تجارها كانوا يتاجرون مع العبرانيين, واشتهرت قوافلها التجارية التي كانت ترد محملة بالأشياء النفيسة, وتبين من المواضع التي ورد فيها ذكر السبئيين في التوراة أن معارف العبرانيين عنهم قد حصلوا عليها من اتصالهم التجاري معهم.

جاء في وصف حديث للمدينة (مأرب وسبأ) والمنطقة المجاورة ما يأتي: (وهناك وهدة واسعة وبالأحرى سلسلة من الوهاد المتقاربة على طول (160) ميلاً إلى الشمال والشمال الشرقي من بلاد اليمن, ويفصل هذه الوهاد عن هضبة صنعاء والمناطق الفاصلة من (نهم وبلاد خولان) ويمتد هذا المنخفض الكبير غير المنتظم من الشمال إلى الجنوب منحدراً من هضبة اليمن بما فيها عسير, ويحاذيه من الشرق الكثبان العالية من الصحراء الشرقية الكبرى, ويدعى القسم الجنوبي من ذلك المنخفض بالجوف (ويدعى كثيراً بجوف اليمن) وقد كان مركزاً لحضارة السبئيين والمعينيين قديماً. وسبأ أرض اليمن مدينتها مأرب بينها وبين صنعاء مسير ثلاثة أيام).

ورد اسم سبأ دون غيرها من الممالك اليمنية القديمة في القرآن الكريم في سورة النمل وفي سورة تحمل اسمها (سورة سبأ), وهو بذلك أول مصدر يعتد به في الحديث عن مملكة سبأ وقومها وما كانوا عليه من ديانة وأوضاع اجتماعية.

مملكة معين

أقام المعينيون في الجوف مملكتهم, وفيه لا تزال خرائب حاضرتهم (قرنو) التي تعرف باسم (معين) باقية إلى اليوم, والجوف منفهق من الأرض, تحيط به الجبال: برط والشعف واللوذ من الشمال, وسليام ثم يام من الجنوب وتفضي إليه أربعة أودية, أهمها وادي الخارد.

وقد ذكر الهمداني, مواضع كثيرة في منطقة الجوف مثل معين ونشق وبراقش وكمنا وغيرها وأقدم من ذكر المعينيين الجغرافي اليوناني سترابو نقلها من مصادر يونانية قديمة عندما عدد ممالك بلاد العرب الجنوبية, فقد ذكر مملكة المعينيين, وأن عاصمتهم هي قرنا (Karna). وحسب وصف سترابو, تقع معين في الشمال إلى الجنوب منها سبأ وإلى الجنوب البعيد تقع قتبان وإلى الشرق منها كلها تقع حضرموت. ومعين اسم حصن ومدينة باليمن.

ويرى بعض العلماء أن مملكتي سبأ ومعين, قد وثقتا العلاقة بينهما, وأصبحت معين مستقلة حتى نهاية القرن الخامس قبل الميلاد, ومنذ القرن الرابع دخلت فترة طويلة من الازدهار والرخاء الاقتصادي, وخلال تلك الفترة سيطرت على معظم طرق التجارة, التي تستمر مدة شهرين في طريقها حتى تصل للبحر المتوسط. ولتوفير الحماية لهذه الطرق فإن المعينيين أنشأوا مستعمراتهم بعيداً في الشمال الغربي للجزيرة العربية من منطقة واحات ددان.

مملكة قتبان

يورد (ثيوفراستوس) (حوالي 312 ق.م) (كتبيا أو كتبينا) (Kattabaina),(Katabani) (قتبان) ضمن ممالك بلاد العرب الجنوبية الأربع وهذه التسمية تتفق مع ما ذكره سترابو عن القتبانيين وما جاء في بلني. كما ورد اسم قتبان في النقوش اليمنية القديمة. ويصف سترابو هذه المملكة بأنها تشغل أقصى الزاوية الجنوبية الغربية من بلاد العرب في المنطقة المجاورة لمضيق باب المندب, الذي يشكل مدخل البحر الأحمر, وعلى ساحلها الجنوبي يقع ميناء عدن.

قتبان اسم دولة وأرض وقبيلة كانت مثاويها في الأصل فيما يعرف اليوم بمنطقة بيحان (وادي بيحان), ويعتبر وادي حريب الواقع إلى الغرب من بيحان ضمن أراضي مملكة قتبان, وقد حرص القتبانيون على ربط الواديين بطريق عبر عقبة مبلقة المواجهة لمدينة ذوغيل ثانية المدن القتبانية أهمية (بعد العاصمة القديمة تمنع).,. وقتبان جمع قتب: موضع في نواحي عدن.

وقد اختلف علماء الآثار في تحديد ظهور قتبان ونهايتها. أقدم النقوش تعود إلى عصر المكربين (الملوك) الأول الذي يقدر (البرايت) زمنهم بالفترة ما بين القرنين السابع والخامس قبل الميلاد, ويظهر أن أقدم من ورد اسمه منهم في النقوش المعروفة (المكرب سمه على وتر) من القرن السادس قبل الميلاد, وفي القرن الرابع ومنذ حوالي 350 ق.م فيما يبدو, أصبحت قتبان تسيطر على الشريط الساحلي الممتد من باب المندب حتى ما وراء عدن إلى الشرق, ومنذ ذلك الوقت ازدهرت قتبان, واتت أغلب النصوص الطويلة وأغلب النصوص التذكارية.

ومنذ نهاية القرن الثاني قبل الميلاد, أخذ الحميريون يقتطعون أجزاء من الأراضي التابعة لقتبان. وبنهاية القرن الأول ق.م تمتد سيطرة حمير على الأجزاء الساحلية وفقدت بذلك قتبان سيطرتها على التجارة البحرية.

وفي عام 1950م قامت بعثة (مؤسسة دراسة الإنسان الأمريكية) بإجراء حفريات في (هجر كحلان) بوادي بيحان وهو الموقع الذي كانت تقوم عليه تمنع, والتي قال بلني إن (بها خمسة وستين معبداً) الأمر الذي يصور لنا مدى اتساعها. وتوصل القائمون على الحفريات - على الرغم من عدم اكتمالها - إلى نتائج مهمة يتعلق البعض منها بتاريخ قتبان.

مملكة أوسان

اسم إحدى الممالك اليمنية القديمة, فقد جاء في النقوش السبئية والقتبانية (ملك/ أوسن) و(ملك أوسن), وهو الاسم الذي أطلق على المنطقة الواقعة على ساحل خليج عدن وبعض المناطق الداخلية, ويرجح أن موطنها الأصلي في وادي مرخة. ويستفاد من نقش صرواح الكبير الذي يذكر أن (الملك المكرب) السبئي كرب إل وتار بن ذمار علي, قد قام بعدة حملات عسكرية داخلية خلال فترة حكمه (القرن السابع قبل الميلاد) يهدف منها إلى تثبيت السلطة المركزية لدولته وتأديب من خرج عنه.. وشملت حملاته مناطق أوسان وغيرها من المناطق الجنوبية حتى باب المندب.. ويستفاد من النقش أن ذلك الحاكم تمكن من إقامة دولة مركزية قوية انضوى تحت لوائها كل اليمن تقريباً.

مملكة حضرموت

يرد اسم حضرموت في التاريخ بأسماء مختلفة, فهي عند ارثوسثنيس (حضر موتيتاي) وعاصمتها (كباتاتون) وعند سترابو وثيوفر استوس هي (حضرميتا), بينما يشير بلني إلى أهل حضرموت أنهم جماعة من السبئيين. ويأتي ذكر مملكة حضرموت في العديد من النقوش الكتابية القديمة, فقد ورد اسم حضرموت في الكتابات المعينية, كما وردت أسماء ملوك حضرموت في كتابات حضرمية. أما الهمداني فيقول : (حضرموت من اليمن وهي جزؤها الأصغر, نسبت هذه البلدة إلى حضرموت بن حمير الأصغر فغلب اسم ساكنها). واسم حضرموت في التوراة (حاضر ميت), وقيل سميت بحضرموت بن يقطن بن عامد, وحضرموت بن قحطان, فهو اسم موضع واسم قبيلة.

وقد ظلت حضرموت تعرف بهذا الاسم دون انقطاع ولم يزل الاسم بزوال المملكة القديمة, كما حدث لشقيقاتها, كما أن أكبر وديانها يعرف باسم وادي حضرموت ويبلغ طوله 160كم ويربط الأجزاء الغربية والشرقية في منطقتها.

وقد كانت حضرموت بلاد البخور لأنها كانت مملكة مترامية الأطراف تتوسط بلاد العرب, وتمتد إلى ظفار أعظم المناطق المنتجة للبخور, ولا شك أن مملكة حضرموت في أوج ازدهارها وقوتها أكبر الممالك اليمنية القديمة رقعة, امتدت من مشارق بيحان (قتبان) غرباً إلى حدود عمان شرقاً شاملة ظفار كلها, وامتدت أيضاً عبر البحر إلى جزيرة سقطرة, ويذكر أن مدينة شبوه (العاصمة) تقع في الداخل وأنها محل إقامة الملك, وإليها يجلب اللبان لخزنه, كما أن مدينة قنأ كانت الميناء التجاري لحضرموت. وتقع في أسفل جبل يعرف اليوم باسم (حصن الغراب).

وتتضارب آراء العلماء حول زمن بدء مملكة حضرموت القديمة وتطورها. وقد عرفت حضرموت نظام المكربين (لقب ديني ومدني) وفيما عدا العلاقة الخاصة بين حضرموت ومعين في الثلث الأخير من الألف الأول قبل الميلاد فإننا لا نكاد نعرف شيئاً عن نشاط أهل حضرموت في ذلك الوقت, ولكن الإشارات الواردة في كتب المؤرخين الكلاسيكيين تدل على أن تجارة البخور كانت مزدهرة, وأن شبوه كانت مركزاً رئيسياً لتجميع تلك السلعة الثمينة. وازدهرت حضرموت ازدهاراً شديداً في الفترة التي نسميها فترة (ملوك سبأ وذوريدان) أي القرون الثلاثة الأولى لعصر ما بعد الميلاد, ويعود ذلك فيما يبدو إلى عدة عوامل منها ازدياد الإقبال على مادة اللبان الذي جعلها تولي اهتماماً خاصاً بمنطقة (إقليم ظفار), حيث أقامت ميناء (سمهر) (على خور روري) بالقرب من صلالة. كما أن حركة التجارة في ميناء قنأ وفي سقطرة كما يظهر في كتاب (الطواف حول البحر الأحمر) كانت نشطة, وكانت الوفود والتجار يتوافدون على البلاد براً وبحراً, كما نلمس من نقوش العملة.

وخاضت حضرموت حرب الثلاثمائة عام التي دارت حول توحيد كل من سبأ وذي ريدان, وقد تمكنت في مطلع القرن الثاني الميلادي من السيطرة على معظم بلاد (ولد عم)(قتبان), وبعد ذلك الوقت دخلت حضرموت ضمن المملكة الحميرية التي شملت اليمن كله منذ بداية القرن الرابع الميلادي.

جهود نقل الآثار سابقاً

اهتمت المؤسسات العلمية والمتاحف العالمية باقتناء الآثار والنقوش اليمنية منذ بدء الرحلات الاستكشافية في القرن الثامن عشر, ثم بتنظيم رحلات البعثات العلمية والآثارية إلى اليمن لجلب الآثار في العصر الحديث, وذلك خلال الوجود التركي والاستعمار البريطاني والحكم الإمامي, حيث شجعت عملية بيع الآثار وتهريبها إلى الخارج. ووجدت في اليمن - حيث مناطق الآثار وانتشارها - شبكات تجميع الآثار ونقلها إلى عدن, حيث يوجد تجار وسماسرة الآثار. ولهذا نجد الآن كميات كبيرة من النقوش والقطع الأثرية في حوزة المتاحف العالمية ولدى أرباب المجموعات الأثرية الخاصة .

حديث الوثائق

يستفاد من كتاب (المستشرقون وآثار اليمن) بجزأيه لمؤلفه د. محمد با فقيه 1988م أن الشخصية المهمة الذي يرد اسمه في رسائل الكتاب, هو الكونت دي لندبرج أو عمر السويدي (1848 - 1924م) الذي زار اليمن مرات ما بين عام 1882 وعام 1894, وبلغ في إحداها مأرب تحت اسم الشيخ حسين.. ظل تطلعه إلى اختراق المناطق الداخلية مشروعاً على ورق الرسائل التي تبادلها مع أولي الشأن في تلك المناطق: (نصاب ويشم وبيحان وعدن وسقطرى وقشن والشحر والمكلا وبالحاف وحورة وعرقة وأحور وشقرة). تشكل الرسائل إضافة مهمة إلى حصيلتنا من الوثائق عن الفترة التي تعود إليها, وهي فترة شهدت تسارعاً في وتيرة التغلغل البريطاني في المناطق الداخلية من جنوب اليمن, تغلغلا لعب فيه دوراً ملحوظاً المغامر البريطاني وايمان بري (أو عبد الله منصور) الذي تردد اسمه في الرسائل أكثر من أي مخلوق آخر, وتغطي الرسائل العائدة إلى الأعوام من 1895- 1911 مجمل الفترة التي ظل خلالها, بل وإلى ما وراءها قليلاً, المستشرق السويدي الكونت كارلودي لندبرج على اتصال بمعاريفه اليمنيين, يلتقيهم بداره في عدن أو أماكن إقامته في (أوربا). أما الجانب الطاغي في الرسائل فهو ذلك الذي يتعلق بتجارة الآثار وفي مقدمتها (الأحجار المكتوبة) أي النقوش أو المساند, تلك التجارة المشئومة التي ألحقت الضرر في مجال التراث وعناية المثقفين. فهي تراث الحضارة العريق والعادات والتقاليد والفنون.

تصدمنا الرسائل بعنف حين تظهر أن تجارة الآثار في اليمن قد اتخذت عند التقاء القرنين التاسع عشر والعشرين أبعاداً خطيرة, إذ كادت تشمل اليمن كله رغم وعورة الطرق وصعوبة التنقل من جراء اهتزاز الأمن المرافق لحالة التمزق التي أضعفت البلاد وقتها وخلقت فيها حالة القابلية للاستعمار. لقد قامت في تلك الفترة شبكة تخريب وتسريب للآثار كانت الحلقة العدنية - كما يظهر من رسائل الملف - أبرز حلقاتها, وذلك لأن حركة السفن التي تربط الميناء اليمني بالموانئ المهمة في أوربا والهند قد سهلت في ظل الوجود البريطاني عملية التسريب.

وكان القانون في عدن هو إرادة المستعمر, ولم تكن إرادته تتعارض مع تشجيع الاتجار في الآثار رغم علمه بأنها مسروقة. بل كان الضباط البريطانيون أنفسهم من عسكريين وأشباه مدنيين لا يتورعون عن الاستحواذ على ما تصل إليه أيديهم من قطع أثرية, بعضها يتهافتون عليه لقيمته المادية, وبعضها يحتفظ به الأفراد منهم على سبيل التذكار, والبعض الآخر يجد طريقه إلى متاحفهم والمتاحف الأوربية الأخرى بيعاً وإهداء.

في الرسالة رقم 96/2 بتاريخ 20/3/1896م, أن محمد صالح قد اتخذ الترتيبات من أجل إحضار (التواريخ الحميرية ومؤلفات الهمداني للكونت من صنعاء). و(التواريخ الحميرية) عبارة فضفاضة ولكنها تشير إلى طبيعة الوثائق التي كان لندبرج يسعى إلى اقتنائها. ويحتمل أنها تعني النقوش. أما مؤلفات الهمداني فكثيرة ولعل ما كان يبحث عنه لندبرج هو المزيد من أجزاء (الإكليل). عاش الهمداني وهو أبو محمد الحسن بن يعقوب في القرن الرابع الهجري - العاشر الميلادي - وهو العالم الموسوعي اليمني الذي اشتهر بلقب لسان اليمن.

من خلال الرسالة رقم 98/9 بتاريخ 12/4/98م, وهي تشير إلى جلب 11 حملاً من نقوش واضحة عبارة عن أحجار كبيرة وصغيرة, حملها من عدن إلى لندبرج وهي من أرض الخورة والعلهين ودمان وأرض عوذلة وأرض النخعين. بخمسمائة ورقة مطبوعة (مضغوطة) وأن هناك أحجارا أخرى تقدر بـ 15 حملاً. ومن خلال حفريات المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان في اليمن بين عامي 1950-1952م بقيادة وندل فيلبس, والتي عملت تنقيبات أثرية في بيحان (تمنع, حيد بن عقيل, هجر بن حميد) التابعة لمملكة قتبان, وفي مأرب مملكة سبأ جاء في وصفه: كانت مقبرة تمنع في حيد بن عقيل مصدراً طيباً للدخل لبعض البدو لمدة طويلة من الزمن.. كانت القطع الأثرية تباع في الأسواق منذ سنوات عدة قبل عمل البعثة الأمريكية بالحفريات الأثرية, عن طريق البدو الباحثين عن الكنوز. كان هؤلاء يحفرون في الرمال في المناطق الأثرية فيخرجون بقطع جميلة ذات قيمة, وتوجد في عدن مجموعة ممتازة من هذه القطع الأثرية يملكها تاجر هندي ثري يدعى كيكي منشرجي, وكان التاجر قد عرض هذه المجموعة على متحف إفريقي مقابل مائة ألف دولار. وقد تحققت شكوكنا أن معظم القطع الأثرية الموجودة لدى جامعي الآثار إنما استخرجت من تمنع... ولعل الكثير من القطع الأثرية قد أخذت من المقبرة في حيد بن عقيل.

بعد عودة وندل فيلبس من رحلته إلى مصر عاد في بداية عام 1951م إلى اليمن, وعند وصوله إلى بيحان طلب منه الشريف حسين (مسئول بيحان آنذاك) طلباً من 15 نقطة منها تسليم جميع الذهب والفضة التي تكتشفها البعثة. ثم اتفق على تقسيم المكتشفات الأثرية على أن يتم التقسيم بمعدل النصف لكل فريق. وأثناء وجود وندل فيلبس في تعز حيث سُمح له بالتنقيب في مأرب بعد التوقيع على اتفاق بينه وبين الإمام أحمد بتوقيع محمد البدر ابن الإمام ( لم يتضمن الاتفاق مسألة تقاسم المكتشفات الأثرية التي يعثر عليها أثناء التنقيب). كتب العقد عدنان ترسيسي مساعد الإمام للترجمة.

موقف الحكومة اليمنية

أما موقف الحكومة اليمنية من الحق العلمي لبعثات التنقيب وكذلك نقل الآثار والاتجار بها والعقوبات المترتبة على سرقة الآثار وإتلافها فجاء, من خلال قانون الآثار بموجب القرار الجمهوري بالقانون رقم (21) لسنة1994م بشأن الآثار,ويتضمن القانون مواد منها:

مادة (27): يكون للجهة المنقبة الحق في الملكية العلمية لنتائج الحفائر التي تجريها, كما أن لها أيضاً الأسبقية في نشر هذه النتائج, وتعتبر جميع الآثار التي يعثر عليها المنقبون ملكاً للدولة, ويجوز منح الفريق المنقب أو البعثة حق أخذ قوالب للمنقول منها واستنساخها لأغراض غير تجارية شريطة ألا يسبب ذلك أي تلف أو تشويه للأثر.

مادة (29): يحظر الاتجار بالآثار المنقولة أو التصرف في ممتلكات ثقافية وطنية المسجل منها وغير المسجل لدى الهيئة (الهيئة العامة للآثار) أو نقل ملكيتها خلافاً لأحكام هذا القانون.

مادة (33): يحظر تصدير الآثار ومع ذلك يجوز بقرار من رئيس الهيئة التصريح بالتصدير للعينات الأثرية والثقافية والطبيعية بغرض التحليل وبقرار من الوزير (وزير الثقافة) للمواد الأثرية والثقافية والطبيعية بغرض التحليل والصيانة والترميم, أو لغرض الإعارة المؤقتة وفقاً لنماذج خاصة يصدر بها قرار من الوزير بعد اتخاذ جميع الإجراءات القانونية.

مادة (34): على السلطة الأثرية الاستفادة من الاتفاقات والمعاهدات وتوصيات المؤسسات الدولية لاستعادة الآثار المهربة إلى خارج الجمهورية وأن تساعد كذلك على إعادة الآثار الأجنبية بشرط المعاملة بالمثل.

مادة (35): يحظر على السلطة الأثرية إهداء الآثار إلا في أضيق الحدود ولتحقيق مصلحة عامة, وبشرط أن يكون الأثر منقولاً ومسجلاً, ومما يمكن الاستغناء عنه لوجود ما يماثله من حيث المادة والصنع والدلالة التاريخية والقيمة الفنية ويتم ذلك بقرار من مجلس الوزراء بناء على عرض الوزير (وزير الثقافة).

مادة (39): يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة, أو بغرامة لا تقل عن(20.000) ريال, أو بالعقوبتين معاً كل من: هدم أو أتلف عمداً أثراً أو مبنى تاريخياً أو شوه - أو غير - أو طمس معالمه أو فصل جزءاً منه أو اشترك في ذلك, أو سرق أثراً أو جزءاً من أثر مملوك للدولة أو تعمد إخفاءه أو اشترك في ذلك, مع الحكم بمصادرة جميع الأشياء المستخدمة في تنفيذ الجريمة لصالح صندوق دعم الآثار.

إن تخريب الآثار كان ولا يزال ظاهرة عالمية, وليست مقصورة على اليمن, بل الآثار اليمنية نفسها قد مرت بفترات حرجة في تاريخها كزمن الحروب الطويلة الضارية بين سبأ وحمير في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد, أو فترات أخرى مثل الغزو الحبشي في القرن السادس الميلادي, أو دخول الأتراك اليمن في القرن السادس عشر والقرن التاسع عشر, أو فترة معارك الدفاع عن الثورة اليمنية في (1962م), وحرب التحرير حديثاً, كل ذلك حدث في اليمن وفي كثير من بقاع العالم, كما أن سرقة الآثار تمت في كل من متحف القاهرة ومتحف اللوفر في باريس ومتاحف إيطاليا. وليس اليمن هو البلد الوحيد الذي يُتاجر بآثاره, بل إن التنقيب علمياً هو بحد ذاته تدمير للآثار, إذ إن الحفر مهما كان هو عبث بطبقات الموقع الأثري.

نشر في صحيفة الشرق الأوسط خلال شهر أبريل سنة 2003م موضوع صحفي عن اعتراض السلطات السعودية, على الحدود مع اليمن, تجار سرقة آثار يمنية ومعهم إحدى وثلاثون قطعة أثرية, ومن ثم تم حجزهم وإرجاعهم إلى السلطات اليمنية وهذا جاء ترجمة لما نصت عليه المادة رقم (34) من قانون الآثار اليمني. كما نشر في صحيفة الثورة الصادرة في صنعاء يوم الخميس 29 صفر 1424هـ الموافق 1/5/2003م موضوع استعادة آثار يمنية من لندن, حيث تمكنت السفارة اليمنية في لندن من استعادة قطعتين أثريتين عرضتا للبيع في مزاد علني بأحد مزادات لندن الشهيرة, وهما عبارة عن شاهدي قبرين أحدهما يعود تاريخه للقرن العاشر الهجري, والآخر للقرن الحادي عشر. وقد تم تهريبهما إلى لندن بعد الاستيلاء عليهما من مقبرة قديمة في مدينة صعدة. ذلك أن القوانين في الجمهورية اليمنية وبريطانيا وغيرهما من دول العالم تحرم بيع الآثار والتحف التي تعتبر ثروة وطنية, كما أنها تعاقب بشدة من يقدم على ذلك. وتقوم السلطات اليمنية ممثلة بالهيئة العامة للآثار والجهات الأمنية بمراقبة محاولة تهريب الآثار واسترجاعها من منافذ اليمن إلى الخارج.

مميزات الفن اليمني القديم

إن أقدم نماذج النحت اليمني تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد, وهي شواهد القبور التي ظهرت في حضرموت بأسلوب نحتها البدائي في تشكيل معالم الوجوه واللحية الكثة والأذرع المحورة, وأهم ما تتميز به هو وجود خناجر ذات طرف حاد ومقبض ينتهي برأس هلالي الشكل ويليها التماثيل الحجرية فاقدة الأرجل, سطوحها وجوانبها نحتت بأسلوب تكعيبي بدائي, وملامح الوجوه فيها لا تظهر بوضوح, كما أن نسب الجسم غير متناسقة وتأتي بعدها الدمى الطينية التي عملت بأصابع اليد في تشكيل الرأس والوجه المستدير, وتسطيح أو تدوير الجسم, بأطراف قصيرة, وهي إما واقفة أو جالسة, تتصف بعجز واسع, وقد أضيفت لبعضها قطع طينية للدلالة على خصال الشعر أو القلائد التي عملت أيضاَ بأشرطة مثقوبة أو خطوط محززة, ويستدل إلى العيون والأثداء بثقوب أو قطع بارزة ومنها ما يتشابه بما وجد على دمى طينية في بلاد وادي الرافدين, والتي تمثل آلهة الخصب ورمز الأمومة.

وتأتي التماثيل البرونزية لتعطي انطباعاً على مدى التطور الذي وصلت إليه في المحافظة على نسب أجزاء الجسم, ذلك أنها اختلفت في تشكيلها عن التماثيل الحجرية من حيث عملها في قوالب برونزية وجاءت معبرة لسمات الشخصية اليمنية لتماثيل الذكور والإناث, وكان للفنان الحرية في وضع الأيدي وابتعادها عن الالتصاق بالجسم, ودلت ملامح الوجوه على دقة تمثيلها لتحاكي الشكل الطبيعي, وإظهار الابتسامة على محياها باستثناء تمثال معدي كرب الذي يبدو عليه الصرامة كما في التماثيل الحجرية وقد أفرد تمثال معدي كرب قدمه اليسرى لتتقدم على اليمنى وهو الوضع في تمثال برونزي لرجل.

وتتميز النماذج الأنثوية ذات النحت النصفي البارز على ألواح حجرية, بأنها تعد أدق ما أنتجه النحات اليمني القديم في شكل الرأس وملامح الوجوه وإبراز الصدر وتقنية القلائد وشفافية الثوب, ولهذه الألواح أهمية دينية.

وفي شواهد القبور السبئية ترتدي النساء أثواباً طويلة تصل إلى القدمين,على شكل طيات ملتفة, ويبدو الثوب على النصف العلوي المنحوت للمرأة بتشكيل متقن دقيق شفاف وقد يمثل عند فتحة الرقبة على شكل أشعة الشمس مع إظهار مواضع التكفيت وطرف الأكمام القصيرة بالإضافة إلى الملابس فقد شكلت الأحذية لبعض النماذج أنواعاً منها على شكل حذاء ذي مشبك أو حذاء يغطي كامل القدمين , من المحتمل أنه عمل للمتوفى صاحب شاهد القبر وهو الحذاء الذي وجد بجانب المومياوات المكتشفة في اليمن.

واختلفت تسريحات الشعر بين نماذج الذكور والإناث, ففي التماثيل الأنثوية ذات النحت التكعيبي البدائي, عملت تركيبات مقصوصة على جانبي الرأس وحصل تطور في بعضها لتصبح التسريحة طبيعية, وفي التماثيل ذات النحت المدور منها ما عمل الشعر على شكل إكليل مضفور أو أرسلت تسريحات الشعر للخلف كما في نماذج التماثيل الأنثوية البرونزية, أو يصفف ويشد للخلف وقد يعمل على شكل طاقية بخصلات مضفورة مركزها وسط الرأس, كما في نموذج تمثال معدي كرب والذي عملت له أيضاً لحية من خصل مجعدة مصفوفة.

وتميزت الأشكال الهندسية بأنها عملت على كتل حجرية كتصميمات هندسية محورة, تمثل مباني مقدسة, بما فيها من أبواب والنوافذ وشبابيك واسعة وضيقة, تحيطها إطارات مستطيلة الشكل وعقود, مدببة مثلثة مقوسة ترتفع فوق الأبواب.

يرافق هذه العناصر المعمارية رموز دينية, إلى جانب أعمدة ومباخر متنوعة ومختلفة بها أشكال هندسية, والتي تظهر فيها دقة وبراعة النحات في تشكيلها وتنفيذها وإخراجها, محافظاً على نسبها الهندسية وصقل مسطحاتها حتى وإن تكررت في أوجه الكتل الهندسية. إن النحات اليمني القديم قد اتبع في نحت نماذجه طرائق وأساليب خاصة به وقد تنوعت وتعددت تفاصيل النحت, ومع ذلك فإن للنحات اليمني أسلوباً متميزاً ومعبراً عن خصوصية الحضارة اليمنية القديمة.

 

محمد عبد الله باسلامة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




تميزت الأشكال الهندسية الأثرية اليمنية بأنها عملت على كتل حجرية كتصميمات هندسية محورة, تمثل مباني مقدسة بما فيها من أبواب ونوافذ





ظهرت تماثيل حجرية بأوضاع واقفة وجالسة ذات صفة دينية خلال الألف الأول قبل الميلاد في اليمن





جاءت التماثيل البرونزية معبرة لسمات الشخصية اليمنية ودلت ملامح الوجوه عن دقة تمثيلها لتحاكي الشكل الطبيعي وإظهار الابتسامة على محياها





اقدم نماذج النحت اليمني تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد, وهي شواهد القبور التي ظهرت في حضرموت بأسلوب نحتها البدائي