التنقيب الأثري في سوريا تاريخ من الاستيلاء والنهب والتهريب أيضاً سعاد مكرم

التنقيب الأثري في سوريا تاريخ من الاستيلاء والنهب والتهريب أيضاً

محض مصادفة قادت أحد المزارعين إلى نزع حجر من سقف مقبرة قديمة عند قرية (رأس شمرا) الواقعة شمال مدينة اللاذقية في سوريا, ليكون عام 1929 بداية الطريق إلى كشف قبر قرب ميناء كان مجهولاً, تبين لاحقاً أنه مرفأ مدينة أوغاريت, التي كانت مزدهرة بالحياة في القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد. سرعان ما أرسلت سلطات الانتداب الفرنسي نبأ الاكتشاف إلى متحف اللوفر وأكاديمية المخطوطات والآداب في فرنسا, أعقبه إرسال حملة أثرية بقيادة كلود شوفريه لتحفر في مكان تغطيه الأشواك الكثيفة وتغزوه الأفاعي والعقارب. خلال شهر من البحث والتنقيب ظهر الكثير من الأنفاق, عثر فيها على ألواح طينية بينها رقيم مكتوب عليه نص طويل بالخط المسماري, حوالي 29 إشارة. هكذا تم اكتشاف أول وأقدم أبجدية عرفها العالم حتى الآن.

كان من شأن نتائج التنقيب في (رأس شمرا) أن تغير الكثير من الحقائق التاريخية التي سبقتها بخصوص الحضارات الإنسانية التي انطلقت من بلاد الشام والعراق, ومع أن ذلك الحدث لا يعتبر الأول في مسيرة التنقيب الآثاري في سوريا, إلا أنه, وكما يعتبره الباحثون, الأهم على الإطلاق. علماً أن التنقيب الأثري بدأ في الشرق منذ القرن الثامن عشر حين كان تحت الحكم العثماني, وتنافست عليه كل من فرنسا وبريطانيا. في ذلك الحين أخذت بعض آثار الشرق تصل إلى أوربا, ومعها شيئاً فشيئاًً, بُدئ بنشر أبحاث عن الأطلال واللقى السطحية واللغات القديمة; منها مساهمة الأب بارتملي الفرنسي عام 1754 بفك رموز الكتابة التدمرية, والألماني غروتفند عام 1802 بتفسير المسمارية الفارسية. وزاد في تلك الفترة الاهتمام بطريق الهند والمواصلات بين البحر المتوسط والخليج العربي, وتوطد التمثيل الدبلوماسي الغربي في الشرق. فنشأ في قلب الإرساليات الفرنسية والبريطانية نوع من الدراسات الشرقية عُرف باسم: آسيريولوجي.

استيلاء وإهداء

إلا أن عمليات التنقيب آنئذ, كانت غير منهجية, والحفريات تقلب المواقع الأثرية رأسا على عقب, ولا تهتم إلا بالكتابات والمنحوتات الضخمة المهمة, كما كانت رهناً للنزاع الإنجليزي الفرنسي وأهداف السيطرة الاستعمارية, فأخذت صفة التسابق التي سيساهم بها المغامرون من أهل المنطقة وخارجها. كما يربط الباحث عدنان البني في كتابه (التنقيب الأثرى الحديث) بهذه الفترة الحملة الفرنسية على لبنان إثر حوادث 1860 ونشاط أرنست رينان المفكر الفرنسي المعروف, على الساحل السوري, وافتتاحه ما يعرف باسم الدراسات الفينيقية.

هذه المرحلة المضطربة من التنقيب الأثري حققت بعض الفوائد العلمية, أحدها تنبه الغرب إلى الحضارات العريقة الموجودة في الشرق ومحاولة اكتشافها وإلقاء الضوء عليها, لكنها من جانب آخر شوهت الكثير من المواقع الأثرية وقلبت طبقاتها دون التوصل إلى معلومات أقدم من الألف الأول قبل الميلاد, هذا ناهيك عن ترحيل المكتشفات إلى المتحف البريطاني ومتحف اللوفر الفرنسي, ومن ثم متاحف أوربا عموماً وبعدها أمريكا. حتى أن الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى كانت الأكثر نشاطاً في تصدير الآثار السورية, وكانت في أواخر سنوات السلطنة العثمانية, إذ لم تفعل هذه السلطنة شيئاً تقريباً في ميدان الآثار إلا التسهيل للقناصل الأجانب, تحت حماية الحصانة الدبلوماسية في زيادة المجموعات الأثرية المشتراة بأبخس الأثمان أو النهب بلا مقابل.

ومن الأمثلة المؤسفة, لوحة القانون المالي التدمري, التي سمحت فيها السلطة العثمانية للأمير الأرمني الروسي اباماليك لازاريف بتقطيعها عام 1882 ونقلها إلى متحف الأرميتاج ببطرسبرغ, وكذلك المجموعة النادرة من المنحوتات التدمرية التي أخذها قنصل الدنمارك إلى متحف لي كارلسبرج في كوبنهاجن, وتماثيل عمريت التي تسربت إلى قنصل فرنسا في طرابلس, والتحف النادرة التي قدمت هدية للملك غليوم الأول خلال زيارته البلاد السورية...إلخ.

القانون المتساهل

الدكتور تمام فاكوش المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا يتحدث عن القوانين المعمول بها في تلك المرحلة التاريخية بخصوص التصرف بالآثار وتطور قانون الآثار السوري لاحقاً: كان هناك قانون عثماني ينظم العمل بالآثار, يوجب على بعثات التنقيب الحصول على الموافقة بالحفر صادر من الآستانة, إلا أن هذا القانون كان يجيز للبعثات أخذ كل اللقى التي تجدها, لذلك حصل تكالب عليها من بعثات التنقيب, بالإضافة إلى القنصليات الأجنبية التي تم افتتاحها في المدن السورية. وكل اللقى التي اكتشفت في ذلك الوقت أصبحت في عهدة الدول الغربية, وأكثر القطع الأثرية الموجودة اليوم في المتاحف الفرنسية والإنجليزية والألمانية أخذت في الفترة العثمانية. في عهد الانتداب الفرنسي, أسست عام 1924 أول دائرة للآثار في سوريا ولبنان وكان مركزها بيروت. علماً أنه في عام 1920 صدر قانون للآثار في سوريا يستند إلى القانون الفرنسي, نظم موضوع البعثات الأثرية, فقسم اللقى الأثرية تقريباً 50 % لبعثة التنقيب و50 % لسوريا, ولم يكن التقسيم حسب القيمة العلمية والتاريخية بل حسب ما تراه البعثة, فلم يكن هناك تكافؤ في القسمة. هذا بالإضافة إلى أن الاتجار بالآثار كان مسموحاً به, أي أنه يمكن تداول الآثار شراء ومبيعاً وإهداء وتبادلاً على أن تأخذ كل قطعة ترخيصاً من المتحف, ويتم تسجيلها فيه, كما يكون للمتحف حق الشراء أولاً, فإذا لم يشترها, يسمح لصاحب القطع أو مقتنيها ببيعها لمن يشاء. استمر هذا القانون حتى منتصف الخمسينيات عندما منع الاتجار بالآثار, وتم إقرار قانون الآثار السوري بشكله الراهن عام 1963, بعد قيام ثورة مارس (آذار) مع تعديلات كثيرة طرأت عليه آخرها كان عام 1999.

رد فعل على السرقة

ومع أن قرار منع الاتجار بالآثار تأخر بعض الشيء, فإن ثمة باحثين وعلماء وطنيين بذلوا جهوداً حثيثة, للحد من نقل الآثار إلى الغرب في فترات مبكرة من القرن العشرين, فجمعية (العاديات) ومقرها حلب, نشأت كرد فعل على حادث اعتداء على الآثار, تمثل بإقدام الجنرال الفرنسي (فيفان) حاكم حلب العسكري على تفكيك المحراب الخشبي الجميل الذي يعود إلى فترة نور الدين الزنكي القرن 12 م من جامع الخليل في قلعة حلب وسرقته في وضح النهار ونقله إلى بيته في فرنسا. ويروي الأستاذ محمد القجة رئيس جمعية العاديات, قصة تأسيس الجمعية 1924, إثر تداعي مجموعة من الغيورين من أبناء حلب إلى تشكيل لجنة للمطالبة بحماية القلعة وآثارها واسترداد المحراب المسروق, سميت آنذاك (جمعية أصدقاء القلعة), وتمكنت الجمعية من استصدار مرسوم بإنشاء متحف حلب, فأصبح اسمها (جمعية أصدقاء القلعة والمتحف), وفيما بعد (جمعية العاديات). ويتابع الأستاذ قجة: ارتبطت نشأة الجمعية بحادث سطو آثاري, قام به هاوٍ لسرقة الآثار, لكن المحراب لم يعد حتى اليوم; مثله مثل باقي الآثار التي سرقت أو بيعت أو أهديت في ذلك الزمن, رغم ما يقال اليوم بأنها ذهبت إلى الغرب بطرق شرعية, دون أن يحد من تسربها إنشاء متحف دمشق 1917 كأول متحف في سوريا, وكان مركزه المدرسة العادلية القائمة في المدينة القديمة اليوم.

لا تزال المتاحف العالمية في برلين وباريس ولندن... وغيرها تعرض وتوثق القطع السورية ولا يوجد سيناريو لاستردادها اليوم حسب تعبير الدكتور تمام فاكوش والسبب كما يعتقد: عدم وجود اتفاقية واضحة ملزمة بإعادة الآثار إلى موطنها, إلا أن ذلك لا ينفي الجهود والمحاولات التي يسعى إليها السوريون من خلال مناقشات وحوارات ومباحثات لاستعادة أجزاء من تلك القطع; مثلاً, إعادة الدانمارك بعد مشاورات ومن تلقائها, أجزاء من تمثال أسد آرامي بازلتي, تم وضعه في متحف حماة, ساعدت الدانمارك على نقله وترميمه. وأيضاً وجود مجموعة آثار لدى الألمان من تل حلف في منطقة رأس العين في شمال شرق سوريا, بينها أجزاء تمثال من الفترة الآرامية (أسد بازلتي من الألف الأول قبل الميلاد), الأجزاء الأخرى موجودة لدينا, لذلك ومنذ مدة نجري مع الألمان مباحثات تهدف إلى جمع الأجزاء كاملة وترميمها وإعادتها إلى سوريا.

ويتابع المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا: نحن نحرص على تلك الحوارات من أجل المطالبة بإعادة ما يمكن إعادته من القطع السورية في الخارج, على الأقل القطع المكررة أو حتى النادرة, لذلك هناك فكرة لإقامة ورشة عمل مشتركة مع الإخوة المصريين في الهيئة العامة للآثار والمتاحف, للاستفادة من نشاطهم في هذا المجال, وما حققوه بهذا الخصوص.

ومن جانب آخر, وقعت سوريا على اتفاقية باريس لحماية الممتلكات الثقافية للدول وإعادتها إذا كانت مسروقة, أو نقلت بشكل غير شرعي إلى خارج البلد المعني بهذه اللقى. وسوريا تتعاون مع الهيئات الثقافية الدولية ومنظمة اليونسكو و الأنتربول لضبط عمليات التهريب الناتجة عن التنقيب العشوائي, أو عمليات نقل قطع أثرية عائدة لدول مجاورة قد يمررها المهربون (ترانزيت) عبر سوريا. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الحوادث ليست كثيرة, ومع ذلك نحن بصدد إعادة العديد من الآثار السورية المهربة بطرق غير شرعية إلى الخارج, مثل القطع التي صودرت في ألمانيا, وخمس لوحات فسيفسائية صودرت في كندا والولايات المتحدة وأعيدت كاملة, عبر الطرق الدبلوماسية التي كان لجاليتنا السورية وقنصلياتنا وسفاراتنا في البلدين دور نشيط في إعادتها.

حماية أهلية

لم تشهد بدايات التنقيب في سوريا كثافة, لكن تهريب الآثار كان نشطاً, وهناك الكثير من الآثار يذكرها السوريون بحسرة, خاصة ما دُمر منها في الحروب كالكنوز السورية التي احترقت في متحف برلين أثناء الحرب العالمية الثانية. ومن المحزن جداً رؤية آثار سوريا في متاحف الغرب فقدت في ظل غياب الوعي بالقيمة التاريخية والعلمية لهذه الثروة الوطنية. جهدت جمعية العاديات في حلب كواحدة من الجمعيات الرائدة في نشر الثقافة الآثارية وحماية الأوابد التاريخية, ولا تزال حتى اليوم أقدم جمعية أهلية تقوم بمهمة أخذت على عاتقها القيام بها, ليس على صعيد الحد من تهريب القطع إلى الخارج, بل حماية الآثار الثابتة من المشاريع التوسعية التي طرأت على مدينة حلب. يذكر الأستاذ محمد قجة بعض ما قامت به الجمعية عبر تاريخها, فعلى سبيل المثال, عملت على إيقاف استكمال مشروع باب الفرج وهو المشروع الذي اتخذ بناء على قرار كان خاطئاً منذ البداية, وأدى إلى هدم مبان أثرية وجزء من سور حلب الأيوبي. ولولا تدخل الجمعية لكان المشروع قد أخذ أبعاده بفتح شوارع عريضة في المدينة القديمة, باتجاه الشرق لهدم حي البياضة, وباتجاه الشمال لهدم حي الجديدة. ولو حصل ذلك لحلت كارثة تاريخية بمدينة حلب.

ومن المساعي الناجحة للجمعية استعادة شباك الأنصاري, وهو شباك حديدي من العصر الأيوبي ذو زخارف عجيبة, قام بسرقته أحد الضباط الفرنسيين. كما يشير رئيس الجمعية إلى منبر الجامع الأقصى في القدس, وهو منبر حلبي صنع أيام نور الدين الزنكي, حمله صلاح الدين الأيوبي من حلب إلى القدس, وبقي هناك حتى أحرقه مجرم صهيوني عام 1969, وقد دعت جمعية العاديات إلى تشكيل لجنة لإعادة بناء المنبر في حلب ونقله إلى القدس, فتشكلت اللجنة من أعضاء مجلس إدارة الجمعية بالإضافة إلى الشيخ محمد الحكيم والمطران كبوجي والمطران أدلبي. وكان تشكيلها بقرار من رئيس الجمهورية.

وكان للجمعية أياد بيضاء في إيقاف عشرات المحاولات للاعتداء على الدور والخانات والأسواق الأثرية, من خلال السعي لدى المسئولين لحمايتها, كما أن الجمعية ممثلة في سائر اللجان المشكلة لهذا الغرض. وأثمرت مطالبتها إزالة المسرح الهجين الذي تم بناؤه في قلعة حلب بشكل مخالف لكل الأعراف الآثارية, حيث تقرر إزالته قريباً.

خرجت ولم تعد

على صعيد آخر تلح جمعية العاديات على إعادة واجهة متحف حلب التي تمثل مملكة تل حلف الآرامية من متحف برلين, لأن الواجهة الموجودة في متحف حلب ليست أصلية, وإنما شبيهة بها. كما يوجد في متحف كوبنهاجن قطع مهمة من تل حلف, وكذلك في متحف استنبول وكلها تعود للقرن العاشر قبل الميلاد. أما الأثر الأكثر جمالاً فهو (الغرفة الحلبية) المصنوعة من الخشب في متحف برلين حيث تم شراؤها في ظروف غامضة عام 1912 ولا يزال مكانها شاغراً في بيت وكيل في حلب, وتعتبر هذه الغرفة من نفائس الفن الإسلامي.

ورغم الأهمية الكبيرة التي تعطى للقطع السورية التي خرجت بطرق يدعى أنها شرعية, فهناك من الباحثين من لا يقيس أهميتها بما جرى اكتشافه لاحقاً, لكونها تعود بالأساس إلى فترة التنقيب المضطربة السطحية غير الممنهجة, إذ يرى الباحثون أنه مع بداية عقد السبعينيات بدأ نشاط التنقيب الأثري في سوريا يأخذ منحى بحثياً مهما منذ ظهرت الدراسات الأولية المتعلقة بمشروع بناء سد على نهر الفرات لري أكبر مساحة ممكنة من الأراضي البعلية وتوليد الكهرباء, ما استدعى القيام بدراسات وأبحاث عن المناطق التي سيشملها الغمر, مما سيؤدي إلى ضياع الكثير من التلال المختفية تحتها مدن الحضارات القديمة, فكانت المبادرة إلى بذل جهد دءوب لدراسة طبقات المنطقة وتاريخها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه, وما إن تقرر بناء السد في منطقة الطبقة, حتى بدأت عشرات البعثات تفد إلى المنطقة لتحري واستطلاع المواقع الأثرية عام 1963 واستمرت حتى 1964 شارك فيها سوريون وأمريكيون يعود لهم الفضل في اكتشاف حوالي 56 موقعاً ضمن حدود منطقة الغمر, واكتشف وجود عدد آخر من المواقع الأثرية في نفس المنطقة. وكان لطلب الحكومة السورية مؤازرة دولية لإنقاذ الآثار,صدى إيجابي واسع. واشتركت في الحملة الدولية بعثات من مختلف الجنسيات, وأعطت نتائج مهمة ومثمرة في منطقة يعود تاريخ السكن فيها إلى 8500 ق.م, في موقعي المريبط وأبي هريرة.

نحو قانون موحد

أوقف القانون السوري منذ عام 1949 قسمة اللقى, ومنع الاحتفاظ بأي قطعة من قبل بعثات التنقيب مقابل حق البعثات بالتنقيب والاكتشاف والتوثيق والتسجيل والنشر والبحث العلمي, لتصبح كل المكتشفات حقا لسوريا.

ويؤكد الدكتور تمام فاكوش: إن قانون الآثار السوري شديد وينظم بوضوح عمليات التنقيب والاتجار والتداول والحفاظ على الآثار, وقد أبدى المشاركون إعجابهم به خلال ندوة أقيمت حديثاً في طرابلس بلبنان حول قوانين الآثار العربية والمديريات العامة للآثار والمتاحف والهيئات المعنية بالشأن الأثري والثقافي العربية, وتم إجراء مباحثات وتبادل الأفكار في ورشات عمل الندوة من أجل الإعداد لصياغة قانون آثار عربي موحد, لتكون القوانين على الأقل في الدول المجاورة الأردن ولبنان والعراق مماثلة للقانون السوري في حدوده القوية والضابطة والناظمة للحفاظ على الآثار الوطنية. ونحن في المديرية العامة ووزارة الثقافة بصدد تعديل مواد قانون الآثار ليتواكب مع التطور العلمي والاجتماعي والثقافي والفكري وحتى السياسي الذي نعيشه في سوريا, بما يتوافق مع التراث والهوية الثقافية الوطنية والقومية.

ومع أن سوريا تبذل جهدها للحفاظ على ثرواتها الآثارية الغنية المنتشرة في كامل أنحاء الأراضي السورية التي تبلغ مساحتها حوالي 185 ألف كيلومتر, تجد صعوبة في الحد من عمليات التنقيب العشوائي التي يقوم بها المواطنون في ممتلكاتهم, وهو ما حاول القانون ضبطه من خلال النص على أن من يساعد على إيجاد أثر ذي قيمة, أو يجد في أرضه أثرا ذا قيمة, أو بحيازته أثر ذو قيمة, ويسلمه للسلطات المختصة ضمن الشروط الموضوعية, يمنح مكافأة مادية بغض النظر عن جوهر هذا الأثر; وتقدر قيمته المادية من قبل لجان مختصة, وإذا كانت له قيمة كالذهب أو الفضة فيحصل على نسبة لا تتجاوز 20 % من قيمة هذا الأثر. كما وضعت عقوبات قاسية على كل من يقوم بتهريب الآثار بالسجن لمدد تتراوح بين 10 و25 عامًا.

انتهاك التاريخ

لكن الصعوبة البالغة في الحفاظ على الآثار, تتبدى في المناطق المحتلة, ففي تقرير صادر عن وزارة الثقافة السورية أن المواقع الأثرية والتاريخية والحضارية القديمة في الجولان السوري المغتصب, تعرضت لعمليات نهب وتدمير منظمة وواسعة خلال السنوات الثلاث الأولى من قبل السلطات الإسرائيلية, فقد بادر الإسرائيليون إلى سرقة الكنوز والمواقع الأثرية المهمة في مدينة بانياس والحمة وفيق والعال ورجم فيق وخفين, واستخدموا الآلات الثقيلة في جرف معظم المواقع الأثرية, الأمر الذي عرضها للتلف والتدمير دون وازع علمي أو حضاري, وأكد التقرير أن (إسرائيل), أقدمت على سرقة آثار الجولان منذ العام 1967 خاصة تلك الآثار التي كانت موجودة في مدينة القنيطرة المحررة, حيث أقدمت على سرقة وتفكيك الموجودات الأثرية في المباني القديمة والحديثة ونهب محتوياتها. حتى أن جنود الاحتلال سرقوا القطع الرخامية من الجوامع والكنائس, وتم تحويلها إلى خنادق وحواجز عسكرية, كما قاموا بنقل مواقع أثرية بكاملها إلى داخل فلسطين المحتلة, وقد اختفت تماماً, علماً بأنها مدونة كمواقع أثرية وحضارية من قبل منظمات دولية. واتهم التقرير سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتدمير مدينة الرقيد ذات المباني التاريخية التي تعود إلى العصرين الروماني والبيزنطي والعصور الوسطى, مشيراً إلى قيام (إسرائيل) بسرقة أرضية كنيسة من العصر البيزنطي, ذات تركيبة فسيفسائية, إضافة إلى هدم منازل البلدة. وأيضاً تدمير قلعة في الجولان يعود تاريخها إلى 1106م, وتدمير مدينة كفر حارب وعشرات البلدات والمواقع الأثرية الأخرى, وكشف التقرير أن الاحتلال, يقوم حاليا بسرقة المواقع والكنوز الأثرية القديمة الموجودة في سفوح جبل الشيخ, ورصد التقرير قيام الخبراء (الإسرائيليين) بالتسلل إلى المغارات الموجودة في المنطقة, بحثا عن الكنوز الأثرية النادرة.

حول ما حدث ويحدث في الجولان, أوضح الدكتور تمام فاكوش: بعدما رفعنا شكوى إلى اليونسكو والأمم المتحدة, عارضت منظمة اليونسكو خرق إسرائيل للاتفاقات الثقافية الدولية التي تحظر التنقيب في الأراضي المحتلة, من قبل المحتلين وتضمن حقوق أصحاب الأرض الحقيقيين في الجولان وآثاره, لكن مع الأسف تستمر إسرائيل في اغتصابها لهذه الآثار, وعزو سرقاتها إلى أنها آثار عبرانية وهذا غير صحيح إطلاقاً, ومن المضحك أن إسرائيل عندما تكتشف في الجولان معبدا رومانيا أو بيزنطيا تقول إنه معبد يهودي.إن شاء الله بعد تحرير الجولان وإعادته إلى سوريا سنعمل على استرداد جميع القطع التي هربت إلى ما يسمى بالمتاحف في المناطق المغتصبة في فلسطين.

العمل الوطني

ما جرى في الجولان لا يتجاوز كونه فصلاً مما جرى في العراق تحت سمع وأبصار قوات التحالف, وبالرغم من التحذيرات الكثيرة التي أطلقتها منظمات وهيئات دولية من بينها جهات أمريكية غير حكومية, للحفاظ على آثار العراق, ليبقى ما حدث جريمة كبيرة اقترفت بحق أقدم الحضارات البشرية للتراث الإنساني العالمي, بل ويبدو مع كل أزمة اننا مهددون بنوايا عدوانية مغرضة تهدف لطمس الهوية الحضارية للإنسان العربي, ما لا يمكن التصدي له بسهولة, خاصة في بلدان لا تزال تعتمد في الكشف عن آثارها على الخبرات الأجنبية, وتعاني تخلفا في الوعي المجتمعي لقيمة الآثار كتاريخ ملموس. وإذا كانت سوريا قد احدثت قسماً لدراسة الآثار والمتاحف في كلية الآداب, والعمل على جعل البعثات مشتركة تحت إشراف مديرية الآثار والمتاحف بمساهمة خبراء محليين, فهي لا تزال تفتقر لمختصين محترفين بخبرة تعادل خبرة نظرائهم الغربيين. وهو ما يبرره الدكتور تمام فاكوش: لا نستغني عن البعثات الأجنبية, لأنها تقدم لنا المساعدة في عمليات التنقيب وتساعد على النشر العلمي العالمي, كما لا توجد بعثات أجنبية تعمل من دون مشاركة وطنية, فالبعثة الأجنبية بالكامل فيها ممثلون عن المديرية العامة للآثار والمتاحف, أما البعثات المشتركة فإن نصف فنييها والعاملين والخبراء فيها سوريون والنصف الآخر من الأجانب, مع الإقرار أن لا إمكان الآن لوجود بعثات تنقيب وطنية بالكامل, لأن كليات الآثار أصلاً حديثة والتقنيات التي بين أيدينا محدودة الإمكانات, ونحاول تطويرها عن طريق استخدام الأدوات الجديدة والأساليب الحديثة بواسطة تأهيل سنوي متواصل لكوادرنا الوطنية.

العقبة الأخرى والمهمة التي تواجه الآثار السورية عمليات التنقيب العشوائي, وتهريب الآثار من المواقع الحقلية والمواقع التي لم يتم التعرف عليها بعد. ففي شهر فبراير الماضي, تم ضبط حوالي 1000 قطعة أثرية بأحجام صغيرة في ألمانيا هُربت عبر سويسرا, وقدر خبراء جامعة توبينجين أن بعض القطع يعود تاريخها إلى 5000 عام مضت, والواضح أن مصدرها قبور منهوبة في سوريا. وكان أروع ما عثر عليه تكوينا زجاجيا يسمى (دياترون) قطره 15 سم ويرجع لألفي عام مضت, ويرجح أنه كان يستخدم كفانوس للإضاءة في العصور القديمة, وهو وعاء زجاجي يزين بقطع سفلي كي يكون الجزء العلوي بمعزل عن باقي الزجاج, وتدعمه بعض الفجوات, وقد قدرت قيمة تكوين زجاجي مماثل في أحد المتاحف بكولونيا بمليوني دولار.

حول هذه الحادثة أكد الدكتور فاكوش: جرت مباحثات مع الجهات الألمانية لإعادة تلك القطع بعد استكمال التحقيق في الحادث. ومعلقاً: حوادث التهريب تتم بشكل فردي وغير منظم من مناطق التنقيب العشوائي, وليس من المتاحف, وهذا ما نطمح للقضاء عليه من خلال التعاون مع الإعلام لنشر الوعي بين المواطنين, ومن خلال المدارس والمعاهد والجامعات للتأكيد على أهمية الحفاظ على الآثار كإرث وطني وقومي.

علماء الآثار يؤكدون أن مهمة الأثري كمهمة المؤرخ, هي بالأساس, البحث عن الإنسان من خلال عمليات سبر معقدة, الإنسان بالمعنى الواسع: البشر, الشعوب, المجتمعات, الإنسان كفرد, وكتل الجماهير, والصراع من أجل الارتقاء والبقاء والتفاعل الخلاق مع البيئة الطبيعية. ولعل هذا ما يجعل الاهتمام بالآثار والحفاظ عليها مسئولية وطنية عليا, تؤكدها محاولات الاحتلال, التي جعلت النيل منها في مقدمة الممارسات العدوانية على الإنسان بما يعنيه من ماض وحاضر ومستقبل.

 

سعاد مكرم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




رأس شمرا الذي اكتشف في مملكة (أوغاريت) التي كان عصرها الذهبي في الإدارة والثقافة والدبلوماسية والقانون والدين والاقتصاد ما بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر قبل الميلاد





مقطع من الغرفة الحلبية المصنوعة من الخشب, والموجودة في متحف برلين, بعد شرائها في ظروف غامضة من بيت وكيل في حلب





أكثر القطع الأثرية الموجودة اليوم في المتاحف الفرنسية والإنجليزية والألمانية أخذت في الفترة العثمانية. في الصورة ربة الموسيقى أونينا





الحصان الخزفي, قطعة نادرة من التراث الوطني السوري يعود للألف الثاني قبل الميلاد