محمد الأسعد وراشد دياب

محمد الأسعد وراشد دياب
        

أحاسيس لونية جديدة
في الإيقاعات والرموز والثقافة

          في هذا الحوار / المواجهة يلتقي اثنان، رسام هو الفنان التشكيلي السوداني راشد دياب، وكاتب وروائي فلسطيني هو محمد الأسعد. الأمر ليس مواجهة بين اثنين يتقاطعان في درب الفن بل رحلة استكشاف مشتركة، فأحدهما يجرب ويختبر نوعًا من الأحاسيس الجديدة في عالم التشكيل منذ صغره، مرورًا بدراسته في كلية الفنون الجميلة في الخرطوم، ثم بدراسته في الجامعات الإسبانية، وصولا إلى عودته إلى السودان تاريخًا وفنًا وحضارة، نقطة التقاطع هنا ربما كانت في إشارة «خوسيه لويس كاراسكوس» أستاذ الفلسفة في جامعة برشلونة إلى فن راشد دياب «الذي يأخذ شكل الشعر» أو في إشارته إلى درب الفن «الذي فقد وعثر عليه مرات ومرات».

  • النيل الأزرق... والمقبرة... والقطارات المسافرة.. علامات ثلاث ساهمت في تكويني
  • أبحث عن القيمة اللونية في كل شيء.. ومازلت أواصل البحث
  • علبة الألوان طاقة مختزنة تبحث عن مساحة.. وأفكارها هي التي تمنحها الساحة أو تعجز

 

  • حين أنظر إلى لوحاتك أراك تستكشف عالما من الألوان والأحاسيس، تولد معك وتولد معها، وتقودني إلى مساحات تبدو مجردة أحيانًا، ومشخصة في أحيان كثيرة، وعوالم مبتكرة لا ينكر طابعها الفريد، من أين أنت إذا أردنا أن نبدأ في استكشاف عناصر هذا الطابع الخاص؟

          - ولدت في منطقة اسمها «واد مدني» في السودان، وهي مدينة قريبة من الخرطوم تقع على النيل الأزرق، وفي حي من أحيائها كان له تأثيرٌ كبيرٌ على وجودي. كنا نسكن منطقة تتوسط بين سكة حديد والنيل الأزرق، وخلف بيوتنا مباشرة تقع مقابر قديمة مهجورة.

          في صغرنا كنا نلعب في هذه المقبرة ونسمع طيلة اليوم أصوات القطارات قادمة وذاهبة، من هنا كان لهذه العلائم الثلاث تأثير في تجربتي.

          السفر يحتل حيزًا كبيرًا من الذاكرة، وحبي له نابع من ذكريات استقبال القادمين والراحلين، وخصوصا الحجاج العائدين من مكة، وأعمامي وأخوالي القادمين من مناطق مختلفة من السودان. محطة القطار كانت نقطة ذهاب وإياب. لهذا أحببت السفر، وتدين تجربتي الغنية بالكثير للسفر لأنني سافرت كثيرًا جدًا، فأنا دائمًاعلى سفر منذ الثالثة عشرة من عمري. النيل الأزرق، وهو العلامة الثانية، كان حاضرًا دائمًا. في النيل تتباين الألوان وتتغير، فهو في النهار نهر من الفضة، وحين تغيب الشمس يتحول الى نهر من الذهب. كان لونه في النهار أزرق دافئًا وخفيفًا وممتعاً، وفي الخريف يتحول إلى اللون البني بسبب مياه الفيضان، ويكون النيل عنيفًا وشابًا كما في سنوات النضج، وتتخلق في حركة أمواجه دوائر وأشكال جميلة. وبعد الفيضان يعود الى هدوئه وسكونه. كل يوم كنت أذهب إليه، ويخاف الأهل عليّ من مخاطره، واعتادت أمي أن تقول قلقة : «أنت تذهب إلى البحر كثيرًا».

تحول الأشكال

  • في هذه البيئة،وضمن هذه العلامات الأولى، هل كان ثمة مايشير الى أن كل هذا يمكن أن يتحول الى عمل تشكيلي؟ أعني هل عرفتْ هذه البيئة الرسم والتصوير؟

          - في هذه المنطقة لم يكن هناك من يمارس الفن التشكيلي، وحتى التشكيل كمفهوم كان غائبًا. كانوا يعرفون أن هناك من يرسم، كنا نرسم في المدرسة، ولكن لا وجود لفنان تشكيلي ولا صالة عرض، لم أر فنانًا تشكيليًا يمكن أن اقتدي به، باستثناء فنان كان معنيا برسم الطبيعة. وحاولت الاقتراب منه في سن السادسة عشرة، وأعجبت به جدًا.

          في أسرتي لا يوجد رسام واحد، ولكن مع أول بوادر الوعي لدي، الوعي بوجودي كإنسان، أحسست بالرغبة في التشكيل. كنت اتناول أي شيء لأخرج منه أشكالا حيوانية وأعرضها على اصحابي. هذه أول تجربة ولّدت في ذهني فكرة أن الأشكال يمكن أن تتحول. بعد ذلك عرفت ُ اللون َ مع بداية حياتي الدراسية، وبدأت أرسم بالألوان.

  • يخيل إلي أنك لابد صحوت َ على نوع من الفنون التشكيلية، نمطًا من المعمار، أو تكوين الجدران والنوافذ، هذه العادات الشعبية؟!

          - لا.. كل هذه المظاهر مملة جدا، كانت أشكالاً مكرورة، أنواع العمار والكلام، لهذا هربت من السودان. حاولت الخروج وأنا في المرحلة الثانوية. ركبت القطار وسافرت الى مصر قبل المرحلة الجامعية، كنت أود الخروج ورؤية عالم آخر. كل شيء حفظته، وبسبب عادتي في التركيز استوعبت أشياء كثيرة، ضجرت من أنواع الكلام، ليس في محيط الأسرة فقط، بل في المجتمع كله. الكلام يدور في الحلقات السياسية والناس تكرر نشاطاتها اليومية.

  • من المؤكد انك كنت تقرأ في هذه الفترة.

          - أنا أقرأ، لا أستطيع النوم بلا قراءة، ولكن اكتشافي للتكرار والضجر جاء نتيجة الوعي والقراءة معًا. لقد عشت الأساطير منذ طفولتي. سمعت حكايات أمي عن الجنيات والأميرات. كل الحكايات السودانية غنية بالمفاهيم التربوية، ولكنها غنية بالخيال أيضًا، وكانت تنمي عندي خيالا واسعا. هذه مسألة مهمة يجب أن تستمر. إننا نفتقد هذه الحالة في الوقت الراهن.

          حين تحكي الأم أو الجدة الحكايات للطفل قبل أن ينام، يكون في حالة استعداد عال ليتخيل الأشياء ويراها. سرد الأساطير القديمة يخلق في الذهن رموزًا، ولولا الإحساس بالرموز والاهتمام بها لما استطاع الإنسان تشكيل معارفه. المعرفة هي مجموعة علاقات بين الأشياء والأشكال، وبالطبع تختلف المعرفة العلمية عن المعرفة الأدبية، ولكنهما في النهاية تقومان على الرموز والأساطير، رموز وجود تاريخي بعيد وطويل. 

اللوحة والتجربة الذهنية

  • أود أن أسألك عن شيء قلته قبل قليل؛ قلت إنك تحس بالحياة ويتحقق وجودك في الرسم. دعنا نتعمق في هذه النقطة. هناك أناس يحققون وجودهم في الكتابة، أو بأي نشاط آخر، كيف يمكن تحقيق الوجود بالفن التشكيلي؟ هل يعني هذا أنك حين تكتشف إحساسًا لونيًا جديدًا، أو تناغمات لونية من نوع ما، يأتيك شعور بأنك حيٌّ ملء الحياة والوجود؟

          - اللوحة هي خلاصة التجربة الذهنية للوجود الإنساني. الإنسان في كل مراحل تاريخه التي مرّ بها، من الصيد في الغابات الى الزراعة، إلى التجارة والعلم، يظل انسانًا حتى لو وصل إلى أي مكان في الكون. أعني الإنسان كقيمة. وجاءت قيمته هذه من قدرته على التخيل. لا يوجد اختراع بلا خيال. هناك تطور مادي، ولكن التطور الموازي هو تطور الخيال. وحيثما قامت في مراحل تاريخية حضارات، كان هناك احترام للفنان وخياله. احترام المبدع هو احترام للثقافة، والثقافة هي أساس وجود الحضارة.

          الحضارة يمكن أن تبرز كتجسيد مادي للثقافة، كما نشاهدها في السلوك والمعمار والأخلاق، ولكن من أجل أن تقوم الحضارة لابد من أسس ثقافية تقوم عليها. كذلك كان للحضارة الرومانية تصورها وخيالها، والأمر نفسه بالنسبة للحضارة اليونانية وفلسفتها، كذلك بالنسبة للحضارة الاسلامية. وألاحظ أنه حيثما قامت حضارة على بنى ثقافية أو اجتماعية تركزت حول الإنسان. الإنسان وثقافته أينما اتجهنا. الوجود الإنساني، فكرة الإنسان، مهم للتفاعل في المجتمعات، وأي مجتمع تقمع فيه فكرة الإنسان، يكون مجتمعًا هامشيًا ضعيفًا ومتدهورًا. هذه حقيقة لم ينتبه لها السياسيون، الإنسان لا يمكن أن يبدع إلا في ظل الحرية والمساواة والعدالة. الاستبداد لا يقمع الإنسان بل فكره، لأن حرية الإنسان هي في فكره. الحرية ليست أن أتحرك في الشارع وأقود سيارة، الحرية في فكري، أن تقبل فكري أو تناقشه وتحاورني وتعترض على فكري، أن يكون حقنا في الكلام على قدم المساواة، ولا يتم تجاوز فكرة إلا بالحقيقة، لا شئ يحكم بين الناس سوى الحقيقة، حقيقة أن هذه كأس وتلك مرآة، وحين تفرض سلطتك أن هذه ليست كأسًا وتلك ليست مرآة، فأنت لا تحرمني من الحقيقة فقط، بل وتحرم الكأس والمرآة من حق الوجود. أنتَ تمحو في المجتمع شكل ومعنى الأشياء.

  • نريد أن نعرف كيف يساهم الفن التشكيلي، الخيال التشكيلي، في النمو الثقافي، وفي تأكيد قيمة الانسان، أنت تتحدث كأيديولوجي، كصاحب فكرة، أكثر مما تتحدث كتشكيلي؟

          - لا ينفصل الفن التشكيلي عن التفكير.

  • لا أرمي الى الفصل. أنا أعني أن ثمة اختلافا في الوسائط بين العمل الفكري والعمل التشكيلي. هنا أتحدث عن الوسيط بذاته. الوسيط الذي أسميه الوسيط التشكيلي، اللون، المساحة، الخط، التكوين. كيف ترى علاقة هذه المفردات بتنمية الذهن الإنساني، وتعزيز قيمة الإنسان، والعلاقة بالثقافة وفاعليتها.في المجتمعات العربية هذه العلاقة بين الفن والحياة مقطوعة، كلمة «فن» بحد ذاتها في اللغة تحمل دلالة التسلية واللهو، وحين نتحدث في هذا السياق عن تنمية ثقافية، وعن قيم إنسانية، سيبدو هذا المصطلح غريبًا. كيف يمكن أن يحقق الفن التشكيلي أهدافنا، كيف يحقق الفاعلية الفكرية ضمن حدود نوعه كنشاط تشكيلي؟

          - الفن التشكيلي أساسًا ليس فنًا اصلاحيًا، ليس فنا اجتماعيا. الفن أساسه تحرير الصورة. الصورة موجودة، وكلنا نرى الأشكال في العالم. ولكن ربما هنالك شخص أعطاه الله القدرة على أن يخلق من هذه الأشكال شكلاً جديدًا.

          شخص يختزن في داخله كل تجاربه منذ الطفولة، كل مارآه في حياته، ويعمل في مساحة ضيقة وصغيرة. مايمكن أن يفعله الإنسان لا حدود له، ولكن المحك هو القدرة الرمزية على الإخراج، إخراج المختزن. مثلا، حين تقول كلامًا كثيرًا في مساحة ضيقة، في بيتين من الشعر، وتعبر عن فكرة كبيرة جدًا، فكرة خالدة، الفن التشكيلي في العالم العربي بالذات مرّ بمراحل غير متدرجة، مرّ بقفزات. في مرحلة تاريخية كان هناك فن إسلامي نابع من حضارة إسلامية، طريقة معينة في فهم العالم والوجود الإنساني، أصبحت فيها الهوية تجريدية بحتة. لم يحصل تحريم للفعل الفني بل حصل تحريم لنوع من الفن من وجهة نظر دينية. ولم يكن لهذا التحريم علاقة بمستوى الشعب الفكري، أو المتذوقين لهذا الفن، ولهذا نجد أنه حتى في أكثر مراحل التحريم تطرفًا كانت هناك رسوم لا تتوازى مع هذا التحريم. الفكر الديني هو جزء من تنظيم حياة المجتمع، يخلق اشكالا من العلاقات، وينظمها بين الناس، في هذه المرحلة كان هناك احساس كبير بقيمة الإنسان الحضارية. أنا أعيش هذه الحضارة، إذن يجب أن أعبر عنها في المساجد والقصور، ومن هنا كان التعبير تجريديًا. وكان رسم المنمنمات والزخارف، وكان هناك تحوير لأشكال الطبيعية، وفي فترة لاحقة انتقلت هذه الفكرة الى أوربا، وأصبحنا نعتبر الفن التجريدي أوربيًا، بينما هو في الأساس فكرة إسلامية.

تفاعل الثقافات

  • يأخذنا هذا إلى موضوع المصطلحات والمفاهيم. هذه الأخيرة التي يتداولها النقاد في الفن بخاصة، والتي هي كما قلت مأخوذة من مجال حضاري آخر، لم يجر عليها تحوّل في ثقافتنا، ولم تتكيف مع حاجاتنا الفكرية، فظلت نبتا غريبًا منتزعًا من سياقه من دون أن يجد سياقًا يندرج فيه. هذه نزعة للتعويض عن فراغ غائب، ويؤدي الإدمان عليها إلى عطالة الفكر، وتعميق عجزه عن توليد مفاهيم ومصطلحات دالة من محيطه. أعود إلى مسألة التجريد. اعتراضك في محله، ولكنه رد ٌ على أطروحة أخرى ليست مما لاحظته في الإشارة إلى التجريد الغربي الذي نبع من حركيته الذاتية، فهذا لايعني اتهامًا بأننا لم نعرف التجريد بالضرورة. كل مافي الأمر هو أنني أنأى بالمسألة عن أن تكون من الذي أخذ من الآخر، فليس هناك حضارة تنمو بمعزل عن أخرى. لأي وضعية نامية وحية حركة في اتجاهين، بل في اتجاهات، ولها حركيتها الذاتية أيضا. أنا لااستطيع أن أنسى أن الفنانين الغربيين المحدثين هم أول من كشف عن إنسانية الحضارات الأخرى التي شوهتها الحركة الاستعمارية. هل يمكن أن ننسى «جوجن» الذي قال إن اليونان على خطأ (أي قاعدة المنظور الغربي) وأن المصريين على صواب؟ بالطبع لدينا حركيتنا الذاتية أيضا، ولكن حين أنظر إلى فن قبائل الزولو، وتحديدًا أشكاله النحتية التي هي عبارة عن رماح متفاوتة الأطوال تقوم على قاعدة، فتقفز إلى ذهني فورًا تماثيل جياكومتي الإيطالي، أو حين تذكرني المنحوتات الآوشانية بمنحوتات موديلياني، أو تأخذني تكعيبية بيكاسو وتماثيل هنري مور إلى غربي إفريقيا، لا أسمي هذا التأثر والتأثير نقلاً، بل تفاعل ثقافة حية بمكناتها مع ثقافات أخرى.

          - لاحظ أن هناك نقطتين في حركة الثقافة؛ الأولى أنها تتحرك من الأعلى إلى الأدنى، والثانية أنها حالة من الإدراك والوعي. ولكي تكون لدينا مقاومة للإفرازات الجديدة علينا إدراك ما لدينا إدراكا واعيا. نحن لانعرف ماذا لدينا. المسألة الأخرى، لكي نبحث في ثقافتنا يجب ان يكون لدينا إحساس قوي بانها جديرة بالبحث. ومن أجل اكتشافها علينا ان نبحث عن منابعها. البحث هو اكتشاف للأشياء، ثم تأتي مرحلة تقييمها. وحين نقيم الفن العربي يجب ألا نقيمه على أساس مشابهته للفن الأوربي او اختلافه عنه. وحتى يكون التقييم سليما وثقافيا ، علينا أن نتوقف عن جهل بعضنا بعضا، علينا أن نتعرف على فنوننا وعلى اصل أشيائنا. لدينا مشكلة الهوة بين النظر والعمل؛ كيف نوفق بين العمل الفني العربي  ورؤيته الجمالية الجديدة. مرحلتنا الآن مهمة جدا ، انها مرحلة أن يمتلك التشكيلي العربي رؤية واضحة لتاريخه وثقافته. من دون هذه الرؤية لايمكن انتاج فن يصل إلى العالمية. هنالك تقنية عالمية من جانب، وهنالك فكرة فنية نابعة من ذات الفنان ومحيطه من جانب آخر، والجانبان مترابطان. فاذا لم تتوافر القدرة على التلوين، أي التقنية، ستظل الفكرة غائبة، وإذا لم تتوافر القدرة على اكتشاف الفكرة من المحال والعبث استخدام التقنية في الفراغ.

  • قبل أن نواصل الحديث عن تجربتك، لدي سؤال يطرأ على الذهن حول تجربتك الدراسية والتعليمية في إسبانيا. هل أحسست َ بوجود تيارات عالمية تؤثر عليك وتتحاور معك؟ ما هو نوع التيارات التي اجتذبت نظرك في الفن الأوربي المعاصر؟

          - في تصوري كل التيارات العالمية مهمة جدا ، ولا بد لي أن أستفيد منها كفنان تشكيلي. لايوجد حاجز يمنعني من التعرف عليها والتفاعل معها واستخدامها من ناحية تقنية وفكرية على حد سواء. أو حتى من ناحية تمثلها. مصادر التجربة الحقيقية في عالم اليوم عالمية وليست محلية مرتبطة بمكان وزمان محدّدين. إسبانيا بالذات هي أصل أو فرع مهم من أصول الحضارة التشكيلية المعاصرة، أعني تلك الحضارة التي تجعلك تفهم وجودك فهمًا حضاريا. ومن مميزات الحضارة الغربية أنها احترمت التشكيل وأعطته حيزًا.

          في إسبانيا تيارات كثيرة متفاعلة، ومنها خرج فنانون عالميون مثل سلفادور دالي وبيكاسو، بالإضافة إلى ما يعرض فيها من نتاجات أمريكا اللاتينية والشمالية. خلال وجودي هناك، كطالب ثم كمدرس، عشتُ فترة نشاط ذهني مكثف لاستيعاب هذه التيارات وفهمها في الثمانينيات والتسعينيات. وهي فترة كانت فيها إسبانيا تتحول من مرحلة استبداد فرانكو إلى المرحلة الديمقراطية، بما رافق هذا من تحولات ٍ فنية أيضا. فمن المعروف أن في النظام المستبد قمع الفنانون الحداثيون قمعًا رهيبًا. الاستبداد يزرع في داخل الإنسان بذور الهدم.

  • ألم يكن لهذا النظام المستبد تفضيلاته؟

اعتزاز بالثقافة المحلية

  • أرجع الآن إلى تجربتك بعد العودة إلى السودان. أنت رجعت َ محملا بكل هذه الأفكار، وبوعيك َ الذي ذكرته للعناصر التي شكلت في طفولتك أهم الهواجس الفنية. ألا تعتقد أن هذا الوعي جاء لاحقا وبتأثير رؤيتك للعالم، وفي ضوئه بدأت تستكشف ذاتك، وبدأت ترى السودان وفنونه من منظور جديد بعد عشرين عاما من مغادرة المشهد؟

          - أنا شخصيا من الفنانين الذين يعتزون بثقافتهم المحلية. لا أقول إنني عرفت  قيمتها كاملة ، ولكن بحثي فيهاجعلني أحس بطعمها. ولدينا مثل يقول «من نسي قديمه تاه». حين يرجع الإنسان إلى الوراء، إلى طفولته وأهله وبلده وحضارته القديمة، تشكل هذه الأشياء مرجعية وجوده واكتماله، ومن لايمتلك أصلا يرجع إليه هو ذاك الذي يبحث عن أصل جديد. ولكن الإنسان الواعي يعتبر الأصل ركيزة أساسية في حركته. حين رحلت  إلى إسبانيا كنت على يقين من أنني لا أريد الدخول في الثقافة الإسبانية أو أن أستخدمها دثارا ، لأنني أمتلك دثاري الخاص بي. أنا أتدفأ بثقافتي ولست بحاجة إلى دثار آخر، ولكنني بحاجة إلى العناصر التي يقوم بها العمل الفني على صعيد عالمي، ولأن أوربا لديها تجربة في استخدام اللون، ولها تجربتها الثقافية الاجتماعية، ولها دورها في العالم عبر كتابها ونقادها ومنظورهم الفلسفي إلى العمل الفني، كنت بحاجة إليها، وقد استفدت من هذه المسائل النظرية بالإضافة إلى الفائدة من العمل هناك والتعرف على تقنيات الفن الأوربي. أما عن الموروث الفكري، فقد كان موروثي كافيا، ولم أسع إلى تبني الأفكار. لدينا فنّنا، وأنا أناشد الفنانين المغتربين أن يعودوا إلى جذورهم الثقافية، ليس إلى أشكالها الظاهرية، بل إلى أصل وجودهم الفردي والجماعي؛ وجود الناس والشعب والتاريخ وكل ما هنالك.

  • هي إذن العودة إلى رؤية العالم من منظور إنسان يمتلك مكانا وتاريخا وثقافة. إنسان لديه تصورات مثلما لدى غيره، أو لديه وجهة نظر.

          - حين أرسم شخصا سودانيا يتلاشى في الفضاء، في مساحات بعيدة، وحين أرسم لوحة تجريدية فيها أناس غامضون، أو داخل مساحات لونية متلاشية واحدة بعد أخرى، أقول هذا هو تعبيري من دون حاجة إلى معرفة كيف هي نظرة العالم إلى هذه الأشياء. أنا واثق من معرفتي بالمكان الذي جاء منه تعبيري، ولا أنتظر أن يمتدح أحد عملي. أنا لاأستطيع أن أرسم شيئا مختلفا. أثق بأن تجربتي منعكسة في هذا العمل. وأتمنى أن يعود الفنان العربي إلى ذاته في أعماله. ومثلما قلت، التجربة الغربية بسيطة في ظاهرها،إلا أنها عميقة جدا. هي نتاج فلسفات ونتاج طبيعة مجتمعات تحولت إلى المرحلة الصناعية فأنتجت أنواعا من الفنون والمفاهيم، انتجت على سبيل المثال اللامعقول وفكرة اغتراب الإنسان عن ذاته. نحن ليست لدينا مشكلة من هذا النوع، مجتمعاتنا لاتزال من هذا المنظور الغربي تعيش في حالة بدائية، فكيف يعقل أن تكون لوحتنا أوربية؟ هذه مفارقة. لايمكن للفنان أن يقفز إلى منطقة ثانية إلا في حالة واحدة هي حالة العمل الفني ذاته. العمل هو إحساسه التصويري ورؤيته، وليس من الضروري أن يستوعبه الناس في هذه اللحظة. قد تضع لوحة في بيتك ثم تكتشف ماهيتها بعد عشرين سنة.

          الفنان استمرار لثقافة معينة. وأحرص في كتاباتي النقدية وفي أحاديثي الإذاعية على مخاطبة الإنسان السوداني البسيط، أشرح له ماهية الفن التشكيلي وضرورته وعلاقته بالمجتمع، وتصلني ردود ٌ واتصالات من مناطق نائية، فأشعر أنني جعلتهم يحسون أنني واحد ٌ منهم. صحيح أن الفنان يتطور عقلا ورؤيا ويتجاوز عصره أو محيطه، ولكن هذا من طبيعة اللوحة التشكيلية؛ إنها مستقبلية أساسًا، أي ذات رؤيا مستقبلية وليست راهنة.  

الحركة التشكيلية في السودان

  • معنى هذا أن عودتك َ إلى السودان بعد هذه الرحلة لم تكن عودة مغترب؟ كيف رأيت َ الحياة التشكيلية في السودان في ضوء وعي من الواضح أنه تزود بآفاق جديدة؟

          - الحركة التشكيلية في السودان حركة قديمة. ظهرت أول مدرسة في العام 5591 وحملت اسم «مدرسة الخرطوم»، وترافق ظهورها مع بداية حركة الاستقلال، ولهذا كانت حركة وطنية، وعودة إلى الذات في الوقت نفسه. أعني أن الفنانين، مثل ابراهيم الصالحي وشبرين وعثمان صنع الله، شعروا بأنهم تعلموا على يد النظام الإنجليزي ومنظوره إلا أنهم سودانيون أولا. ومن هنا حاولوا ابتكار ثقافة تشكيلية جديدة في الواقع السوداني وثقافته. وهم أيضا رجعوا إلى طفولتهم وبدأوا دراسة الفنون التشكيلية السودانية وأدخلوها في دراستهم. بعضهم مثل شبرين لجأ إلى الحرف العربي وكان من المؤسسين لهذا الاتجاه إلى جانب فنانين عراقيين في تلك الفترة. ورجع الصالحي إلى الرموز الإفريقية والعربية وأشكالها. وتكونت من كل هذا مدرسة أعطاها مدرس من جامايكا، دنيس وليمز، اسم مدرسة الخرطوم، لأن أعمالها تحمل خصائص مشتركة. وكان لهذه المدرسة تأثير، وعُرف فنانوها على صعيد عالمي. بعد ذلك نشأت مدرسة أخرى ترفض التراث السوداني رفضا تاما ، وتعتبر الفن شيئا عالميا ، وعلى الفنان أن يتجاهل البيئة المحلية وموروثاتها. وبدأ فنانو هذه المدرسة تقديم أعمال تجريدية بحتة، أي حاولوا الالتحاق بالحركة التشكيلية الغربية، بل وظهرت مدرسة تطلق على نفسها اسم «الكريستالية» تستوحي في أعمالها الفنان سلفادور دالي.

  • هل كان هؤلاء من الذين تعلموا في الخارج؟

          - بعضهم درس في كلية الفنون الجميلة في الخرطوم وبعضهم من العائدين من أوربا. كان اتجاه هؤلاء إلى الفن الغربي الحديث يترافق مع تجاهل الفن السوداني على اعتبار أنه فن سياحي وقبلي. لقد حاولوا الخروج من النطاق المحلي والانتماء إلى الفن التجريدي كما عرفته أوربا. ثم ظهر تيار ثالث يجمع بين التقنية الغربية والتشكيل السوداني، وأنا أعتبر نفسي من هذا التيار في الوقت الراهن. المبدأ هو أننا لا يمكننا تجاهل أي ثقافة مهما كانت، فللثقافة قيمتها داخل سياقها. ولكن علينا أن نعرف كيف نأخذ من الثقافات الأخرى ما يلائم ثقافتنا. هناك سلبيات وإيجابيات في الثقافات الوافدة، وعلينا ألا نقبل قبولا تاما أو نرفض رفضا تاما. علينا أن نختار. وللاختيار صعوباته. فلكي تختار، عليك أن تعرف أولا ماذا ما لديك، وأن تمتلك خبرة بما هو موضع اختيار. من دون هذا، سيكون الاختيار عشوائيا. التصور المسبق الثابت عن الأشياء مضر في عملية المعرفة والتعرف، ولكن لابد من دور للمعرفة في التصور؛ أن تعرف وتتصور بلا أحكام مسبقة وتصورات ثابتة. مرحلة الاختيار هذه مجرد مرحلة انتقالية.

  • والآن.. أين تضع فنك؟ في أي مدرسة؟

          - أنا لا أؤمن بالمدارس.

  • ولكن حين تُسأل عن فنك َ... كيف تصفه؟

          - هو حالة بين شبه التجريد وشبه التشخيص. هو ليس مزيجا ، بل حالة خاصة للوحة تجريدية تتجه نحو التشخيص، ولوحة تشخيصية تتجه نحو التجريد. هذه حالة نادرة لم أر َ فنانا عمل بها. الفنان إما أن يكون تجريديا أو تشخيصيا. والبقية تقع على عاتق النقاد. التصنيفات الشائعة، هذا سيريالي وهذا انطباعي... إلخ، هي نتاج مرحلة معينة، وجاءت لأغراض استعمارية هدفها إثبات أن العالم يدور حول عالم المستعمرين، وأن لا تاريخ إلا تاريخهم، وأن الحياة هي حياتهم فقط. أما نحن، فقد أخذنا بهذه المفاهيم بلا وعي، وإذا عاكسناها نُضرب على رءوسنا.