مبدعات من أوطان جريحة.. بتول الخضيري الهوية والكمون الأنثوي

 مبدعات من أوطان جريحة.. بتول الخضيري الهوية والكمون الأنثوي
        

من العراق وفلسطين تأتي هاتان المبدعتان، الأولى كاتبة عراقية معاصرة تقدم شهادة حية عن وطن مازال يدمى. والثانية رائدة في الكتابة وفي النضال ضد الاحتلال والقمع

          منذ روايتها الأولى «كم بدت السماء قريبة» وقد لفتت هذه الروائية الواقعية الأنظار إليها بشدة، وترجمت الرواية إلى أربع من اللغات الأوربية، ووصفت كتاباتها بأنها بمنزلة جسر بين الشرق والغرب. ولدت في بغداد عام 1965، وتعيش الآن في عمان، وأصدرت رواية ثانية هي «غايب»، إضافة إلى العديد من المقالات في الصحف العربية والأجنبية.

          حينما ننظر إلى رواية «كم بدت السماء قريبة!!» لـ «بتول الخضيري» في ضوء مدونة الرواية العربية سيلفت انتباهنا فورًا مدى اهتمام الكاتبة بالتفاصيل الصغيرة التي تتضافر في ما بينها لترسم بالتدريج مصيرًا قاتمًا لامراة وأسرتها في ظل انهيار نسق اجتماعي عام، وتتقصّى الرؤية الأنثوية المهيمنة في السرد كيفية تشكّل مظاهر الأنوثة لدى المرأة منذ طفولتها الأولى إلى أن تبلغ الثلاثين من عمرها، ولكنها رؤية تحرص على تنكير المرأة، فتظل مجهولة الاسم إلى نهاية الكتاب في تلميح لا يخفى إلى عدم الاعتراف الكامل بالأنثى في ثقافة تموج بأهواء الذكور.

          من الصحيح أن المرأة تبوّأت مركز السرد في الرواية، لكنها بقيت منجذبة إلى الآخرين بشكل سلبي، وأسيرة لسلطتهم الرمزية؛ فالآخرون هم الذين صاغوا مصيرها، وقرّروا مسار حياتها، ورسموا المجال العام لها، أو أسهموا بدرجة كبيرة في كل ذلك، فالسرد ركّز على كيفية تفتيت الذات الأنثوية أكثر من تركيزه على تكوين تلك الذات، وتشكيلها، وقد حرص على تنضيد المشاهد الوصفية بطريقة بارعة ضمن إطار يفصح عن موقف الأنثى بوصفها تابعًا للآخرين، ومقيدة بإرادتهم، ورغباتهم، إلى درجة بدت فيها الاختيارات الشخصية شبه مضمحلة، وعديمة الأهمية، في عالم يمور بالنزاعات الثقافية الأسرية على خلفية تاريخ بلد يشهد تغيرات كبرى في تاريخه الحديث. وخلال ذلك تتحول لغة السرد من الإيحاء الشفاف، والمبهج، والمشوب بالألوان، والأضواء، والعطور، إلى المباشرة، والقسوة، والعتمة، والخوف، والعزلة. فكلما توغلنا في عمق الأحداث، وتابعنا مسار الشخصية، ظهر تبدّل في الصيغ، والألفاظ، والعبارات. وفي منتصف الكتاب - تقريبًا - يقع تغيير جذري في أسلوب السرد، إذ بموت الأب يتلاشى السرد القائم على صيغة الخطاب الذي توجهه الابنة إلى أبيها، وتصبح الصيغة مباشرة، فباختفاء السند الرمزي، وتمثله الأبوة، تحاول الفتاة أن تخوض تجربتها الشخصية بمنأى عن أي توجيه خارجي، لكنها لا تتمكن من ذلك بصورة كاملة، فتظهر حائرة، ومتردّدة، في اختياراتها الكبرى.

          وإذا مضينا معها سنجد أنها تعيش مرتبكة، ومشتتة، إلى نهاية الرواية؛ فغياب الأبوة أحدث صدعا شخصيا، وثقافيا، ومصيريا، في حياتها، إذ كانت تريد اكتساب هويتها الشرقية بوجود الأب، وباختفائه توارى الأمل، فالأبوة تكرس إحساسًا بالنقص، وترسخ عدم القدرة، ولا الرغبة، في مواصلة طريق الكمال، وباختفائها يكون الإحساس بالعجز قد أصبح أمرًا واقعًا. الأبوة، بوصفها أيديولوجيا تربوية، وأخلاقية، تشجع التبعية في العلاقات، وتعزّز مقوماتها، ولا تتيح للأفراد تأسيس استقلاليتهم بأسلوب صحيح، فالصحيح، بالنسبة لها، هو الامتثال للأبوية، ولهذا يشعر الأفراد بضعفهم ليس في ظل الأبوة فقط، إنما عند فقدانها أيضا، حيث ينبغي عليهم مواجهة مصيرهم في غياب كامل للسند الاعتباري للأبوة. وقد رسمت الرواية إيحاء بين اندلاع الحرب وموت الأب، إذ ولّى الاستقرار، واختفى الشخص الداعم، ومن المتوقع بسبب فوضى الحرب، ووفاة الأب، أن تتأزم الاختيارات أمام الفتاة، وهي حائرة في اختيار هويتها، وتزامن كل ذلك مع مرحلة بلوغها الجنسي، فوجدت نفسها في مواجهة عالم مضطرب، وستمضي في حياة أكثر اضطرابا.

          هذه الغلالة الشفافة المعبرة عن رؤية الفتاة الصغيرة في القسم الأول من الرواية، واستبطان الأحاسيس الرقيقة لامرأة تتفتح ذهنيا وجسديا في عالم يتحوّل من وضع حسن إلى سيئ، ثم إلى أسوأ، تخفي وراءها ما يمكن اعتباره أهم الأسئلة في عصرنا، وهو: سؤال الهوية. وهذا السؤال المضمر يتحكّم بأحداث الرواية، وشخصياتها، ويتخلل وقائعها، ويتنامى ليصبح القضية الأساسية فيها، فأحداث الرواية تُبنى بطريقة سردية تتوازى فيها مصائر الشخصيات مع مصير العراق، وكما انتهت الشخصيات إلى خاتمة قاتمة، انتهى البلد إلى ذلك؛ فالبنية المتوازية بين الحدث الصغير للرواية، وهو الوضع الخاص بعائلة من ثلاثة أفراد، والمكان الحاضن له، وهو العراق، تنظّم بإحكام كلا من العلاقات بين الجانبين، والمصائر المشتركة لهما، فيصبح سؤال الهوية مركّبا من مستويين: خاص وعام.

          يُطرح سؤال الهوية في هذه الرواية على خلفية التهجين الثقافي بين الشرق والغرب، وإمكان اللقاء بينهما، وأيضا على خلفية تاريخ بلد ينزلق إلى حالة حرب، ففوضى، وهذه الخلفية المركّبة تدفع بالأحداث نحو النهايات التي تتقرر بالتدريج في العالم السردي للنص. ولم يكن سؤال الهوية جاهزًا بوصفه فرضية مسبقة تصدر عن رؤية الشخصية الأساسية، بل هو سؤال ينبثق من مسار التناقضات الثقافية بين الأب والأم ومجتمعيهما، ثم يتنامى، ويتعاظم، ويتضخم، فيصبح مفتاحًا لكل الأحداث اللاحقة، وبخاصة بعد اندلاع الحرب بين العراق وإيران في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين. ويرتسم هذا السؤال في ذهن الفتاة منذ طفولتها المبكرة ويلازمها إلى أن تبلغ الثلاثين، وبنموّ السؤال يتنامى موقف الشخصية. فثمة اطراد متواصل حيث تتوقف أحداث الرواية، ولكنها لا تنتهي؛ إذ يبقى مصير الشخصية معلقًا، وهي في وضع انتظار، ويتأكد ذلك في آخر جملة في الرواية. ولتركيز الاهتمام على ذلك، يحرص السرد على ثنائية أخرى، وهي ثنائية التنكير والتعريف. لا يتعرّف المتلقّي إلى أهم مفاتيح الرواية، وهو اسم الشخصية الرئيسة فيها، والراوية المشاركة في الأحداث كلها منذ بدايتها إلى نهايتها، ولكن المتلقّي نفسه سيتعرف - بالمقابل - إلى كل شيء فيها ما خلا الاسم: نموها المبكر، طفولتها الوديعة، بلوغها، تجاربها في العراق وإنجلترا، ثم اكتشاف القضية الأهم: من هي؟

          ولكن أين يجد هذا النزاع الثقافي موضوعه؟ إنه يتجسد في الفتاة التي بمقدار ما ترغب في أن تكون تهجينًا سليمًا لثقافتين مختلفتين، وتاريخين متنازعين، فإن كل الظروف المحيطة بها تحول دون ذلك، فتنشأ كائنًا شائها لا يعرف من هو، ولا ماذا يريد، وهو ملتبس الهوية. فحينما تجيء الأسرة من لندن إلى العراق تتوجّه إلى منطقة «الزعفرانية» وهي ضاحية زراعية في الطرف الجنوبي الشرقي من بغداد، فيلتحق الأب في معمل هناك، وهو كيماوي متخصص بالألوان والمطيّبات، فيما تعتكف الأم في البيت بعد أن تجد نفسها في ريف بدائي وسط الأسر الفلاحية حيث لا رابط يربطها في كل ذلك، فهي تختلف عن المحيط المجاور لها في اللغة، والثقافة، وشكل الجسد ولونه، فلا تلبث أن تصف البيئة الجديدة بكل الأوصاف الدونية. تضع الأم الإنجليزية الريف العراقي بإزاء حاضرة الإنجليز: لندن. وهذا النوع من المضاهاة القائمة على التفاضل سيحول دون قبول الآخر، ودون مشاركته، وهو نتاج شعور بالتفوق، وعدم قبول الآخر كما هو، فهذه البقعة مختلفة عما ارتسم في مخيال الأم من شرق سرابي الملامح، يجتذب إليه أبناء الشمال ليعيشوا تجربة ذاتية رومانسية. وهذا التفاضل الذي تغذيه الأم بمواقف يومية متأففة ومتشدّدة يخلخل الانسجام العائلي، ويخرّب التواصل الذهني والنفسي في الأسرة، فتنشأ الفتاة في وسط يعوم بالتنازع القيمي والسلوكي. وفي وقت يمضي الأب في عمله منسجما مع الحاضنة الاجتماعية التي ينتمي إليها، تعزل الأم نفسها في البيت متبرمة، ورافضة الاندماج، فتستعيد ثقافة الإمبراطورية بسلوك استعلائي، وتعطل أي علاقة مع الآخرين، ولا تلتقي بغير صديقين إنجليزيين، هما ديفيد وميلي، وينتهي الأمر بالأول أن يكون عشيقا لها، فلم تجد في الزوج الشرقي مكافئًا عاطفيًا، ونفسيًا، وثقافيًا، فأعادت ربط علاقتها بمثيل إنجليزي في قلب الشرق.  

الانتماء والانسلاخ

          يورّث الأب سمرته الشرقية، وانتماءه الثقافي، لابنته الصغيرة، أما الأم، قطنية البشرة، فيشغلها الترفّع، والتبرّم، والتعالي، وعدم الانسجام، ورغبة في الانسلاخ عن حال لا تريدها، ولم تتوقعها، وفصم علاقة زوجية لا تراها متكافئة، والتخلص من طراز حياة رتيب لا تجد فيه نفسها، وتظل تحاول تصحيح الخطأ الثقافي الذي انجرت إليه دونما تفكير عميق، فهي سليلة التركة الاستعمارية. وينشب الخلاف حول الطفلة التي يريد الأب لها أن تنخرط في مجتمعها، وتتعرّف إلى بيئتها، أما الأم فترفض السماح لها بالانغماس في قذارة القرية، وأبقارها، وأطفالها الحفاة العراة. لكن الصغيرة تختلس فرصًا للتعبير عن رغباتها الطفولية، في وقت تمارس فيه الأم دور الكابح الدائم لكل تلك الصبوات. ويتعمد الأب إغراء ابنته للانخراط في العالم الذي ينتمي إليه، أما الأم فتجد في ذلك انحدارًا إلى الحضيض، وارتكاسًا في التخلف. يستغرق هو في عمله جادًا، يضع تسميات مبتكرة للألوان، والمطيّبات، والروائح، وتمضي هي وقتها تستمع لهيئة الإذاعة البريطانية، وتقرأ كتب الرشاقة، والأناقة، وتعيش بأسلوب إنجليزي وسط عالم يعجّ بخوار الأبقار، وأسراب الذباب. ويرتسم التباين الثقافي بين الاثنين بطريقة أكثر وضوحا حينما تتقدّم الفتاة بالعمر، فالأم تدفع بها لتعلم الرقص، والاختلاط، أما الأب فيحذر بأن ذلك سيضرّ بمستقبلها في مجتمع يقوم على الفصل بين الجنسين، وينظر فيه للرقص نظرة دونية. 

التنازع الثقافي

          يُبرز السرد حيرة الفتاة بأنها عالقة بين ثقافتين، وكأنها مرآة تنعكس عليها رغبات الوالدين المتعارضة، فلا تنفذ إلى داخلها مباشرة، لكنها تفعل فعلها في تعميق حيرتها، وتشتيت رؤيتها، إذ لم تتمكن من الاندماج الكامل في بيئتها الخاصة، ولم تستطع الانقطاع عنها، لكن رؤيتها للعالم تعرّضت للتشويش، ومع أنها أصبحت عضوة ناشطة في فريق الرقص الرفيع، فإن علاقتها بالأشياء ظلت واهنة. وعلى الرغم من أن الأسرة انتقلت من ريف الزعفرانية إلى الرصافة في قلب بغداد، فإن ذلك كان تغييرًا في الدرجة وليس في النوع، وظل الشاغل الأول للفتاة مراقبة التنازع الثقافي بين أبيها وأمها، وهو انشغال افتقر إلى قوة التعرّف، والمشاركة؛ فكأنها تصف دميتين لا أبوين. لقد شوّش إحساسها الداخلي بالانتماء النهائي إليهما كأبوين، أو إلى أي منهما كشخصين تربطهما علاقة زوجية، إذ غاب عن الأسرة حسّ المشاركة، وتفكك نسيجها الداخلي، وانفرط عقد المسئولية الأخلاقية، ولم يفلح الأبوان في تأسيس علاقة سليمة توفر للفتاة أمنًا عاطفيًا يطفئ شعورها بالغربة وهي معهما، ولهذا تُشغل بفضح التباين بينهما في السلوك والعادات، دون إبداء أي درجة من التعاطف. وتقع محاولة التعرّف الوحيدة إلى الوالدين من قبلها عند لحظة بلوغها الأنثوي، وهو تعرّف يأخذ صورتين مختلفتين، صورة أولى تتقرّب فيها إلى أبيها، وتشاركه عمله في تسمية الألوان، والمطيّبات، فتستغرقها متعة التسمية، وصورة ثانية تجد فيها نفسها بعلاقة محايدة تماما مع أمها. وحينما تشرع هي بفكرة التعرّف تنفصم نهائيا العلاقة بين الأبوين، إذ تصرح الأم مخاطبة الأب «أنا سئمت هذا الارتباط السطحي.. نحن لا نعيش، أو نتعايش.. فقط نحيا معا في بيت واحد». تطلب هي الانفصال النهائي، وينطق هو بالطلاق.

          وعلى هذه الخلفية الثقافية للنزاع العائلي يتفجّر نزاع آخر، هو الحرب، ويستأثر بالاهتمام، وبداية من هذه اللحظة تختفي الألوان، والأزهار، والعطور، ويحلّ الانشغال بالحرب محل كل شيء، إذ تدرج الأخبار، والبيانات العسكرية، في متن الرواية، فوقائع الحرب تكتسح عالم الشخصيات، وتشلّ حياتها بصورة كاملة، فتغلق مدرسة الباليه، ويساق طلابها الذكور إلى الجيش، ويحار بشأن الأناث اللواتي لا يُقبلن في الجامعات الرسمية، فتضطر الفتاة للالتحاق بكلية أهلية لدارسة الأدب الإنجليزي، وبموت الأب تتوالى الانهيارات الداخلية والخارجية، حتى العلاقة التي تربط الفتاة بالشاب «سليم» تبدو كأنها مهرب من مصير قاتم، فكلما توسعت الحرب، وشملت الحياة، ضاقت اختيارات الأشخاص، وتكتشف الأم أنها مصابة بسرطان الثدي، وهذا الاكتشاف يحدث هزة عنيفة لديها، وكانت شديدة الاحتفاء بجسدها؛ فإذا بالأنوثة تتلاشى شيئًا فشيئًا، وحينما يطرح موضوع زواج الابنة من صديقها المسيحي «سليم» وهو نحات وجندي، يرتسم في الأفق تحذير الأم بناء على تجربتها الشخصية «كونه من دين آخر سيسبب لك مشاكل مع مجتمعك» ثم تردف «ربما لأنني أريد أن أجنبك آلاما لاجدوى منها».

          وتخلص أخيرًا إلى القول إن «بعض الحقائق تأتي بعد فوات الأوان». تأتي هذه التوجيهات في ذروة أزمة الأم بعد وفاة الأب، وبعد اكتشاف مرضها، وترحيل عشيقها «ديفيد» إلى خارج البلاد، فلا تدري إن كانت ترغب في هجر العالم الشرقي والعودة إلى عالمها الغربي، أم أنها تريد أن تتخلّص من ذكرى رجل شرقي، وترتبط بآخر غربي «لم أعد أميز بين شعوري..إن كان رغبة في اللحاق بشخص، أم كان رغبة في الهروب من شخص.. أم هل يجب أن أقول اللحاق بحالة، والهروب من حالة؟». 

التداعي الفردي والجماعي

          هذا التداعي المتواصل لكيان الأسرة يوازيه نوع من التداعي الجماعي العام بسبب الحرب، إذ تنهار المقومات الاجتماعية، وتهيمن أنباء الحرب، وسوق المجندين إلى ميادين القتال. وفي إحدى إجازاته يحطّم «سليم» تماثليه في المشغل، ويمضي الليل مع الفتاة على المنضدة التي كانت مكانًا لتماثيل ملأ حطامها المكان. وكانت تجربة جسدية مؤلمة وكأنها مغامرة منقطعة في عالم انزلق نحو الهاوية، فعلى المنضدة الخشبية الجرداء يتحول العاشقان إلى جزء من حطام التماثيل، ولا يبقى شيء في ذاكرة الفتاة سوى الألم. وفي جو مشبع باليأس والحيرة تنتهي الحرب، ولكن لا تنتهي علاقتهما إلى زواج. إذ يرحل هو إلى شمال العراق ملتحقا بأمه، فيما تغادر هي صحبة أمها إلى إنجلترا. وهذا الانجراف المتواصل لتيار الأحداث يدفع بالسرد نحو منطقة شديدة التعقيد، فما تكاد تتوقف الحرب الأولى إلا وتتفجر الثانية في الكويت حينما كانت الفتاة مشغولة بمتابعة علاج أمها في مشافي لندن، ومع أن الدلائل كلها تشير إلى استحالة شفاء الأم، فإن ابنتها تمضي في متابعة العناية بها، وفي هذه اللحظة تبدأ بمساءلة نفسها عن هويتها الحقيقية «لست من هنا ولا من هناك، هذه هي المشكلة» فهي ليست شرقية ولاغربية، ليست عراقية ولا إنجليزية، بل تجد نفسها مزيجا من «خليط متناقض».  

ثنائية الشرق والغرب

          لم تمتثل رواية ثنائية الشرق والغرب «كم بدت السماء قريبة!!» لقواعد المعادلة التي كرستها الرواية العربية المهتمة بثنائية الشرق والغرب، والتنازع بينهما، فقد كانت الشخصيات تقيم علاقاتها في ضوء الذخيرة الثقافية المسبقة التي تحملها، والرجال هم المرتحلون فيها إلى ديار الغرب، يطلبون ثأرًا جنسيًا من حيف لحق ببلادهم جراء التجربة الاستعمارية، وهو ما نجد مثالًا واضحًا له في «موسم الهجرة إلى الشمال»، وسواها من الروايات التي أثارت هذه القضية، بينما جاءت هذه الرواية على خلفية من السلوك الثقافي، فالشخصيات تؤكد عدم قدرتها على التواصل، وحينما نتعمق في كشف أسباب عجزها عن الاندماج يظهر لنا أن ذلك يعود إلى تباين المفاهيم الثقافية، على أن الرواية تخلو تماما من فكرة الانتقام التي أخذت أشكالا عدة في تلك الروايات. والمرأة الغربية هي التي تخوض التجربة في الشرق، وهي التي تخفق في إقامة التواصل مع الشرقي، ولا يلوح أن ثمة محمولاً ثأريًا يشي بفكرة الانتقام، بل تريد الرواية البرهنة على عجز الأشخاص المختلفين ثقافيًا عن التواصل العاطفي، والاجتماعي، وحتى العلاقة بين الأم و«ديفيد» لا ينظر إليها الأب على أنها خيانة بالمعنى الشرعي، فقد حدث غضّ الطرف عن السيطرة على علاقة متعفنة، وجرى قبول علاقة تواصل ثقافية وجسدية بين إنجليزيين في أرض الشرق، هما زوجته «وديفيد» بعد أن انبتّ التواصل بين الزوجين، فالعلاقة الموازية تنشأ في ظل سوء تفاهم ثقافي أكثر منه سوء تفاهم شخصي. ومع أن الرواية تنتهي إلى نفس الفرضية السابقة وهي استحالة الاندماج فإنها لا تقيم أحداثها على تلك الفرضية، بل تكشف بالتدريج أن العجز عن الاندماج مبعثه اختلاف الرؤى الثقافية، وهي لا تحاول إثارة البغضاء بالانتقام، بل تقبل العقاب كأن ثمة ذنبًا قد اقترف، وهي لا تحاول تخطي التباين الثقافي، ولا تسعى إلى دمج أطرافه، فتتوقف عند حدود تأجيل أي علاقة بين الطرفين. 

ثنائية التسمية

          أما في رواية «غايب» فتشغل «بتول الخضيري»  بثنائية التسمية والوصف منذ عنوانها، وتتصارع خلف أحداثها ثنائية الحضور والغياب، أي ثنائية الحياة والموت؛ فعنوان الرواية يوحي لأول وهلة بالاسم العلم «غايب» ولكنه في متن النص يظهر كناية عن الغياب، فقد درج أن يكنّى العقيم، أو من عجز عن الانجاب بـ «أبي غائب» فكأن الابن الغائب يجري استحضاره من خلال استعارة فكرة الغياب، وإلحاقها بالأب، فيستدلّ بالأبوة المجازية عند تعذّر التصريح بالحقيقية. وفي مجتمع تتحكم فيه ثقافة الذكور ينظر للعقم على أنه نقص وجودي واعتباري، فمن لا عقب له لا ديمومة له، ولا قوة، ولا سند. وتتدخل الكناية بهدف التعويض الرمزي عن فقدان شيء لا سبيل إلى الحصول عليه، في نوع من الاحتيال المكشوف على ما تقتضيه الثقافة الذكورية التي تحرص على سد نقصها بالبلاغة.

          ويقود العنوان إلى البنية الدلالية للنص، إذا تتناوب المشاهد السردية لتكشف غياب كل مظاهر الحياة التي تؤكد الديمومة والاستمرارية، فلا إنجاب طوال أحداث الرواية، وليس ثمة أطفال، ولا حب، ولا مظاهر فرح، والطفلة الوحيدة «دلال» فقدت والديها جراء لغم خلفته حرب عام 1967 في عمق صحراء سيناء. وقد تعطّل إيقاع الحياة، وغابت الأشياء الجميلة، وانهارت المقومات المجتمعية، وسدت الآفاق أمام أي طموح، أو عمل، أو رغبة، وبكل ذلك استبدل نظام متواصل من الخداع، والخوف. وجميع الشخصيات لحقها نقص، وتعرضت لتشويه، وتدفع الأحداث بتفكك علاقاتها الأسرية، فضلا عن علاقات الجوار، فـ «دلال» معوجّة الفك، مشوّهة الفم، والخال مصاب بداء الصدفية، ويتحول من آثاري محب للفنون إلى نحّال، ثم إلى مهرّب للمقتنيات الفنية خارج البلاد، وزوجته «أم غايب» تصبح خياطة في شقتها، والمهندس يصبح جزارا يتاجر بلحوم البشر بالتواطؤ مع الممرضة «إلهام» التي تستغل وظيفتها لتحمل إليه الأشلاء بعد العمليات الجراحية، وقد دهمها السرطان، والحلاق يصبح عميلاً لأجهزة الأمن، ويقدم متعة جسدية لرجالها في محله أسفل العمارة، والأستاذ في الكلية العسكرية - قد استأثر بشقة أسرة، يهودية تهاجر إلى إسرائيل - يرهب سكان العمارة بتعليق» الزينة البراقة في الممرات خلال الأعياد الوطنية، وقد نسي وظيفته التعليمية، ومارس الترهيب ضد جيرانه.  

خرافات وأوهام

          والعلاقة الجسدية الوحيدة التي ترتسم مظاهرها ببرود بين «دلال» و«عادل»، فتمنح جسدها له بنوع من الحياد المطلق، يتبيّن أن وراءها غاية أمنية، إذ تُستدرج الفتاة لكشف ما يدور في العمارة، والحبيب إن هو إلا ضابط أمن متنكرّ يسمّى بـ«جارور» لأنه يمارس ساديته بتكسير أصابع الموقوفين عند التحقيق حينما يطبق أبواب الجارور الحديدي على أصابعهم، وكان أدّعى بأنه يزود فاقدي الأطراف جراء الحروب ببدائل اصطناعية. وكل نساء العمارة تستغرقهن الأوهام، والمخاوف، والإيمان بالخرافات، فيلجأن إلى قارئة الطالع «أم مازن» القروية التي تخدعهن بالتمائم، والأعشاب، وهي «تشبه فقمة سمراء تتحرك بتثاقل تحت طيّات من قماش منطفئ». وتدّعي بأن لديها علاجا «للنفس التعبانة، وللروح الغرقانة». وتسمّى عمارة «الأساتذة»  باسم عمارة  «أم مازن» وبمرور الزمن يهجرها الجميع باستثناء أسرة أبي «غايب» وتُعرض بعض شققها للبيع بعد أن يُسجن، أو يهاجر أصحابها. وحتى نادي «العلوية» الذي كانت ترتاده الطبقة العراقية العليا والمتوسطة في الماضي- ولدلال فيه ذكريات مبهجة حينما كانت طفلة - جرى تخريب وظيفته، فاستؤجر جزء منه منحلاً، وقطعت الكهرباء عنه، وتحولت إحدى ساحاته إلى خيمة لخزن الجثث التي نتجت عن ظروف الحصار، والاستبداد، وكل شيء ينتهي إلى طريق مسدود، فلا أمل إذ ليس ثمة ما يمكن انقاذه، ولابد أن يبدأ الجميع من بداية أخرى مختلفة، وكل الشخصيات تشوّه جسديا أو أخلاقيا، فلاغرابة أن تنتهي الرواية بمشهد تعليم الأبجدية للتدرب على اكتشاف الحقائق الأولى، فمجتمع الرواية ارتكس في وسط الخراب، ولإصلاحه لابد من بداية جديدة، وكأنه بحاجة إلى تاريخ جديد يبدأ بتعلّم الحرف.

          هذه التحولات الجذرية في مصائر الشخصيات - وقد لاحظناها في الرواية الأولى أيضا - تعرض عبر رؤية سردية أنثوية تمثلها «دلال». وهي رؤية تعنى بالأحداث جميعها، ولكنها تركّز بنوع من التفصيل على التحولات الداخلية للشخصيات الرئيسة التي يجمعها مكان وزمان محددان. وإذا راقبنا مسار تلك التحولات في السياق السردي الذي تقع فيه، نجد أن الشخصيات تدفع إليها بسبب الحاجة، ونقص الحرية، وانعدام الاختيارات الحقيقية، ولم تظهر شخصية في الرواية أي نوع من الممانعة والرفض، فالأحداث أكبر من أن تعترض شخصية عليها، أو تبدي موقفًا منها. وإذا افترضنا أن سكان عمارة «أم مازن» بتنوعهم، وخلفياتهم، يعدّون عينة لمجتمع الحصار، ونواة له، فقد ارتسمت صورة المجتمع المذعور والمستسلم الذي يستبطنه الخوف في وعيه وفي لاوعيه، فالاستسلام للخوف، والامتثال لشروط الحاجة، حوّلا مجتمعًا كاملاً إلى كائنات امتثالية مشغولة بإشباع حاجاتها المتكاثرة دون أن تفكّر بتغيير أحوالها.  

مضاعفة القهر

          تنصرف رواية «غايب» بكاملها إلى متابعة مصائر مجموعة من الأُسر العراقية تعيش في عمارة وسط العاصمة، وتعنى بالأزمة الاقتصادية التي استغرقت الفترة بين حربي الخليج الثانية والثالثة، وأدت إلى انهيار الطبقة الوسطى، وأشاعت مفاهيم الخداع، والغدر، والخوف، والرياء، وكل ما يمكن تصوره من ظواهر سلبية يفرضها حصار خارجي، واستبداد داخلي، على مجتمع كامل، وبخاصة النساء فيه حيث يتضاعف قهرهنّ. وفيها تترك الشخصيات تكافح من أجل حياتها في مهب تلك الأحداث، والعناية بالتأثيرات المحتملة عليها، فالمشاهد السردية تتضافر في ما بينها لتجسيد حالة الانهيار الكلي الذي ضرب المجتمع العراقي الذي جرى تمثيله في الرواية، وكل ذلك يتجلى بالسلوك اليومي للشخصيات، وليس من وجهة نظر خارجية يقدمها راو يرسم معالم ذلك الانهيار. وبتفتّت النواة السردية في الرواية التي يرمز إليها بسكان العمارة، يتفكّك المجتمع الحاضن لها، فقد غاب التواصل بين سكان العمارة إلا من أجل المنفعة الضيقة، أو المراقبة، كما غاب التواصل بينهم، والمحيط الاجتماعي. ولا يمكن تأويل ذلك إلا بأن نص الرواية يرسم سياجا مغلقا لمجتمع جرى غلق سبل الحياة أمامه بسبب الحصار، فبدأ يتآكل داخل حلقة لاسبيل إلى كسر جدرانها، فتضاعف الخوف في داخلها، واستبدّ الوهن بأهلها، وشاع الخوف في ما بينهم.

 

عبدالله إبراهيم   





الأديبة العراقية بتول الخضيري