هويتنا وثقافة الاختلاف... د. سليمان إبراهيم العسكري
هويتنا وثقافة الاختلاف... د. سليمان إبراهيم العسكري
بينما تمثل العالمية نزعة صحية للثقافات القومية وهي تحاول توسيع رقعة التعارف بينها وبين ثقافات الشعوب المختلفة على سطح الأرض، تأتي العولمة ملتبسة الإطار، ومحاطة بالشكوك، لما تتضمنه من شبهات الرغبة في التهام الثقافات القومية لمصلحة تنميط العالم في نموذج محدد، هو النموذج الغربي. ولما كان الموضوع الثقافي - تحديدًا - هو أكثر المناشط الإنسانية ارتباطًا بالهوية، فإن الأمر يوجب الاختلاف.
بدو أن كلمة القومية صارت تثير حساسية الكثيرين من المثقفين العرب، إلى درجة نسف مفهوم العروبة نفسه. ولاشك أن هذا المفهوم على مستوى الممارسات السياسية، جرى ابتذاله في كثير من الأحيان، لكن المفهوم في ارتباطه بالثقافة، «وبمعنى الثقافة القومية»، يظل مما لا يمكن نفيه، لأنه واقع جغرافي وتاريخي وروحي وإنساني، بين مجموعة بشرية في رقعة متواصلة من العالم، تجمعهم لغة واحدة، ومنازع روحية ثقافية موحِّدة، وآلام تاريخية وآمال تتشابه أكثر مما تتباين. فالثقافة القومية في عالمنا العربي هي عنوان مهم من عناوين الهوية
العربية، وهي إطار جامع لمفردات ثقافية مشتركة الجذور والطموح، تشكّل مصدر قوة -
معنوية على الأقل - ينبغي عدم التضحية بها لمجرد سخطنا على أخطاء السياسة أو
السياسات العربية. في مواجهة رياح الاقتلاع كانت الملاحظة السابقة منصبة على الداخل العربي، والخلط بين قومية الثقافة وأخطاء السياسة، أما من جهة الخارج، فثمة رياح عاتية تريد اقتلاع هذه الخصوصية الثقافية، لغرس نمط مغاير من الثقافات بذريعة «العولمة»، وبالتالي إلغاء الهوية العربية، أو مسخها، لمصلحة هوية «عولمية»، هي في حقيقة أمرها - وتبعًا لمنطق القوة والنفوذ - هوية الغرب، بل جزء مهيمن من هذا الغرب، ونتيجة ذلك كله لن تكون إلا تنميط العالم، وهو أمر مخالف لطبيعة الحياة، ومنطق الوجود اللذين يجدان استمرارهما الصحي، الخلاق، في التنوع الذي تغتني به المفردات من تكاملها مع بعضها، ويغتني الكل باغتناء أجزائه. من هذا المنطلق، أثار اهتمامي كتاب الدكتورة «ماري تريز» تحت عنوان «الثقافة القومية بين العالمية والعولمة»، إذ تقول في مقدمة كتابها: «تنشغل دول الأطراف بكيفية تمثيل ثقافتها القومية على المستوى العالمي، في عالم يسوده اقتصاد السوق الذي ترتب عليه عولمة الثقافة. وتعد العولمة ظاهرة اجتماعية جديدة لا تقع في نطاق المهتمين بالسياسة والاقتصاد فحسب، بل المهتمين بالدراسات الإنسانية، والثقافية وما تشمله من الفنون المكتوبة والمرئية، والمعلوماتية، والوسائط المتعددة، وبعض أوجه الرقمنة. لذا تصعب دراسة العولمة أو الحركات البديلة الساعية لتحقيق العالمية من خلال الخصوصية الثقافية عبر منهج معرفي منفرد». ولي اعتراض على استخدام تعبير «دول الأطراف» من دون إرجاعه إلى مصادره، فمفهوم المركز والأطراف لم يعد واردًا إلا في قاموس القوى الهادفة إلى الهيمنة، حيث استقر في الوجدان الثقافي العالمي منطق تساوي الثقافات في الأهمية، لأن الثقافة بمفهومها الواسع تعني منهج حياة مجتمع بعينه، ومادام حق الاختلاف مكفولاً، بل مطلوبًا لصحة وسلامة الكل، كما أشرنا سالفًا، فإنه لا مركز ولا أطراف، بل ثقافات متساوية الأهمية في إطار الوحدة والتنوع اللذين يقدمان صورة الثقافة البشرية الجامعة على كوكب الأرض. ولعل التعبير جاء في صيغة الاعتراض الضمني عليه، بدليل ما تلاه من سياق يكشف عن رؤية الكاتبة المعترضة بوضوح على العولمة كوسيلة هيمنة ثقافية. وهذا ما تؤكده عندما تقول إنها معنية بـ«التحديات التي تواجه الثقافة القومية في سعيها إلى العالمية، حيث يتهدد العالم اليوم بمحاولات عولمة الثقافة عبر الفضائيات والتكنولوجيا الرقمية، التي شاعت بفضل اقتصاد السوق الذي أفرز نظامًا متعديًا للقوميات». تتعقب الكاتبة التبدلات، التي طُرحت على الساحة الثقافية العالمية، قادمة من الشمال - والغرب منه على وجه الخصوص - فترى، ونرى معها، أن الحداثة الغربية لم تكن مشروعًا مكتملاً، فقد نادت بالمساواة في دعواها للعالمية، بينما اتسمت ممارساتها بالتمييز بين شمال العالم وجنوبه، وافتقدت الشفافية بين عواصم ما يسمى «المركزية»، و«المستوطنات»، مما خلق انقسامًا بين الشعوب المنتجة والعواصم المتخمة، فلم يدر مواطنو المركز بمعاناة الشعوب المقهورة، وترتب على هذه العلاقة الملتبسة بين الثقافات المحلية والحداثة ثنائيات فكرية تعمل على الإقصاء، حيث سعت نزعة التحديث إلى إدماج الشعوب قسرًا في حركتها. وأفضت هذه «الحداثة» الغربية إلى تمييز التحديث الصناعي والثقافة الملحقة به على الثقافات المحلية. هذا القسر الثقافي أدى في المقابل إلى تشدد المحافظين في العالم الثالث، وتمسكهم بالخصوصية، حتى لو كانت مفتقرة إلى التعقل العلمي والانفتاح على ثقافات العالم، أي أن الإقصاء «الحداثي» الغربي صارت تواجهه الثقافات المحلية في الجنوب بدفاعات ذاتية جوهرها الانغلاق والارتباط بالنزعات العرقية والمذهبية. ولم يجد التحاور والتكامل الثقافيان مكانًا حقيقيًا لهما بين الشمال والجنوب في ظل أطروحات الحداثة الغربية. الشيء نفسه تجدد في زمن العولمة، بوصفها نظامًا اقتصاديًا، ترتب عليه تفاوت في مصادر المعرفة والتعليم والبحث والنقد الثقافي، وغدا من المحال الفصل بين دول المركز والأطراف نتيجة توغل الشركات والمصارف متعدية الأقطار، ولم يكن عدم الفصل هذا إلا نوعًا من الرغبة الغربية في الاستحواذ، لكن في الوقت نفسه، كان هناك عنصر معاكس ينغرس في قلب هذا الاستحواذ، وهو وجود أقليات ثقافية في الحياة العامة والأكاديميات الغربية - ونموذجها المعروف جيدًا لنا هو إدوارد سعيد - وكوّنت هذه الأقليات معارضة لها ثقلها لأطروحات العولمة تحت مسمى «ما بعد الكولونيالية» في مواجهة أطروحات «ما بعد الحداثة»، التي تمثل الوجه الثقافي الغربي للعولمة الاقتصادية. وعلى هذا النحو، دخل بنا منظرو زمن العولمة في نظريات زمن الـ«ما بعد»، ما بعد الحداثة من جهة الهيمنة الغربية، وما بعد الكولونيالية من جهة رافضي هذه الهيمنة الثقافية، سواء كانت إقامتهم في الغرب وعوالم الشمال، أو في بلدانهم الأم بعوالم الجنوب، فهل أفضت هذه التنظيرات إلى وضع عالمي ثقافي مخالف لزمن تنظيرات الحداثة، وتفاعلاتها المتصادمة، خاصة في جنوب العالم الذي ينتمي إليه عالمنا العربي؟ البحث عن الجذور لقد تباينت التعريفات، ولم تتفق على ماهية ما بعد الحداثة وعلاقتها بما بعد الكولونيالية، فذهب الناقد الأسترالي سايمون ديورنج في تعريفه لما بعد الكولونيالية إلى أنها ممثلة لحالة الشعوب والأمم والجماعات، التي عانت من الاستعمار، وتريد تأكيد هويتها بعيدًا عن المفاهيم الأوربية، التي تزعم العالمية ولا تتبناها في واقع الأمر. من جانب آخر، ذهب البعض إلى أن ما بعد الكولونيالية يستحيل أن تحقق الهوية الخالصة لمريديها، فهي مجرد خطاب نقيض يعمل في إطار الثقافة الأوربية السائدة. ويؤكد الناقد «جلال قادر» على التداخل بين أنظمة الـ«ما بعد» لمرجعيتها التاريخية المشتركة. أما في أمريكا اللاتينية، والتي هي حالة مزيج من الخصوصية الثقافية المحلية، والاشتراك التاريخي مع الثقافة الأوربية، فيتبنى بعض منظريها موقفًا وسطًا، ومثال ذلك الموقف التوفيقي الذي يتخذه المفكر الأمريكي اللاتيني «فرناندو دو تورو»، فهو يعارض الموقف الأصولي لبعض كتّاب أمريكا اللاتينية في السبعينيات، حيث طالبوا بالانشقاق عن الفكر الأوربي بحثًا عن جذورهم القومية، ويجد تورو في التشدد الأصولي (بالمعنى الثقافي لا المعنى الديني الشائع لدينا) ما يسيء إلى الكيان القومي. لكن هذا الخطاب الوسطي، لم يكن هو الغالب بين مفكري العالم «الثالث»، (وهو مصطلح شاع منذ مؤتمر باندونج لكتلة عدم الانحياز عام 1955، وثمة مَن يرى وجوب تغييره في زمن تنظيرات «ما بعد الكولونيالية»، التي تتضمن وعيًا بأن الاستعمار مع تخليه عن أساليبه وصوره القديمة، صار يتخفى في أشكال متعددة، مستخدمًا آليات جديدة للهيمنة، بينها الاقتصاد، واحتكار المعرفة والتقنيات)، واندفع كثيرون من مفكري هذا العالم الثالث لتبني خطاب أصولي متمسك بالجذور الثقافية المحلية، في أمريكا اللاتينية نفسها، وفي كندا تمسك الكتّاب المنتمون للسكان الأصليين بأساطيرهم القومية للتدليل على أصالتهم، كما ظهرت في الصين نزعة قوية لإعادة بناء الثقافة الصينية على أسس التعاليم الكونفشيوسية لمقاومة الأنظمة الغربية، التي تريد فرض وجودها الثقافي. أما في عالمنا العربي، فقد ارتفع صوت الخطاب القومي بمعانيه الثقافية والدينية، وهذه النزعة يمكن تفسيرها بوصفها آلية لتعريف الذات وتأكيدها، واعتبارها عنصرًا من عناصر المقاومة، لما هو دخيل عليها ويسعى لتهميشها. وفي ضوء هذه الحالة واسعة الانتشار في العالم الثالث، ينبغي أن نعترف بأن النزعة الأصولية تجسّد القلق الاجتماعي إزاء خطاب الهيمنة الغربية المتستر وراء مزاعم العولمة. فخطاب العولمة المنبثق عن فلسفة «ما بعد الحداثة» عمل على تقليص الإحساس بالهوية المشتركة للجماعات البشرية في بقع محددة من العالم، ومثالها أمتنا العربية، واستهان خطاب العولمة بالتاريخ المشترك لمثل هذه الأمة، رغبة في تحويل الاهتمام بحاضر تحركه قوانين السوق، وتصوغه التطلعات الاستهلاكية. وفي مواجهة هذا التعسف ما بعد الحداثي، العولمي، الغربي، الذي أحسّ كثيرون أن هدفه إضعاف روح الأمة، برزت ردود أفعال متجاوزة، تقتطع من مجمل التاريخ العربي جزءًا وتريد تأصيله بديلاً لكل التاريخ، وتوغل في تجسيم الأساطير، وترويج الخرافات، كأنها بذلك تواجه عفاريت العولمة والهيمنة والغرق الاستهلاكي. ولم يكن هذا الجدل الثقافي العنيف من الجانبين، الغربي الحداثي، والـ«ما بعد حداثي»، والعولمي - من جهة، والشرقي أو الجنوبي القومي، الأصولي، والـ«ما بعد كولونيالي» - من الجهة المقابلة، لم يكن جدلاً صحيًا، وبقدر وجوب نقده في وجهه العولمي الغربي، فإن وجهه القومي ينبغي ألا تترك تجاوزاته بغير نقد، وصولاً إلى حالة سوية من الحفاظ على الهوية. لكن أي شكل للهوية نعني؟ خصوصية وعالمية إن التمسك بالهوية القومية، بمعناها الثقافي، هو محاولة من الشعوب، التي عانت من الاستعمار أو أشكاله الكولونيالية الأكثر تعقيدًا والأبرع تخفيًا، لإيجاد موضع متكافئ على خريطة العالم، والتكافؤ هنا لا يعني المِثل، بل حق الاختلاف، فباستعانتها بالتماسك القومي، تسعى الشعوب المهمّشة إلى تجاوز الدور الثانوي الذي فرضه عليها الاستعمار قديمًا، والهيمنة الغربية حديثًا، وتجاوز هذا الدور الثقافي الثانوي - عبر التماسك القومي - يتيح التمثيل الثقافي المتوازن على الساحة العالمية. وبتطبيق ذلك على الهوية العربية، فإن التماسك الثقافي، لجهة قومية الثقافة، ليس فقط شكلاً دفاعيًا ضد مخططات الهيمنة والتهميش الثقافيين، بل هو سعي نحو عالمية إنسانية تتكامل فيها الثقافات المختلفة لتخلق حالة حوار ثقافي عالمي حقيقي، في إطار تكامل الحضارات بديلاً للصراع الذي بشر به، وأعدّ سيناريوهاته مفكرون تابعون لقوى الهيمنة الشمالية. وبالرغم من أن هذا الطرح الذي قدمته الكاتبة يوضّح انحيازه - العادل - للهوية العربية ممثلة في خصوصية الثقافة القومية، فإننا لن نعدم بعض الحساسيات العربية، التي يثير لديها مصطلح «القومية» شجونًا هي ذات طابع سياسي، وهو أمر نقف بعيدًا عنه تمامًا من منطلقات الثقافة، ونردد مع الكاتبة دعوتها لموقف بديل من هذه الحساسية، فبدلاً من رفض مفهوم القومية كلية، ينبغي التمييز بين المفاهيم المختلفة للقومية، فقد يكون أحدها أو بعضها درعًا لحماية الثقافة العربية، وقد يكون المفهوم في صورة أو صور أخرى عازلاً يصيب هذه الثقافة بالتكلّس. إذن، لابد من مراجعة الذات ثقافيًا، والتمسك بخصوصية هذه الثقافة، والانفتاح على العالم أيضًا. فبهذه الحزمة من التجديد الثقافي الداخلي، والتمسك بحق الاختلاف مع الثقافات الأخرى، والسعي نحو العالمية الإنسانية في الثقافة من دون تنازلات مجحفة، كل هذا يؤطر لصورة الهوية العربية المنفتحة على العالم من دون الوقوع في فخ العولمة بمقاصدها الغربية الرامية إلى الهيمنة والتهميش. وهذه الحزمة من الخصوصية والانفتاح الثقافيين، هي الطريق إلى هوية عربية صحيحة وسط عالم زاخر بالتباينات، وبمعنى آخر، الإيمان بضرورة وجود جماعة ثقافية عالمية تشكّلت، وتتشكّل، بفضل تبادل الثقافات والتعاطي مع الاختلاف. والهدف من تبنّي سياسة الاختلاف، أو ثقافة الاختلاف بمعنى أفضل، هو محاولة تفهم المغايرة في تعدد الممارسات الثقافية لتشييد جسر أو جسور من الحوار والتعاطي مع المختلف، ليس بوصفه خصمًا في نزال، بل بوصفه احتمالاً لتكامل الهوية الذاتية، وهذا يضيف مفهومًا لصيقًا بثقافة الاختلاف هو «العدل الثقافي» الذي يعني التعامل مع الثقافات على قدم المساواة. إن الحفاظ على خصوصية الهوية العربية، والاحتفاظ لها بحق العالمية، ليس من المستحيلات، فبتكريس ثقافة الاختلاف والتماسك الثقافي القومي، وعالمية الحوار الثقافي - بمعنى العطاء والأخذ مع المختلف - نجحت بعض المجتمعات في مشاريعها الخاصة تنمويًا وثقافيًا، ولم تتنازل عن إيجابيات هويتها القومية، كما نشهد في مجتمعات شرق آسيا، التي ابتدعت أنظمة تحديثية نابعة من ثقافتها المحلية، دون أن تدير ظهرها لمتغيرات العالم من حولها. ولعل أوضح مجالات الثقافة تأثرًا بذلك هي مجالات الآداب والفنون، فالخصوصية المحلية أساسية فيهما كما في الحياة، ولكن الخصوصية لا تكتمل إلا بالتفاعل مع الآداب الأخرى، وهذا يقودنا إلى مسألة اللغة التي هي وسيط التعبير الأدبي، وأداة التواصل الحياتي، والدارسون لتاريخ اللغة، انتهوا إلى استحالة إرجاعها إلى أصول جذرية معزولة، لكونها في حالة تولّد ومحو، وهذا ما ينبغي علينا تفهّمه، ونحن نصرّ على حق ممارسة الاختلاف، والعدل الثقافي، والسعي لمد أيادي التعارف العالمي بين هويتنا العربية، وهويات بقية الشعوب، وبمعنى آخر: علينا أن نحتفظ لأنفسنا بحق الاختلاف حفاظًا للخصوصية والملاءمة، ونحتفظ للآخرين أيضًا بهذا الحق. فمن القبول باختلاف الفرقاء يولد الحوار الثقافي الحقيقي، ويتم الأخذ والعطاء على قاعدة العدالة الثقافية، واحترام تعدد الهويات في الكيان العالمي للبشرية. ومن هنا تأتي كل تقنيات الاطلاع المتبادل، والمعرفة المتبادلة، لتدعم هذا التوجه الحميد لعالمية الإنسان، لا عولمة الهيمنة.
|