تسجيل التاريخ مسئولية ثروت عكاشة

تعقيب..

طالعتنا الدكتورة سمحة الخولي بعدد شهر أغسطس من مجلة "العربي" بمقال بعنوان "حسين فوزي، ملامح وذكريات موسيقية". وهذا وفاء يحمد لها، ويؤكد ما سبق أن سجلته عن سيادته في كتابي "مذكراتي في السياسة والثقافة" في طبعتيه.

والثناء على شخص ما في عمل ما يستوجب الدقة في نسبة الأعمال إلى أصحابها، ولا أظن أنه يسعد الدكتورة سمحة الخولي عند التاريخ للأعمال الثقافية أن ينسب المؤرخ ما أدته هي [وهي كثيرا ما أدت ولها بصماتها الإيجابية غير المنكورة، إلى أستاذ آخر وفاء له وتقديرا، ولا أن يذكر التواريخ حين يريد ويجهلها حين يبغي التضليل، لتتوه الحقيقة. فتسجيل التاريخ مسئولية، لاسيما أن الأستاذة الدكتورة كاتبة المقال أستاذة في تاريخ الموسيقى، ولا أظنها تستطيع عزف بعض مؤلفات بيتهوفن إلى موتسارت أو غيره والعكس صحيح.

ولن أتناول كل العثرات التي وردت بالمقال، ولكني أكتفي ببعض النقاط، ومنها "أن الدكتور حسين فوزي قبل عام 1963 مهمة التوجيه العام للكونسيرفاتوار [أي في عهد السيد الدكتور عبد القادر حاتم، واختار له مديراً مؤقتا هو المؤلف الموسيقي شيزاري نورديو.... إلخ". والرواية هكذا مبهمة غير واضحة، لأنه خلال ضم وزارة الثقافة إلى وزارة الإعلام (63- 66) كان معهد الكونسيرفاتوار قد ضم إلى هيئة الإذاعة والمسرح والموسيقى على الرغم من استقلال ميزانيته. وعند عودتي إلى وزارة الثقافة عام 1966 اكتشفت التدهور الذي أصاب المعهد [انظر مذكراتي في السياسة والثقافة، وأن عميده كان عاجزا تماما عن الحركة، فأوفدت الدكتور حسين فوزي إلى الاتحاد السوفييتي برسالة حملتها إياه إلى وزيرة الثقافة آنذاك، فعاونته على الاختيار الذي انتهى إلى الأستاذ إيركلي بريدزي وكيل كونسيرفاتوار تفليس-، فكان والحق اختيارا موفقا لخبير قدير. وقد تركت لهذا الخبير مهلة لدراسة الأوضاع فقدم لي تقريرا يكشف عن مدى الفوضى التي أصابت المعهد والانهيار الذي آل إليه، فعينته عميدا للمعهد في سبتمبر 1967،- وبدأ في تطبيق خطوات الإصلاح حتى وصل بالمعهد إلى عصره الذهبي...

الأكاديمية.. ومعهد التذوق الفني

وعن المعاهد الفنية التي صدر بإنشائها القرار الجمهوري رقم 1439 في الثاني والعشرين من أغسطس عام 1959 تقول: "وعندما استقر الرأي على جمع تلك المعاهد، وكانت وقتذاك ستة فقط، المسرح، السينما، الباليه، الكونسيرفاتوار، الموسيقى العربية ومعهد التذوق الفني في إطار موحد [ويلاحظ القارئ هنا مدى الخطأ في هذه العبارة حيث إن معهد التذوق (النقد) الفني لم يكن قد نشأ بعد كما سيتبين القارئ في سياق الحديث] كلف الدكتور عبدالقادر حاتم د. حسين فوزي للإشراف على وضع أول قانون بإنشاء أكاديمية الفنون"!!!

ويؤسفني أن تعتمد الأستاذة الدكتورة على ذاكرتها فقط عند التاريخ، ولو كلفت نفسها عناء الرجوع إلى المصادر الموثقة وهي متاحة ومتوافرة لجنبت نفسها الوقوع في الخطأ وتشوش الأحداث في ذهنها، أو في الأقل النسيان. والحقيقة، هي أنه بعد اختياري وزيرا للثقافة عام 1966 وعودة المعاهد الفنية إلى كيانها الأصلي في وزارة الثقافة، وبعد انتهائي من مراجعة وحصر ما حل بها من خراب في كنف الهندسة الإذاعية!، وإعادة بنائها من جديد، شكلث عام 1968 مجلسا أعلى للمعاهد برياستي لتجميع هذه المعاهد والتنسيق بينها توطئة لإنشاء "أكاديمية الفنون". ولقد طلبت عندها من د. حسين فوزي أن يترأس هذه الأكاديمية عند إنشائها، وأوفدته في مهمة استكشافية إلى فرنسا والاتحاد السوفييتي بخطابات تقديم إلى السيد أندريه مالرو وزير الشئون الثقافية بفرنسا وإلى السيدة إكاترينا فورتسيفا وزيرة الثقافة بالاتحاد السوفييتي ليقدما إلى سيادته كل العون والخبرات المنشودة، وقد كان. وعاد الدكتور حسين فوزي ليقدم لي تقريره [وهو محفوظ بملفات وزارة الثقافة،. وحين هممت بإعداد قرار تعيينه اشترط أن يجمع بين إدارة الأكاديمية وبين منصبه في صحيفة الأهرام. وحين خيرته بينهما، لأن رياسة الأكاديمية تستوجب فيمن يتولاها أن يتفرغ لها تفرغا تاما، اختار الأهرام. فاخترت أستاذا جليلا آخر هو الأستاذ الدكتور مصطفى سويف، أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس، والذي أعجبت به إعجابا شديدا بعد أن قرأت له سفره النفيس "الأسس النفسية للإبداع الفني"، وعهدت إليه بإعداد مشروع إنشاء أكاديمية الفنون عام 1968، فخطا خطوة أساسية في إخراج هذا المشروع إلى حيز الوجود. وكانت خطوة صياغة قانون الأكاديمية لأول مرة من أهم الخطوات التي تمت بالتعاون بينه وبين الأستاذ الدكتور عز الدين عبد الله عميد كلية الحقوق وقتذاك. وحين نوقش مشروع هذا القانون في اللجنة التشريعية لمجلس الوزراء ثم في مجلس الأمة لقي معارضة من وزير المالية مردها إلى أن المشروع قد تضمن إنشاء معهد "للتذوق الفني". وعلى الرغم من ذلك أصدر الرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله، قانون إنشاء الأكاديمية، ونشر في الوقائع الرسمية في 28 أغسطس عام 1969. وعلى أثر ذلك أصدرت قراري بتعيين الدكتور مصطفى سويف مديرا لأكاديمية الفنون. أما معهد التذوق الفني (النقد الفني) فقد صدر قراره الجمهوري في شهر أكتوبر عام 1970.

من أنشأ أكاديمية الفنون؟

من إذن الذي أنشأ أكاديمية الفنون لأول مرة؟ الدكتور عبدالقادر حاتم والدكتور حسين فوزي عام 1963 كما توحي سيادتها... أم من؟

أترك الإجابة عن هذا التساؤل لسيادتها في خطابها الذي أرسلته إلي بوصفها رئيس أكاديمية الفنون بتاريخ 10/ 4/ 1982 "إنه ليطيب لي من موقعي الجديد في أكاديمية الفنون أن أسجل تقديري، وتقدير المثقفين المصريين لجهودكم التأسيسية القيمة التي أدت إلى إنشاء معاهد أدخلت لمصر فنونا كانت جديدة تماما على حياتنا الثقافية، وأذكر بصفة خاصة المعهد العالي للموسيقى الكونسيرفاتوار الذي يدين بالفضل الكبير لكم لما بذلتموه من جهود عملية في سبيل إخراجه لحيز الوجود والتغلب على بعض المعارضة التي واجهها المشروع في البداية، ثم لتخصيص الأرض الحالية لتشييده وبنائه، وكذلك لإمداده بالخبرات الأجنبية القيمة التي عاونت على الارتفاع بمستوى دراسات الموسيقى في مصر وجعلت لها مكانة ملحوظة في تيار الموسيقى العالمية -. وإنني لأتمنى لكم موفور الصحة واطراد العطاء الثقافي الذي ستذكره لكم مصر دائما".

في رأي أنه على من يتصدى للتاريخ والتسجيل أن ينأى بقلمه عن الهوى، وعن تطويع الأفكار للأماني، ويلتزم الحيدة والحق ودقة الاستقصاء مهما كان هادفا إلى الوفاء.