العرب وفراغ القوة.. مصدر الصراع في الشرق الأوسط

العرب وفراغ القوة.. مصدر الصراع في الشرق الأوسط
        

قليلة هي اللحظات التي يظهر فيها العالم العربي متكاتفًا ومتضامنًا أمام التطورات الدولية والإقليمية الكبرى. فمنذ انهيار السلطنة العثمانية، تعرضت المنطقة العربية إلى شتى أنواع التجاذبات والتحديات والتطورات.

          دون أن نعود إلى ماض بعيد، فلنتذكر كيف نظرت الولايات المتحدة إلى المنطقة العربية في ظرف الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن على أنها تكوّن منطقة تتميز بفراغ خطير للقوة (Power vacuum)، يسهّل توغل النفوذ السوفييتي. والحقيقة أن فراغ القوة هذا كان ناتجًا عن وجود محاور عربية متنافرة ومختلفة ومتصادمة فيما بينها، مما أدى إلى إفراغ منظمة الجامعة العربية من محتواها الهادف إلى جعل المنطقة العربية متضامنة ومتماسكة لمواجهة التحديات الخارجية. فلو كانت الأقطار العربية في ذلك الحين على انسجام فيما بينها وتتخذ الموقف نفسه من كل التحديات، فإن المنطقة لم تكن لتظهر في أعين الولايات المتحدة على أنها منطقة تشكو من فراغ يشكّل خطرًا على المصالح الأمريكية

          وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبالتالي زوال ظروف الحرب الباردة، لم يتغيّر الوضع العربي، بل تدرّج من سيئ إلى أسوأ، عندما أقدم النظام العراقي على اجتياح الكويت، واختلفت مرة أخرى  الأقطار العربية فيما بينها مما أدّى إلى وجود قوات عسكرية غربية في قلب المنطقة العربية. وهذا الفراغ هو الذي يسهّل لدولة إسرائيل استمرارها في التنكّر لحقوق الشعب الفلسطيني، منذ أربعين سنة.

أول عمل جماعي

          والجدير بالذكر في هذا المضمار أن تكوين الجامعة العربية كان عملاً طليعيًا في إطار إعادة تكوين العالم بعد الحرب العالمية الثانية. فالجامعة العربية أول منظمة إقليمية شاملة، تهدف إلى جمع شمل مجموعة الدول، تتشارك اللغة والثقافة والتاريخ، وذلك قبل سنين من تأسيس منظمات إقليمية أخرى كالسوق الأوربية المشتركة وغيرها من المنظمات الإقليمية، التي ظهرت إلى الوجود، وتكاثرت ابتداء من ستينيات القرن الماضي في كل القارات والمناطق، وصارت هي من أهم دعائم حركة العولمة والتنمية والاستقرار في آسيا وأوربا وأمريكا الجنوبية والشمالية.

          وبينما تقدمت المناطق الأخرى في فرض وجودها الاقتصادي والسياسي في النظام الدولي، تخلفت المنظمة العربية، وأصبحت مشتتة إلى درجة أنه ينظر إليها اليوم كإحدى مناطق العالم الأقل تماسكًا، والأقل مساهمة في النهضة العالمية التقنية والعلمية، بالإضافة إلى النظر إليها على أنها مصدر قلاقل في النظام الدولي لتكاثر النزاعات فيها، وأعمال العنف وتصدير الإرهاب إلى مناطق أخرى من العالم.

          وكما أن فراغ القوة عند العرب قد استقطب في الخمسينيات من القرن الماضي تدخل كل من الولايات المتحدة وروسيا في شئونهم، فإن الساحة العربية اليوم بانقساماتها ومحاورها وأهوائها العقائدية وسياساتها المتناقضة، هي التي تجلب تدخل كل من الولايات المتحدة و(إسرائيل) وإيران في شئونها، وتصادم هاتين القوتين على الساحة العربية.

          صحيح أن للعرب بعض الإنجازات التي لا يمكن إغفالها، وبشكل خاص ما حققته دول الخليج العربي من تضامن أمني وسياسي واقتصادي عضوي ومؤسسي في إطار إنشاء مجلس التعاون الخليجي، وذلك بعد النجاح التام لعملية تكوين الإمارات العربية المتحدة، ودون نسيان نجاح تحقيق حدة اليمن الجنوبي والشمالي. صحيح أيضًا أن دول مجلس التعاون حققت عمرانًا كبيرًا منطلقًا من الثروة النفطية العربية. غير أن هذه الإنجازات ترافقت مع العديد من الإخفاقات المريعة، مثل استمرار نسبة عالية من الأمية في بعض الدول العربية المهمة، لا تليق بماضي وتراث العرب، ومثل نسب البطالة العالية في العديد من الدول، وهي تشجع العنصر الشاب، إما على الانخراط في بعض الأحزاب أو القوى المتطرفة، أو السعي إلى الهجرة خارج الوطن. كما أن العديد من الدول العربية أصبحت تتكل على قوى خارجية والتحالف العسكري معها لتأمين أمنها الداخلي، مؤكدة بذلك أن فراغ القوة لايزال مستمرًا في منطقتنا على خلاف ما يحصل في مناطق أخرى من العالم.

ضعف الناتج العربي

          هذا بالإضافة إلى ضعف مساهمة الاقتصادات العربية في حركة العولمة والإبداعات التكنولوجية والاكتشافات العلمية، التي أصبحت تطال معظم مناطق العالم باستثناء عالمنا العربي وإفريقيا. وكما هو معلوم، فإن الناتج المحلي الإجمالي لمجموعة الدول العربية وهو بمقدار 1066 مليار دولار عام 2005 هو بمستوى الناتج المحلي الإجمالي نفسه لدولة واحدة متوسطة الحجم (42.6 مليون نسمة مقابل 306 ملايين نسمة في مجموعة الدول العربية) مثل إسبانيا وهو يبلغ 1024 مليار دولار في السنة نفسها، هذا مع العلم أن زيادة أسعار النفط في السنين الأخيرة هي المكون الأساسي لمعدلات النمو العالية في العالم العربي، إذ لم يكن يبلغ هذا الناتج إلا 667 مليار دولار عام 2002 مقابل 686 مليونا لإسبانيا في السنة نفسها.

ماذا عن المصير المشترك؟

          فإلى متى يبقى العرب في هذه الحال المعيبة التي يشكون منها، ألا يعون أن المسئولية الرئيسية في تزايد عدم الاستقرار واستحالة الحصول على السلام العادل مع إسرائيل هما من مسئوليتهم بالدرجة الأولى، وليست من مسئولية القوى الخارجية، إيرانية كانت أم أمريكية - إسرائيلية؟ فهذه القوى تستغل فراغ القوة لدى المجموعة العربية، وهو ناتج عن انعدام وجود أي نظرة عربية موحدة للمصير المشترك. إن فقدان هذه الرؤية المشتركة ليس بالجديد، فالأقطار العربية المختلفة، التي انبثقت من انهيار السلطنة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى قد دخلت في تنافس وتنافر وسياسة المحاور فيما بينها فور ولادتها. وبدلاً من العمل المؤسسي المنظم ضمن إطار الجامعة العربية لاتخاذ مواقف موحدة من التطورات الإقليمية والدولية، أصبحت الأقطار العربية تتباعد أكثر فأكثر فيما بينها، ليس فقط في تحالفاتها الخارجية المتناقضة، بل أيضًا في تطوير أنظمتها السياسية والاقتصادية الداخلية. أضف إلى  ذلك انفجار الحروب الداخلية وتكاثرها (لبنان، اليمن، الجزائر، السودان، العراق) وتعدد النزاعات بين الأقطار العربية نفسها إلى درجة غزو دولة عربية لأراضي قطر عربي آخر.

          ومما يزيد الطين بلّة تبني الإعلام العربي المقولات والمفردات التقسيمية الطابع والآتية من الإدارة الأمريكية الحالية، والتي تصنّف الأنظمة العربية بين أنظمة «معتدلة» يمكن التعامل معها من جهة، والأنظمة «المتطرفة» أو «الراديكالية»، التي يجب محاصرتها وتغيير نظامها السياسي، من جهة أخرى. وفي الحقيقة أن هذا الطرح الأمريكي الجديد يعيد تكرار طرح قديم ساد في الستينيات والسبعينيات، حيث كانت ترى أيضًا أمريكا أن المجموعة العربية منقسمة إلى دول متطرفة وراديكالية دول معتدلة ضمن سياق الصراع العربي - الإسرائيلي والحرب الباردة، التي كانت تعصف أيضًا بالمنطقة. والفرق بين الوضعين أن الدول العربية في ذلك الحين كانت فعليًا منقسمة فيما بينها بين جبهة سمّت نفسها بــ«جبهة الصمود والتصدّي» (سوريا - العراق - ليبيا - الجزائر) والدول المعتدلة (مصر والأردن والمملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى). وقد حصل هذا الانقسام الحاد بعد انفراد مصر باتفاقية سلام مع إسرائيل في «كامب ديفيد» عام 1978 بعد زيارة الرئيس الراحل أنور السادات الشهيرة إلى القدس ومخاطبته الكنيست الإسرائيلي. وقد كانت دول الصمود والتصدي تتكل كثيرًا على الاتحاد السوفييتي في تسليحها، وفي حصولها على شتى أنواع المساعدات الاقتصادية، بينما كانت دول الاعتدال تتكل كليًا على الولايات المتحدة في رسم سياساتها الخارجية ونمط تنميتها الداخلية.

          وقد تعرضت المجموعة العربية إلى مزيد من الانقسامات عند نشوب الثورة الإيرانية ودخول العراق في حرب شعواء مع إيران، وقد  أصبحت حينذاك الجامعة العربية فارغة من أي فاعلية، وقد ضعفت أيضًا إلى حد الغياب جبهة الصمود والتصدي مع تزايد الفراق بين سورية والعراق، وابتعاد الجزائر والمغرب العربي عن المشرق العربي. وأدى زوال جبهة الصمود والتصدي في نهاية الأمر إلى اتفاق العرب منذ مؤتمر القمة في «فاس» في المغرب إلى القبول بالسلام مع إسرائيل كخيار استراتيجي، وعادت مصر إلى الجامعة العربية. ومع ذلك، فلم يعد التضامن الفعلي إلى المجموعة العربية، بل بقيت الساحة مشرذمة ومفتتة ممّا هيّأ الأجواء إلى المصيبة الكبرى، التي تجسّدت في اجتياح الجيش العراقي لدولة الكويت. وأثبت العرب مجددًا مدى عجزهم عن تأمين استقرار المنطقة العربية ومنع التدخلات الخارجية، إذ إن الولايات المتحدة هي التي بادرت بالقوة العسكرية إلى تحرير الكويت ونشر جيشها في الخليج العربي، وهذا أيضًا ما فتح الطريق إلى غزو العراق عام 2003.

إلى مَن نوجّه اللوم؟

          في الحقيقة، قبل أن نلوم إسرائيل أو أمريكا أو إيران في أوضاعنا المأساوية، يجب أن نلوم أنفسنا، لأن انقساماتنا المتواصلة والمتجددة باستمرار منذ نشأة الكيانات العربية الحديثة إثر انهيار السلطنة العثمانية هي السبب الرئيسي في أوضاعنا المخزية هذه، فالعوامل الخارجية للانقسامات، وفي الأوضاع السائدة، تأخذ هذا الحجم العملاق لسبب رئيسي واحد هو عجز الأنظمة العربية المطلق عن إنتاج أي تصوّر جماعي لمستقبل المنطقة وكل معضلاتها الكبيرة، وأكبر معضلة تسمح بالهيمنة الخارجية، وبالاحتلالات الأجنبية تعود في نهاية الأمر إلى الميل الفطري لدى أنظمتنا في الانقسام والتباعد والتنافر إلى درجة أننا لا نتمكن من الاتفاق فيما بيننا (أنظمة ورأي عام) حول طبيعة الأخطار التي تهدد المنطقة وحول من هو الصديق في لعبة القوى الخارجية للهيمنة علينا، نحن العرب. فإلى متى مثل هذا الوضع السريالي والفتّاك في آن معًا؟

          فالشيء الذي حصل في الماضي البعيد هو ذاته الذي يحصل اليوم منذ أن أعيد الاستقلال السياسي إلى الأقطار العربية المختلفة، التي كانت رزحت قرونًا طويلة تحت الحكم الأجنبي، الشرقي والغربي. ألم نستحق حقًا استعادة الحياة الحرة المستقلة عن أي قوة خارجية، والتي دونها لن تتحقق الكرامة لهذه الأمة وأبنائها، ولا بالتالي الاستقرار؟ ذلك أن الحركات التكفيرية المختلفة ستبقى على نموّها وعلى أعمال العنف الفتّاكة والعبثية داخل المجتمعات العربية وتثير القلاقل والفتن. وستبقى، ولاشك، حركات المقاومة الشرعية ضد المحتلين في فلسطين والعراق ولبنان وسورية نشطة وحاصلة على دعم عربي وإسلامي واسع لأنها تجسّد هي - خلافًا للحركات التكفيرية - آمال الأمة في استعادة كرامتها وتعاضدها في آن معًا أمام كل هذه الأطماع الخارجية النابعة عن الوهن والضعف والسكون والميل شبه الفطري إلى الانقسام.

عفتْ ذاتُ الأصابعِ فالجواءُ إلى عذراءَ منزلها خلاءُ
دِيَارٌ مِنْ بَني الحَسْحَاسِ قَفْرٌ تعفيها الروامسُ والسماءُ
وكانَتْ لا يَزَالُ بِهَا أنِيسٌ خِلالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
فدعْ هذا، ولكن منْ لطيفٍ يُؤرّقُني إذا ذَهَبَ العِشاءُ


حسان بن ثابت

 

جورج قرم