خيري شلبي وجماليات الحكي الإنساني فى رواية

  خيري شلبي وجماليات الحكي الإنساني فى رواية
        

خيري شلبي أصبح حالة إبداعية مُتفردة في القص العربي، حكّاء شعبيًا من طراز فريد، تماما مثل عازف الربابة في القرية

          النعناع نبات ذو رائحة نفاذة عطرة، وهذه الدلالة الفنية انعكست على كل شخوص الرواية، فجاءت الشخصيات ذات رائحة مميزة تعكس طبيعة الزمان والمكان، تستطيع أن تشم رائحة عرق الفلاحين، فالكاتب أعطى مساحات كبيرة للبوح عن طريق ضمير المتكلم، راحت تتوالد القصص في الرواية، قصة بعد قصة، تتفرع الحكايات يمينا وشمالا، شرقا وغربا؛ لترصد ملامح شخوص العائلة/ الرواية ص 31، ثم يفرد لكل شخصية فصلا كاملا؛ ليرسم صورة كلية للقرية كلها، فترة تفشي استعباد الفلاحين في الوسية، قرية الضبعة من أعمال كفر الشيخ، وفد إليها الكثير من الغرباء للعمل في وسية أحد أمراء الأسرة الحاكمة خلال فترة الأربعينيات، تلك الفترة التي شهد فيها الفلاح أبشع صور القهر والاستعباد، عمال التراحيل، التملية، الأُجراء الذين باعوا عافيتهم بلا ثمن، ولم يتم إنصاف هؤلاء الفلاحين إلا بعد قيام ثورة يوليو، وتوزيع عبد الناصر عليهم عقود تمليك الأرض بعد صدور قوانين الإصلاح الزراعي التي قسمت الأرض إلى قطع صغيرة، خمسة أفدنة وتم توزيعها على صغار الفلاحين، ترصد الرواية هذه الفترة البائسة من حياة المعدومين، تبدأ الرواية عام 1945 والراوي يستعد لدخول المدرسة الابتدائية، (الرواية ص 6).

التغيرات السياسية

          الفلاحون الذين جُلبوا من بلادهم البعيدة للعمل في الوسية، أُجراء وتملية، وسكنوا قرية الضبعة، عانوا الكثير من ألوان القهر والضرب بالسياط سنوات طويلة؛ لكن ثورة يوليو 1952أنصفتهم، حيث ترصد الرواية جملة التغييرات الاجتماعية والاقتصادية في حياة هؤلاء الفلاحين بعد قيام الثورة، أرض الوسية وُزعت، والسرايا الكبيرة تصدعت وهدمت بعد هجرها، وبيعت أرضها للفلاحين الذين أقاموا عليها عدة بيوت متجاورة. الكاتب معني برسم ملامح قرية بأكملها؛ لتكون أنموذجًا للقرية المصرية، فجاءت الرواية ممتلئة بالشخصيات الرئيسة والثانوية، حيث قسم الكاتب روايته إلى (31فصلا)، في كل فصل يقص حكاية أو يقدم شخصية من شخوص الرواية، وجاءت معظم فصول الرواية بأسماء أصحابها، مثلا: (الحاجة زهرة خالة العقالوة/ مفاتيح العم جبريل/ زعابيب ست عمره/ حمادة الخريجي/ جسارة الخالة توحيدة)، وهكذا تواترت الشخوص والأحداث في متتالية قصصية؛ لتصنع نسيج هذه الرواية كأنها لوحة فُسيفساء آيتها الحكي الشائق والمفردات الطازجة والطالعة من أفواه البسطاء الذين تعلموا في كُتّاب القرية وأكملوا المشوار في مدرسة الحياة، هذا العالم الروائي يشي بتأريخ تلك الفترة المفصلية في حياة المصريين، انتهاء عصر المملكة المصرية وقيام الجمهورية التي أنصفت الفلاح وأصبح لأول مرة في حياته مالكا حقيقيا لأرضه، وألحق أولاده المدارس الحكومية المجانية، بل التحق الفلاحون أنفسهم فيما بعد بمشروع محو الأمية الذي نادى به أبو السعود أفندي، أول أفندي حقيقي في تاريخ القرية على حد تعبير الراوي، داعيا إلى فتح فصول محو أمية من فاتهم قطار التعليم، واستجابت الوزارة لمطالبهم (الرواية ص 163).

          نعم بعد قيام الثورة كثر عدد الأفندية في القرية حيث انفضت الوسية، ورحل أصحابها بعد قيام الثورة في مصر التي طردت الملك فاروق ثم طردت الإنجليز ومنعت الألقاب، (الرواية ص 42).

          تغيرت الحال أمام أبو السعود أفندي لضياع هيبة اللقب واستغنى عنه بلقب الأستاذ ثم المفتش؛ لأنه بعد قيام الثورة كثر عدد الأفندية، يقول الراوي على لسان أبيه عبدالعال:

          (اليوم زاطت! وأصبح العدد في الليمون، كل عشرة بقرش تعريفه أو بكوز ذرة، لكن ثلاثة بالله العظيم،أنالا أنطقها أبدا إلا لمن كان أفنديا حقيقيا قبل الثورة! بلاش مسخرة وقلة حيا!!!)، (الرواية ص 41).

ملامح الشخصيات

          إلى جانب عالم الراوي الذي بدأ منتصف الأربعينيات في ريف مصر، وما يعتمل في نفسه من توجسات مُدهشة لمعرفة العالم الذي يمور به عالم الوسية من سيطرة وقهر للفلاحين والخفراء والأُجراء والتملية، ومن خلال عين الراوي الراصدة للمشاهد البصرية التي يرقبها عن قرب شاهدنا خلال فصول الرواية جملة التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تواترت عبر زمن الرواية الذي تجاوز خمسة عشر عاما(1945 - 1961)، رأينا كيف يتنقل الراوي في سلاسة ويسر عبر فصول قصيرة مكثفة ومؤطرة؛ ليحكي سيرة قرية بأكملها مزدحمة بالشخصيات (الضبعة  كفر الشيخ) حتى أن بيت الراوي نفسه، بيت عائلة كبيرة العدد، يقول الراوي: (في دارنا خمسة رجال، وست نساء، يصرن تسعا عند حضور عماتي لزيارتنا، وتسعة وعشرين ابنا وابنة، ست بنات وولدين لعمي زكريا، خمسة صبيان وبنتين لأبي، ثلاثة صبيان وثلاث بنات لعمي جبريل، ثلاث بنات وولد لعمي أبو السعود أفندي، ولدين وبنتين لعمي موسي، (الرواية ص 31)، لكن يعود الراوي ويقرر في آخر صفحات الرواية أن عمه أبو السعود أفندي بعد بيع محصول القطن، جلس يفكر لتدبير قائمة نفقات العديد من الضرورات الملحة العاجلة لـ 45 فردا مجموع العائلة:

          (لعل أهم ما هو مطلوب منه الآن وقبل كل شيء، هو تدبير نفقات كسوات متعددة الأشكال والأنواع والألوان والأحجام لما يقرب من خمسة وأربعين فردا)، (الرواية ص 191).

          ومع ذلك نجح الكاتب بحرفية ودربة في أن يختار شـخوصه من وسـط هذا الزخم لقرية بكاملها، حيث قـدم شخوصه في تقطير مكثف عبر لوحات تقترب كثيرا من لغة البورتريهات التي ترسم ملامح الشخصيات الداخلية قبل الخارجية، وبلغة جذابة وحكي أخاذ قدم لنا نماذج بشرية ماثلة في ذاكرته لم تتمكن السنوات من نسيانها، من هذه الشخصيات المتفردة شاهدنا (محمد حسين المكوجي) والعرق يتصبب من وجهه وهو سعيد بإتقان عمله إلى آخر درجة، ورأينا (حمادة الخريجي كاسح المراحيض) ونظرة التأفف واضحة على كل أهل القرية آخر النهار عندما يهم بالجلوس على مصطبة بسطويسي وقد اغتسل وتحمم في الجامع الكبير ولبس أحلى ما عنده من الجلاليب، وتعاطفنا مع (الشيخ عرفات التُربي) ذلك الكفيف أمثولة القرية كلها حين يقوم بدوره المُهم الثاني (المنادي) والذي تنصت له القرية كلها، بل تستجيب له نتيجة حسن صوته والعبارات المُنغمة التي يؤلفها خصيصا حسب الموقف، نسمعه وهو ينادي: (يا أنفار يا شغيلة، بُشرى للعاطلين القاعدين جنب النسوان، لا شغلة ولا مشغلة، ولا حتى قادرين على المسألة، فيه شغل بكره في الوسية، اليومية سبعة صاغ، واللي راغب يقوم دلوقت حالا يروح للمقاول علي منصور، (الرواية ص84)، وكرهنا (ست عمره) حماة أبو السعود أفندي، تلك المرأة المتغطرسة، سليطة اللسان التي حسبت نفسها فوق الناس جميعا؛ لأنها أرضعت بنت الأميرة مع ابنتها تفيدة، فهجرها أبناؤها للعمل في الإسكندرية، وقاطعتها ابنتها تفيدة زوج أبو السعود أفندي: (ثم آبت العلاقة بينهما إلى قطيعة كاملة، سنوات طويلة، لا مواسم، لا أعياد، لا مناسبات بينهما) (الرواية ص 118). نعم استطاع الكاتب بمهارة وحرفية في الحكي وطريقته المتفردة في رسم الشخصيات أن يجعل شخوصه من لحم ودم تتحرك أمامنا طوال فصول الرواية وتظل عالقة في الذاكرة فلا يمكن أن ننساها أبدًا.

مشهدية بنية السرد

          ينهض بمهمة السرد في رواية (نعناع الجناين) الراوي العليم، حيث تتداخل تعليقات الراوي داخل متن الرواية؛ لينقل كلام الآخرين، ويعلن الراوي السارد عن وجوده وبقوة داخل مسرودات النص، تبدأ الرواية هكذا: (عائلتنا بدون عمي أبو السعود أفندي عقل، تصبح عائلة بائسة من دون العائلات. جدي حسن عقل رجل حكّاء بارع، (الرواية ص 5)، ثم يواصل الراوي تقديم جده ونفسه قائلا: (وحيث كنت أتأهب للالتحاق بالمدرسة الابتدائية في منتصف أربعينيات القرن العشرين، كان جدي بسم الله ما شاء الله عفي البدن والذاكرة)، (الرواية ص 6)، ويقوم الراوي بمهمة السرد قائلا: (قال جدي حسن: عمكم أبو السعود أول أفندي في عموم الناحية! أو قال عمي جبريل... أو قال أبي عبد العال....) أو ينقل الحوار هكذا: (في ضوء القمر فيما أنا راقد، ساندا رأسي على ركبة جدتي معزوزة، قال جدي: تربيتي لولدي أبو السعود يا معزوزة كأنني اشتريت لكم ألف فدان من أرض زراعية)، (الرواية ص 8) ، ويعود الراوي لسرد الأحداث علي لسانه قائلا: (عمي إذن هو التاريخ الراهن المشرق لجدي حسن، (الرواية ص 9).

          على أن الراوي الحاضر سواء بضمير المتكلم أو بصيغة الفعل المضارع الذي يُعطي حيوية وحرارة للمشهد البصري؛ لتجعله حيا ماثلا في ذاكرة القارئ، يقول الراوي: (في السنوات الأخيرة كنت أدخل على عمي أبو السعود في باكورة الصباح كي أصب له الماء بالإبريق ليتوضأ، ثم أصلي الصبح وراءه، أراه يشرع في اللبس، يفتح الدولاب في سأم، تنطلق رائحة النفتالين المخزونة مع رائحة العرق القديم في أنسجة الثياب، يقف حائرا وهو ينقل البصر في اشمئزاز بين البدلتين، يتجسد الحزن والألم على وجهه، إذ يترك هذه ويمسك بالأخرى)، (الرواية ص 38).

          وهكذا نجح الكاتب في أن يأخذ بتلابيب القارئ؛ ليضعه معه في وسط المشهد، نسمع صوت الدولاب وهو يُفتح (حركة) ونشم رائحة النفتالين وهي تنطلق من الدولاب (رائحة) ونرى ملامح الحزن والألم وهي تتشكل على خريطة وجه أبو السعود أفندي من سوء الحالة التي وصلت لها البذلتان (صورة)، هذا المشهد البصري الأخاذ بأبعاده الثلاثة (حركة/ رائحة/ صورة) تجعلنا نتعاطف مع العم أبو السعود أفندي الذي يمسك بمصروف العائلة كلها؛ لكن بحكم مسئوليته وهو عميد العائلة المسئول عن إطعام وكسوة ومصاريف 45 فردا لا يستطيع أن يفصل لنفسه بذلة جديدة حتى بعد بيع محصول القطن)، (الرواية ص 194).

لغة الرواية

          نجح خيري شلبي إلى حد كبير عن طريق الحذف والإيجاز وعدم الاستطراد في اللغة والتكثيف والتقطير في استخدام اللغة المدببة نحو الهدف، واختيار شخصيات وأحداث بعينها تشي بملامح شخوصه وترصد تناقضاتها المتباينة في أفراحها وأحزانها، لهوها وصخبها، حزنها وضجرها، كأنها كولاج وشريط سينمائي يمر أمام عين القارئ، وذلك بلغة شعرية، بسيطة، موحية مؤثرة، متدفقة، جذلة موجزة، وشت بالخطاب الروائي الذي أراده الكاتب دون مباشرة أو زعيق؛ لنرى كيف نقل إلينا الكاتب مشهد العائلة وهي تتحلقفي جلسة العصرية، حول حكايات الجد حسن، هذا المشهد البصري الذي نجح الكاتب في تصويره بحرفية ومهارة عالية، وجعله ماثلا أمام عين القارئ كأنه صورة سينمائية: (المصطبة البحرية الملتحقة بالجنينة هي قعدته الحميمة التي تتسع لجمعنا وقت الأصيل، حيث الشمس الآفلة قد صبغت شواشي النخيل والأشجار بالحناء القرمزية الحجازية لا شك، تلك أروق لحظات جدي حسن، تنتشي منها جدتي معزوزة وبخاصة إذا أرادت أن القعدة قد استقطبت أولادها) (الرواية ص6).

          تلك هي طريقة الحكاء الشعبي، عازف الربابة التي يعرف جيدا متى يبدأ، ويعرف بالضبط متى يحين وقت التوقف والانصراف أيضا، لكنه يدرك أنه قبل أن ينصرف قد شبع الناس منه وأرضى نفسه وموهبة الفنان الكامنة داخله حتى ولو أخذ القليل من عطايا المستمعين والبسطاء الذين طربوا لسماعه ونجح هو فى جذبهم إليه ومدوا أيديهم في جيوبهم شبه الفارغة؛ ليعطوه من قروشهم القليلة، كأن الروائي الكبير خيري شلبي يُدرك تماما أنه عازف ربابة الرواية العربية، فهو قد ملك مفاتيح الحكي الإنساني الذي لا يزال قادرا على استيلاب القارئ العربي من دوامة الشقاء اليومي خلف بوابات العمل وإن عاد مُتعبا تلتهمه الفضائيات المُغرية، ومع ذلك لا يزال الروائي خيري شلبي الذي بات يُشبه إلى حد كبير العظيم يحيى حقي في هيئته ومشيته وملامح وجهه، يُراهن على استرجاع القارئ الحصيف متى تهيأت له ظروف القراءة، وتوافرت له رواية جيدة، تأخذه من هموم الحياة اليومية، ويعود به إلى أيام جميلة محفورة بعيدا في ذاكرة الأيام البعيدة.

          في رواية نعناع الجناين يُراهن خيري شلبي على أن الحكي الإنساني لا يزال قادرا على استيلاب القُراء، وجاء حصوله على جائزة التميز من اتحاد كتاب مصر عن مجمل أعماله 2003، وجائزة نجيب محفوظ 2003 التي تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة عن روايته «وكالة عطية»، ثم حصوله على جائزة الدولة الـتقديرية في الآداب 2005، يُمثل اعترافا بقيمته ومنجزه في الرواية العربية.

لنا في كلّ يومٍ منْ معدٍّ سِبابٌ، أوْ قِتَالٌ، أوْ هِجاءُ
فنحكمُ بالقوافي منْ هجانا ونضربُ حينَ تختلطُ الدماءُ


حسان بن ثابت

 

خليل الجيزاوي