شوقية مجهولة

شوقية مجهولة
        

من المعلومات التي لم أكن أعرفها من قبل، مثل كثيرين غيري في مجال التاريخ الأدبي، أن أحمد شوقي ألقى بقصيدة طويلة في الحفل الختامي لمؤتمر الموسيقى العربية الذي أقامه نادي الموسيقى الشرقي، في الثالث من أبريل سنة 1932.

يقول مطلع القصيدة:

نَزَلَ المنَاهِلَ والرُّبَا أذارُ يَحْدُو رَبِيعَ رَكًابِهِ النُّوَارُ


          وقد ذكر ذلك المؤرخ الكبير يونان لبيب رزق مع أبيات قليلة من القصيدة تشير إلى أهمية الحدث العالمي الذي لم يتكرر له مثيل إلى اليوم، سواء في نوعية المشاركين واختلاف حقولهم المعرفية، التي جمعت بينها الموسيقى العربية. وكان أول ما لاحظته أن القصيدة تبدو غريبة تمامًا على أذني وذاكرتي، خصوصًا أنني قرأت الشوقيات مرّات ومرّات، وقمت بتدريس قصائدها ودرسها على السواء، وذلك من عهد أطروحتي لدرجة الماجستير عن (شعراء الإحياء) الذين يتصدرهم شوقي وقرينه حافظ إبراهيم وأستاذهما محمود سامي البارودي. وراجعت (الشوقيات) مرة أخرى على سبيل التأكيد. فلم أجد القصيدة مذكورة في (الشوقيات) المزعوم أنها كاملة. وقد أصدرتها الشركة المصرية العالمية للنشر - لونجمان - بتحقيق وتبويب وضبط وتعليق الدكتور علي عبدالحميد. فعدت إلى (الشوقيات المجهولة) التي أعدّها محمد صبري السربوني، رحمه الله، وجمع فيها ما فات مَن جمعوا (الشوقيات)، ووجدت القصيدة منقولة عن جريدة (الأهرام) في عددها الصادر في اليوم الثاني من حفل ختام المؤتمر، ربما في الرابع من أبريل سنة 1932. وقد أحسن المرحوم محمود الحفني حين ذكر القصائد في وقائع الحفل الختامي في المجلد التذكاري الذي أصدره عن المؤتمر ومعها قصيدة شوقي المجهولة في الوقت نفسه، فشعرت بالفرحة لاكتشاف شوقية يجهلها الدارسون، ولم أكن أعرفها من قبل، وعرفتها بفضل يونان لبيب رزق، فله الشكر والتحية والعرفان على هذه اليد البيضاء في إضاءة تاريخ ما أهمله التاريخ الأدبي.

رحلة مع القصيدة

          وأقبلت على القصيدة التي يبلغ عدد أبياتها تسعة وخمسين بيتًا، موزّعة على ثمانية أقسام، أولها أشبه باللحن الاستهلالي الذي يجذب الأسماع والقلوب، فيدخلها بالتدرج إلى موضوعات القصيدة الأساسية، كأنه المقدمة الموسيقية، التي تنتزع السامع من حال إلى حال. كي تضعه في سياقها، وذلك على النحو التالي:

نَزَل المنَاهِلَ والرُّبا آذارُ يَحْدُو رَبيعَ رِكَابِهِ النُّوارُ
يَخْتالُ في وَشْي الرِّياضِ وَطِيبِها وتَزَُفَّهُ الرَّبَواتُ والأَنْهارُ
سَمُحَ البَنَانِ بكُلِّ مازانَ الثَّرى فَالْوَشْيُ يُوهَبُ والحُلِي يُعارُ
مَلأَ الخَمَائِلَ مِنْ تَصاوِيرٍ كَمَا مَلأَ الرَّفارِف بالدُّمَى الحْفَّارُ


          وكعادة شوقي، يبدأ مقدماته الاستهلالية بمقدم الربيع، مع آذار الذي يغدو، رمزيًا، شهر الخصب والنماء والعطاء، وانبعاث الحياة العفية من الطبيعة، متمثلة في أزهارها وطيب رياضها، وخرير مياهها في تسلسلها وتموجاتها الرقيقة التي تبدو - كما كتب شوقي في قصيدة أخرى - كأنها مرت على أوتار، مقترنًا بالموسيقى، التي هي مقترنة بمقدمه، في  التقاليد الشعرية، خصوصًا تلك التي تجسّده كائنًا حيًا، يختال باسمًا من الحسن الذي يضفيه على ما حوله. ولذلك يظهر الربيع، في قصيدة شوقي، مُشخّصًا، عبر الاستعارة المكنية، فيظهر مرح الخطو في وشي الرياض، تزفه الأنهار، فيمضي سمح البنان، كريم العطاء بكل ما يثمر من الأرض.

          وينتقل شوقي بعد هذه المقدمة التي تناسب المقام في محفل ربيعي للفن إلى الضيوف من الوفود والمضيف الملك، جامعًا ما بين حسن الانتقال، واصلاً صور الطبيعة المحتفية بمقدم الربيع بحضور مصر التي تحتفي مع مليكها، أو وراء مليكها، بضيوف التاج الكريم الذي هو قلب مصر الذي ينفتح لكي يحل الضيوف في رحابه، فمصر أرض الكرام لمن يمشي ضيفًا في أرضها، وأرض الإباء المقاومة لمن يمشي غاصبًا متجبرًا، في إشارة واضحة إلى الاستعمار الجاثم على الأرض كالضيف الثقيل:

نُزَلاءَ مِصْر حَلَلْتُم بِفُؤادِهَا وحَوَتْكُم الأسْمَاعُ والأَبْصَارُ
ضَيْفًا علَى التَّاجِ الْكَرِيمِ وَطَالَمَا هَتَفَ النَّزِيلُ بِهِ وَغَنَّى الجارُ
تَاجٌ كَقُرْصِ الشَّمْسِ مِلْءُ إطَارِهِ عِِتْقٌ وَمَجْدٌ تَالِدٌ وَفَخَارُ
وَكَأَنَّ كِلْتَا صَفْحَتَيْهِ مِنَ السَّنَا وَمِنَ التَّلَبُّسِ بِالشُّمُوسِ نَهَارُ
نَحْنُ الكِرَامُ إذا مَشَى فِي أَرْضِنَا ضَيْفٌ وَنَحْنُ بِأَرْضِنَا أَحْرَارُ


          ثم ينتقل شوقي من التعميم إلى التخصيص، متوقفًا عند فن الغناء الذي يصفه على النحو التالي:

ألْحَانُ كُلِّ جَمَاعَةٍ وَغِنَاؤُهُمْ لُغَةٌ وَنَجْوَى بَيْنَهُمْ وَحِوَارُ
نَغَمُ الطَّبِيعَةِ فِي أَغانِيهمْ وَمَا تُمْلى الرِّيَاضُ وَتُنْشِئُ الأَزْهَارُ
لاَ تَعْشَقُ الآذَانُ إلاَّ نَغْمَةً كَانَتْ عَلَيْهَا فِى الْمُهُودِ تُدَارُ


          والمقطع كله ينطق بعشق شوقي لفن الغناء الذي لا أدل عليه من اصطفائه عبدالوهاب ورعايته والإسهام المستمر في صقل موهبته وتوسيع آفاقه المعرفية، فضلاً عن عدم بخله بقصائده التي ازدادت جمالا بغنائها. ولذلك يجعل المقطع الغناء لذّة الأمم الذي ترتاح إليه ومعه من كفاح الحياة الشاقة وعملها المرهق. وقد ظل الغناء، ولايزال، فرحة الباحث عن الفرحة، ومتنفس الحزين، وثورة الثائر على الظلم، والرابط بين الأخوة والأمم في كل مكان. فهو الروح الذي يصل ما بين الجميع في عدالة لا نظير لها، لا يخص بمتعته وسحره غنيا دون فقير، وأعجميًا دون عربي، فالكل في ساحة الفن سواء، والكل يجدون في غنائه وموسيقاه ما يرقى بالحياة من وهاد الضرورة إلى آفاق الحرية، فهو الخمر والسحر المبين، كما أنه الشجو والزفرات والتذكارات. وهو حاضر أبدًا في النفوس، مهما تبدلت الأيام والأقطار، وألحان كل جماعة، فغناؤهم لغة تصل ما بينهم، وحوار يجمع شملهم، ورابطة روحية تصل بين الإنسانية كلها، وحوار يدعم التنوع الخلاّق الذي تغتني به المعمورة الفاضلة، فمجال الغناء لا نهاية له أو حدّ، يبدأ من أنغام الطبيعة وحركات الزهور، ويصاحب الكائنات من المهد إلى اللحد.

عالمية الألحان

          وبعد أن يؤكد شوقي وحدة الخاص والعام في الغناء، ولا يغفل المعنى الإنساني لعالمية الأنغام والأصوات، يدرك أن القصيدة حان التفاتها إلى قصر عابدين، مقر الملك فؤاد الذي بناه والده إسماعيل، وظل منارة لإشعاع الحضارة والفن في ربوع الوادي، فيقول:

عابدين ركنُكَ موئلٌ ومثابةٌ مازال يُستذرى به ويزارُ
ثبتت أواسي العرش في محرابهِ وأوتْ إليه أمةٌ وديارُ
وعلى مطالعه وفي هالاته بزغت شموس العزّ والأقمارُ
للعلم منه وللثقافة حائط يؤوى إليه وللفنون جدار
أنزلت في ساحاته شعري كما نزَلَتْ رتاجَ الكعبة الأشعارُ
ونظمت فيه وفي وضاءة ليله مالم تزل تجري به الأسمارُ
ورحابك الربوات إلا أنها أرض الندى وسماؤه المدرارُ
إفريقيا في ظلك اجتمعت على صفو فلا نزلت بها الأكدارُ
في المهرجان العبقري تسايرت أعلامها وتلاقت الأنوارُ
لما دعا داعي المعز إلى القِرى شدّت صحار رحلها وقفارُ
سفر إلى الوادي السعيد وملكه حسدت عليه وفودها الأمصارُ
رفعوا شراع البحر يستبقونه ولو أنهم ملكوا الجناح لطاروا
أمم من الإسلام يجمع بيننا ماض وأحداث خلون كبارُ
وحضارة الفصحى وروح بيانها وقريش العالون والأنصارُ
وحوادث تجري لغايتها غدا ولكل جار غاية وقرارُ


          وتسترجع أبيات المقطع، في بدايتها، المعجم التراثي كي تؤكد أن قصر عابدين الموئل والمثابة والمزار والمحراب الذي تجذّرت فيه أسس العرش، فأصبحت له مهابة لا تخلو من معنى ديني، كما أصبحت له مكانته المدنية التي يؤدي إليها العلم فيجد الرعاية، والفن كي يجد الحماية، وينتقل الشاعر من العام إلى الخاص. ملتفتا إلى حضوره بوصفه شاعر الأمير الذي ولد بباب إسماعيل، فيحدثنا عن شعره الذي رعاه هذا القصر، كناية عن ساكنيه، واعتزازا بالمكان الذي تنزل شعره في ساحاته كما تنزلت ستور الكعبة، ونظم فيه قصائده التي تجري بها الأسمار، ويصف من صباحة نهاره ووضاءة ليله ما لايزال باقيا على الألسنة. ولا غرابة - والأمر كذلك - أن تلوذ وفود العالم بهذا القصر الذي شجعها على الحضور، وأبدى لها حسن الضيافة والتكريم، ابتداء من وفود إفريقيا البيضاء التي ضمت المغرب الأقصى وتونس والجزائر وليبيا، مرورًا بوفود المشرق التي ضمت العراق وسورية ولبنان، جنبا إلى جنب وفود أوربا التي احتفت بالمؤتمر، وشاركت في مهرجانه العبقري، فتسايرت أعلامها وتلاقت أنوارها، وذلك استجابة لدعوة المعز الداعي إلى العطاء، وإلى زيارة الوادي السعيد بالبر والبحر، وكانت النتيجة أن جمع المؤتمر بين أمم أوربا وأمم من العروبة والإسلام التي يصل بيننا وبينها تاريخ مشترك، وحضارة الفصحى وروح بيانها، فضلا عن الإنسانية التي جاء علماؤها المهتمون بالموسيقى العربية، إلى أرض الكنانة التي استقبلتهم جميعًا في أحضانها، كي تتدارس معهم مستقبل هذه الموسيقى في مؤتمرها العالمي الأول لقديمها الذي يشبه شمس النهار، وجديدها المتغير كمصباحها الملهب، كما يقول شوقي في قصيدة أخرى عن العلم.

تحية جديرة

          هكذا نأتي إلى خاتمة القصيدة التي لا تنسى معهد الموسيقى، فتخصه بالتحية التي استحقها عن جدارة بفضل من جاء إليه من كل فج عميق، وبفضل إتاحته الفرصة للجميع كي يجتهدوا ويتناقشوا، أو يتفقوا ويختلفوا، كأن المعهد مضمار سباق لا سابق فيه ولا لاحق، فالكل سابق، والكل غانم حتى من الاختلاف، لا يبقى سوى لحن الختام الذي يصل إلى ذروته بسلام الملك فؤاد، ملك مصر والسودان، صاحب المنجزات التي لا عدّ لها كصاحبها صاحب التاجين الذي يختم شوقي قصيدته بالدعاء له، فهو كالرشيد في كرمه وفي حرصه على تقدم أمته. ولذلك يبدو المقطع الأخير كأنه تصاعد نغمي، يهدف إلى ذروته التي هي مدح المليك والدعاء له كعادة شعراء التراث الذين لم يكف أحمد شوقي عن محاكاتهم والإضافة إليهم في آن.

في معهد الوادي ودار غنائه فرح تسير غدا به الأخبارُ
بعثت له الدنيا كرائم طيرها من كل أيك بلبل وهزارُ
وحوى النوابغ فيه حول نواله ملك على حرم الفنون يغارُ
جلب السوابق كلها فتسابقت حتى كأن المعهد المضمارُ
إحسان مجبول على الإحسان لا تحصى صنائعه ولا الآثارُ


بناء عقلاني

          وأول ما يمكن ملاحظته في القصيدة، بناؤها الذي يبدو أكثر تكاملاً من قرينتها التي كتبها شوقي بمناسبة وضع حجر أساس نادي الموسيقى الشرقية سنة 1923. وتتجلى صور هذا التكامل في البناء العقلاني الذي تترتب به أقسام القصيدة منطقيا، ابتداء من المقدمة التي تؤدي وظيفتها المعتادة في الشعر العربي، لكنها تستبدل بالحديث عن الأطلال الحديث عن الربيع، كما لو كانت تستبدل جمال الربيع بجمال الحبيب. ويأتي بعد ذلك التعريج على ضيوف مصر ومضيفهم الملك الذي لا يفارق مظهره التشبيهات القديمة المعتادة في هذا المجال، فتاجه الكريم كقرص الشمس، وهي صورة تمزج بين التراث العربي البلاغي والتراث الفرعوني الديني. وتنتقل القصيدة انتقالاً سلسًا إلى رعايا المليك الذين يصبحون مرايا عاكسة لأمجاده.

          وهي انتقالة تتبعها إشارة الفخر بمصر التي ترعى الفن الجميل، على طريقة الانتقال من الديار إلى ساكنيها، ويأتي بعد ذلك المقطع الذي يتحدث عن الغناء. وهو الهدف الرئيسي من القصيدة، لكن دون أن يفصل بين موئل الفن ومبدعيه، ابتداء من الفراعنة القدامى إلى الفراعنة المحدثين، وتتوقف القصيدة بعد ذلك عند قصر عابدين الرمز والمثال الذي توجهت إليه الوفود، وطبيعي أن تكون الخاتمة عن المعهد المحتفى به، وطبيعي أن يردنا بيتا النهاية إلى فؤاد فيما يشبه حركة الدائرة التي ترد صدرها على عجزها.

          وتظهر تقاليد الصنعة التراثية واضحة في المفردات، وفي الحرص على تأكيد النغمية بالتسوية بين المقاطع العروضية والمقاطع الدلالية في حالات كثيرة، كما تظهر في الوقت نفسه صلة القصيدة بغيرها من قصائد شوقي، خصوصا حين يرد ذكر الموضوعات المحببة إليه في الوصف: الطبيعة، النيل، التاريخ، أماكن الحكم وقاعات عرشه. ولذلك، تبدو القصيدة كالرسالة التي تجمعها وحدة الموضوع، الذي تعالجه من زواياه العديدة. أما التقنية فهناك حسن التقسيم، وتقابل المختلفات والمتشابهات دلالياً. وهناك وحدة الأبيات التي لا تعرف التدوير الذي يعبر نهايات أبياتها. وهناك التشبيه الذي يلفت انتباهنا أكثر من غيره من الاستعارات التي هي موجودة، ولكن ليس لها فاعلية التشبيه البليغ الذي يقترب من الاستعارة دون أن يكون هو إياها، والكناية لافتة في تكرارها ومساعدتها التشبيه البليغ على تأدية أدواره. وأضف إلى ذلك غرام شوقي بقالب الحكمة التي لا تخلو منها قصيدة له، وهي تكرر في القصيدة في صيغ من قبيل:

في كل جيل عبقري نابغ غرد اللهاة مفنن سحار
ألحان كل جماعة وغناؤهم لغة ونجوى بينهم وحوار
لا تعشق الآذان إلا نغمة كانت عليها في المهود تدار
وحوادث تجري لغايتها غدا ولكل جار غاية وقرار


          ولا ينفصل عن ذلك كله الحس التاريخي الذي يتميز به شعر شوقي الذي يرى بعيني الماضي، ويجعل منه الإطار المرجعي في الحكم على الأشياء، وأصل الفخر في مواجهة كل جديد، وطبيعي أن يبدأ الماضي من حضارة الفراعنة الذين سبقوا إلى اختراع الموسيقى وابتداع آلاتها. وتأتي بعدهم حضارة الإسلام والعرب التي حفظت من أسماء المغنين والمغنيات، ومن منظري الموسيقى وعلمائها، ما أضاف إنجازهم إلى ميراث الإنسانية، وكان أصل النهضة الأوربية الحديثة التي جاء علماؤها إلى القاهرة، كي يزيحوا غبار الإهمال عن التراث الموسيقي، ويساعدوافي صيانته وتطويره. ولاينسيه الاستغراق في الماضي ذكر إسماعيل، ولد فؤاد، الحالم العظيم بالمستقبل الذي رعى أبرز المغنين والمغنيات في عصره من أمثال عبده الحامولي وألمظ، عارفًا قيمة التراث وضرورة إحيائه، ولا أريد أن أتتبع تجليات الحس القوي بالماضي في القصيدة تفصيلاً، يكفي الإشارة إلى صور من مثل (شموس العز والأقمار) أو:

لما دعا داعي المعز إلى القرى شدّت صحارٍ رحلها وقفارُ


أو:

جلب السوابق كلها فتسابقت حتى كأن المعهدَ المضمارُ


الاستغراق في التراث

          ولم تكن دعوة فؤاد دعوة إلى القِرى (العطاء)، وإنما كانت دعوة إلى مؤتمر علمي، ولم يشد المدعوون رحالهم عابرين الصحارى والقفار، بل جاءوا بالبواخر والطائرات. ولم يكن المدعوون خيلاً تتسابق، ولا المعهد مضمرًا للسبق، وإنما كانوا علماء يتنافسون في معرفة الحقائق الجديدة عن تراث الموسيقى العربية والكشف عن أسرارها. ولكنه الاستغراق في التراث وتقمص صورة الشاعر القديم والسير على منواله في المديح، خصوصًا حين يأتي ذكر قصر عابدين، فيذكرنا بوصف البحتري لقصور الخلفاء، بل قصيدته الشهيرة عن الربيع التي تبدأ على النحو التالي:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا من الحسن حتى كاد أن يتكلما


          وهي صورة أرى فيها بذرة المقطع الأول من قصيدة شوقي الذي رعاها ونمّاها وأكملها.

          وما دمنا في مجال (الحس التاريخي) فمن اكتمال الملاحظة أن نؤكد أولية التشبيه على الاستعارة التي تأتي تابعة للتشبيه أو شارحة، أو ممهدة له، وذلك في صورة تشبيهية من مثل:

تاج كقرص الشمس ملء إطاره عتق ومجد تالد وفخارُ
وكأن كلتا صفحتيه من السّنا ومن التلبس بالشموس نهارُ
أنزلت في ساحاته شعري كما نزلت رتاج الكعبة الأشعارُ
ورحابك الربوات إلا أنها أرض الندى وسماؤه المدرارُ


          وبالطبع يلفت الانتباه في الصور التشبيهية التي استشهدت بها المبالغة المأثورة في مدح المليك، واعتزاز الشاعر بشعره في الوقت نفسه، ومن ثم فخره به وفخره براعيه الملك - الشمس الذي تبدو حوله الملوك كواكب أقل منه ضوءًا ووزنًا وحجما ومكانة.

لماذا ظلت مجهولة؟

          ولكن يبقى السؤال الذي لا سبيل إلى إغفاله، وهو لماذا ظلت هذه الشوقية مجهولة، هل لأن شوقي لم يضمها بنفسه إلى شوقياته التي طُبعت بعد وفاته بتقديم محمد حسين هيكل لجزئها الأول؟ أغلب الظن أن شوقي كان قد أخذ يدخل في دوامات المرض (تصلب الشرايين) الذي ألزمه الفراش لأربعة أشهر، نهض بعدها رجلا غير الرجل، لا يقرأ إلا في التصوف والفلسفة الإسلامية. ولا يقرض الشعر إلا إذا غلبه شيطانه، فيقاوم مرضه بالإبداع.

          وظل كذلك إلى سنة 1932، حيث كتب هذه الشوقية المجهولة في أواخر شهر مارس أو مطالع أبريل، وكان ذلك قبل ستة أشهر من وفاته على وجه التقريب، ولذلك فهذه الشوقية إحدى إبداعات النهاية، نظمها الوهج الذي يسبق انطفاء الشمعة. وواضح أنها لم تلفت جامعي الشوقيات لهذا السبب، فالتفتوا إلى القصيدة التي قالها في افتتاح نادي الموسيقى الشرقي سنة 1929، ولم يلتفتوا إلى القصيدة التي ألقاها في ختام المؤتمر الذي كان عضوا في إحدى لجانه، والذي اختتم أعماله في عام وفاته. ولكن ها نحن نعرف القصيدة بفضل إعادة طبع أعمال مؤتمر الموسيقى العربية الأول ووثائقه، ونتأكد من صحتها بوجودها في (الشوقيات المجهولة)، ولا أتصور إلا أن مراسل الأهرام قد حصل على نص القصيدة، ونشرتها الأهرام بعد انتهاء المؤتمر، كعادتها في الاحتفاء بقصائد شوقي التي كانت تنشرها في الصفحة الأولى.

----------------------------

عزاء مجلة العربي

بقلوب حزينة وخاشعة لإرادة الله. ينعى رئيس تحرير مجلة العربي الدكتور سليمان العسكري وأسرة تحرير المجلة فقيدة الشباب الدكتورة سهير جابر عصفور التي صعدت روحها إلى بارئها في شهر يوليو الماضي. لقد استرد الله وديعته وسما بها من دار الفناء إلى دار البقاء. و(العربي) إذ تعزي كاتبها الكبير الدكتور جابر عصفور وعائلته وتشاركهم أحزانهم، لا يسعها إلا أن تدعو الله العلي القدير أن يسكنها فسيح جناته وأن يلهمه القدرة على التحمل والصبر والسلوان، وليتغمد الله الفقيدة برحمته. (إنا لله وإنا إليه راجعون).

 

جابر عصفور