يقظة حمار

يقظة حمار
        

          تمدد (نادي اسبورتنج) بدلال على مساحة من وجود المدينة البحرية، التي تغسل شواطئها الطويلة مياه البحر دون توقف لتتمازج ملوحتها مع آثار حضارات تعاقبت على المدينة، وقد خلّفت بصماتها العميقة في (الإسكندرية) الوادعة كامرأة فاتنة استسلمت لعشاقها المتباهين بفحولة تأثيرهم في الشريط المصري المتفاخر بعراقته.

          وكان مضمار السباق، الذي احتل بقعة كبيرة من النادي، يشتعل بالحيوية في يوم الخيول الأسبوعي وهي تتسابق على أرض المضمار بجنون يلهب مشاعر آلاف المقامرين من سكان الإسكندرية والوافدين من جهات مصر الأربع. ومع ذلك اليوم تستمر الأيام الأخرى في النادي باستقبال الأعضاء الذين يمثلون نخبة المجتمع السكندري ليوفر لهم متعة الكسل ونعمة الطقس المعتدل في معظم أيام السنة تشاركهم العائلات وهي تصطحب الخادمات المستعدات لتلبية أي طلب تشير إليه النسوة اللواتي يتسابقن عادة في الظهور بأحدث الملابس. وبات مألوفًا لعيون رجال البحث عن أجساد نساء تجتذب حيويتهن اهتمام الآخرين، فكان اختلاس النظر من تقاليد المكان. ومع الأيام تتجدد فرص الحب بين شباب وفتيات، فلا يكون النادي مباركًا ليوم السباق بين الخيول فحسب، بل إنه يمنح الرضى لنمو العلاقات العاطفية بين أعضائه من الجيل الشاب، ويكون ساحة لانتشار النقد الجارح إذا ما نشأت علاقات غير أخلاقية، إلا أنه يكتفي بذلك عادة لتطوي الحكاية انتشارها بعد ذلك.

          وقادت الظروف طالبًا من بلاد الشام إلى أن يقيم في شقة صغيرة تطل شرفتها على إسطبل النادي الذي جمع بين جدرانه أجمل الخيول، فكانت للشاب فرصة يراقب فيها من وقت لآخر تلك الحيوانات النبيلة، بينما يقف في الشرفة، التي يجلس فيها أحيانًا للاستمتاع بالمشهد، وقد خيّل إليه أنه يمثل حديقة تابعة لمسكنه، أو ربما أنها تخصه، فقد شكّل سكنه المرة الأولى في حياته وهو يستقر في مكان يشرف على مساحة اقتطعت من الجنة. وكان قد تقلّب على شقق كثيرة في أحياء الإسكندرية، والآن تتوج هذه الشقة سنواته السابقة، وستكون الأخيرة إلى أن يعود إلى بلده بشكل نهائي.

          كانت المساحات الخضر التي تحيط بمضمار السباق وأبنية النادي يطفو بعضها على بحر من الورود وتحيط بها أشجار هرمة توحي أزهارها الحمر المتفتحة في كل الفصول بأنها تمثل شبابًا دائمًا، وكانت جميعها تدفع بالشاب الذي يدرس الهندسة إلى شراء منظار مكبّر يراقب به أرجاء النادي بخيوله وناسه ونباتاته، وقد أمضى فترة في التوفير من مصروفه ليسدد ثمن المنظار الذي جعل من تحويله من ركن إلى آخر وسيلة للاطلاع على التفاصيل والأحداث وبخاصة مراقبته لأحوال الخيول، التي تنعم ببرامج تدريب وعناية تحسد عليها. وهكذا تحول جانب من وجوده في البيت إلى ملازمة المنظار الذي بات هواية مفضلة، ولطالما عزّى نفسه بمجيء المساء كي تتوقف المراقبة ويعود إلى متابعة الدراسة وإنجاز واجباته الهندسية.

          وفي يوم عاصف حملت فيه غيوم الشمال هجومًا ماطرًا على الإسكندرية شكّل سيولاً مجنونة. غرقت الشوارع مستسلمة لغسيل لا ينقطع، وعلى مدخل الكلية، ظهر الطالب من الشام مخترقًا تدفق المياه، فلم يسعفه توازنه الحذر لتتزلق ساقاه على بلاط الدرج، فيسقط أرضًا وهو يصرخ من ألم شديد. كسرت قدم الشامي ليلزم شقته أسابيع كسجين يمضي عقوبة على ذنب لم يرتكبه. ومع عودة السماء إلى صفائها الذي يشبه البحر عندما يكون عاقلاً، تقدم الشامي بعكازيه ليحتل مكانه في الشرفة يرافقه المنظار، فيبدأ متابعة مشهد النادي عبر العدستين، بينما سمعه من حين لآخر يلتقط صوت الراديو يبث الأغاني والأخبار، التي تعلق معظمها بأحداث اشتدت لهجتها بعد إعلان عبدالناصر تأميم قناة السويس.

          وفي أيام الاحتجاز لم تنقطع زيارات الرفاق في الكلية يضعون فيها يد الشامي على المحاضرات والواجبات، التي يغيب عنها.

          كان الشامي منذ صباح اليوم الأول للالتزام بالشقة، قد اهتم فجأة بالعربة التي تحمل تلالاً من البرسيم، بينما حمار وديع يجرها من البوابة الخلفية للنادي ليوصلها إلى مدخل الإسطبل، آنذاك يقوم صاحب العربة مع عدد من السيّاس بتفريغ الحمولة ومن ثم  العودة مع حماره، وكأن تلك الحادثة اليومية لن تتوقف لتصبح حالة يومية تجري وفق إيقاع لا يتغير.

          وفي صباح يوم رصدت عدستا المنظار توقف العربة على بعد أمتار من مدخل الإسطبل، ليقوم صاحبها بفكّ لجام الحمار وربطه إلى عمود، وكأنه أراد في ذلك اليوم أن يمنح حماره فترة من الراحة مكافأة له على الخدمة المخلصة، وكان في استسلام الحمار تعبير صامت عن امتنانه لتلك المنحة الاستثنائية، وتحولت وقفته إلى انسجام مع الأشجار الساكنة في الصباح الذي توقفت النسائم والرياح البحرية عن التلاعب بأغصانها المحمّلة بالأوراق والزهور.

          أخبار الراديو تعلن عن استمرار الجماهير في إعلان فرحها بالتأميم، والمنظار يستقر على الحمار، وفجأة طغى النهيق عاليًا على المشهد، وغطى على الأخبار، فتساءل المراقب إن كان الصوت المزعج إعلانًا عن الامتنان أم أنه نداء بطلب العودة إلى العربة التي ارتبط بها. وصمت الحمار، بينما رأسه يتحرك بتواتر كمن تملّكه الرغبة في حل رباط الرسن الذي يقيده بالعمود، ونجح الحمار في الحصول على تحرره.

          ولم يعد الشامي يفهم ما تأتي به الأخبار، فقد انشدّ بكل اهتمامه إلى الحمار وهو يتراجع خطوات إلى الوراء ليتوقف معايناً موقفه الجديد، وهو ينقّل عينيه مستطلعًا الموقف من حوله، فإذا بصاحبه سائق العربة يهرع راكضًا نحوه وهو يصرخ ملوحاً بالعصا التي لم تفارق يده من قبل، آنذاك أسرع الطليق مندفعًا بحيوية لم تكن له، فتساءل صاحب المنظار من مقعده:

          «أهي بداية التمرد، أنحن على أبواب حكاية جديدة؟».

          وانحنى بجذعه إلى الأمام يلاحق بعدستيه المشهد الجديد، وما لبث أن هتف بالقول:

          «أهي يقظة تأتي من غير ميعاد؟».

          وأبعد المنظار عن وجهه لتسقط عيناه على قدمه المكفنة بالجبس، وليغمض بأسى، وكأنه يحس بالعجز لأول مرة.

          ضرب الحمار برأسه من السور المحيط بالمضمار المخصص لسباق الخيول، فتهاوت قطعة خشبية منه بلا مقاومة وباتت للحمار ثغرة يدخل بها إلى المضمار، فما لبث أن أعلن عن انتصاره بالنهيق، وقد وجد نفسه داخل المسار الرملي. تعالى صراخ من خلفه فانطلق راكضًا.

          الحمار في المضمار يركض وكأن روح حصان قد حلت فيه، فتابع الجري متنقلاً من يمين إلى يسار كراقص يتمايل على إيقاع غير مسموع. وما عاد المنظار الذي يلاحقه بقادر على التمييز بين المرح والعبث، وكان الحمار في البداية لا يتورع عن توجيه ساقيه إلى أخشاب السور يرفسها بخفة. ورصدت عدستا المنظار ملاحقة الرجال يقودهم صاحب الحمار، إلا أن خطوات الحمار ظلت متفوقة في سرعتها على سعي الرجال المتوجه إلى القبض عليه. صياح المطاردين لم يوقف الحمار، وهتافاتهم الغاضبة لم تثنه عن عزمه المضي في قطع المسافات، فكأن الحمار يسابق نفسه ممارسًا حرية بلا حدود، وأما صياح الرجال، فلم يُجد نفعًا في انصياعه، ولم توقفه شتائمهم وهي تلاحق الحيوان المخرب في خروجه عن أصول السباق.

          هم يركضون كقطيع لا يحكمه نظام، والحمار يركض باندفاع مثير، وكأن وحدته تشكّلت في قطيع هائج. وتحول صاحب المنظار إلى كتلة من التوتر ملأت مقعده، فلا تستطيع أن تعبر عن نفسها إلا بالاستمرار بلعب دور الشاهد على ما يحدث في النادي الذي لم يشهد مثيلاً لتلك الفوضى المضحكة، التي تتابعها العينان المغرورقتان بالدهشة.

          وتنبه عدد من أعضاء النادي إلى ضجة الملاحقة، التي تأتي من مضمار السباق، فكانوا يتزايدون وهم يقفون في طرف الكافتريا، وكان معظمهم يلاحق الحدث بالمناظير، وقد تعالت أصواتهم تهلل وتصرخ كما يحدث عادة أيام السباق وكأنهم يراهنون على واحد من الفريقين، الحمار من طرف والملاحقون له من طرف آخر.

          ومازالت خطوات الحمار تطوي المسافات محققة تفوقًا على الرجال، وقد فقد بعضهم سرعته، بينما صاحب العربة لم يتلكأ لحظة عن ملاحقة حماره المتمرد، وكأنما أراد أن يكفّر عن ذنبه في عدم إحكام الرباط مما أتاح الفرصة للحمار أن ينفك عن أسره ليلحق أضرارًا بأملاك النادي الذي طالما كان مصدرًا لرزق صاحبه المنتظم.

          المنظار يتابع رصده لمرح الحمار وهو بين حين وآخر يداعب السور برأسه أو بساقه معلنًا امتلاكه لحق التصرف في المضمار لتحقيق تفوق على أي حصان، أو أنه يريد أن يجتذب اهتمام أهل النادي. هتف الشامي نيابة عن الحمار:

          «لن أظل دومًا حاملاً لحشائش الخيول المدللة».

          وكان مضمار السباق أشبه بحلقة بيضاوية تبدو حولها أبنية النادي، فاستمر الحمار في طي امتداده مندفعًا عليه بخطواته، حتى إذا غاب عن قدرة المنظار على ملاحقته هتف الشامي من شرفته غاضبًا:

          «إلى أين تمضي مختفيًا أيها الحمار؟».

          وبعتب تابع مهمهمًا:

          «أو تحرمني متعة متابعتك بعد أن أعجبت بك؟».

          واختفى المتفرجون من أهل النادي، متنقلين إلى طرف آخر لمتابعة السباق، بينما غاب أيضًا رجال الملاحقة، فقد كانت الأشجار تحجب الرؤية عن الحدث، فكانت الدقائق تمر على الشاب المصاب في الشرفة لتتحول إلى ساعات من القلق. صرخ مناديًا:

          «أنتظر هنا من أجلك، فمتى تعود؟».

          واستعان الشامي بعكازيه ليقف منتصبًا وهو يحاول أن يكشف طرف المضمار المحجوب عن قدرة المنظار، فلم يوفق وعاد إلى مقعده يردد لعناته.

          فجأة ظهر الحمار بالقرب من الإسطبل حيث تكون نهاية المضمار. هلل الشامي وهو يرى أن المسافة بين المطاردين والهارب مازالت كما هي، وبدا له أن الحمار بدأ يخفف من سرعته خطوة فخطوة تمهيدًا لوضع حد لسباقه.

          وكان صاحب الحمار قد ظهر متوجهًا إلى الهارب الذي لبث ساكنًا يعلن عن استسلامه، فأمسك الرجل بالرسن كاظمًا غيظه، وقاد حماره إلى العمود يقيّده إليه، وكان المطاردون يظهرون واحدًا إثر واحد وهم يبربرون بكلمات خُيّل للشامي أنها سباب وشتائم تنصب على الحيوان المسكين.

          تنهّد الشاب مبعدًا منظاره عن عينيه، ورمى برأسه إلى ظهر المقعد يطلب الراحة بعد تعب الملاحقة لسباق الصباح. ولم يكن شيء يدور في رأسه ليفكر به، بينما سمعه يلتقط صوت الراديو يرسل بأناشيد وطنية، وإذا ما هدأت أنفاسه نظر إلى قدمه مرددًا:

          «متى سأعود إلى التنقل بحرية!».

          ولكنه لم يمنع نفسه من الهتاف عاليًا:

          «مَن هو يا ترى يملك قدرة الحمار تلك؟».

 

وليد إخلاصي