قصص على الهواء

 قصص على الهواء
        

تنشر هذه القصص بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
أصوات شابة في القصة العربية

قراءة وتعليق: د. واسيني الأعرج*

أربع قصص تميزت عن المجموعة، وهي كالتالي، مرتبة ترتيبا قيميا:

1- طفل المحفظة لعلاوة حاجي.
2- بدلاً من ليلى لعماد عبد المحسن.
3- وفاء زميل لنواف الدخيل.
4- النورس والرحيل لحافظ محمد التجاني علي.

          ما يميز هذه القصص المختارة، هو ارتقاؤها إلى مرتبة خرجت فيها من تصوير الحياة المباشرة، باتجاه خلق عالم قصصي مواز وجميل فيه شيء من الإدهاش. اعتمد القصّاصون في ذلك على لغة واصفة تحاول أن تقنع القارئ بجدوى الموضوع الذي تعالجه. لا توجد فيها زوائد منهكة لفعل السرد التي كثيرًا ما تثقل حركية القصة بالحواشي والهوامش الضافية. وعلى الرغم من بعض الأخطاء التقنية واللغوية التي يمكن تصحيحها وتنقيحها بسهولة، تنم هذه القصص عن مواهب حقيقية، لو قدر لها أن تجد مسالكها الطبيعية من نشر ومتابعة نقدية، ستصل إلى تحقيق الغاية الإبداعية التي تجعل منها أصواتًا قصصية عربية خلاقة ومجددة.

***

          القصة الأولى، قصة المحفظة تستحق أن تكون قصة للأطفال بامتياز. عالمها واضح المعالم إذ يسلك فيها الكاتب مسلكا دراميا منذ البداية. يتعلق الأمر بطفل لا يجد له مكانا في عالم الكبار الظالم الذي لا يسمع لنداءات الاستغاثة. ينطلق الحدث من خطأ ارتكبته السيدة بديعة المعلمة في حق الطفل بضربه. فيعمَّم الخطأ فيما بعد على أساس أنه الحقيقة، حتى ولو كان الطفل يعرف تفاصيل الحقيقة ولكن لا المعلمة ولا الأم ولا الأب ولا حتى إخوته العشرة يسمعون لنداءاته الداخلية. وتنتهي العائلة إلى قرار رمي المحفظة لأنها هي السبب في قصور نمو الطفل وذكائه لكبرها، فيركض الطفل نحوها للاختفاء فيها ليمكن والده من شراء محفظة جديدة وطفل آخر. واضح أن القصة تقدم درسًا أخلاقيًا حيًا، من خلال المخيال الطفولي الذي تنسجه ولكنها لا تقدمه بشكل مباشر وبطريقة تعليمية فجة، ولكن من خلال هشاشة طفل كبير الحساسية والوعي، من خلال عالمه الصغير.

***

          أما القصة الثانية، بدلاً من ليلى، فهي تحتوي على أقصوصة داخلية في غاية الأهمية، تتعلق بشاب عمله الأساسي في أوبرا المدينة، عالم الحياة والموسيقى والحلم. المفارقة الكبيرة هي أن وظيفة الشاب لا تتعدى استقبال معاطف النساء الغنيات والجميلات اللواتي يرتدن الأوبرا مرة كل شهر. لا يعرف من وجوههن شيئا ما عدا ظهورهن وبعض شعرهن ورائحة عطورهن واليد التي تأخذ النحاسة المرقمة التي تسمح لهن بتسلم البالطو بعد انتهاء العرض. في إحدى المرات تمكن الشاب من رؤية شيء جديد من امرأة جاءت للأوبرا، إضافة إلى شعرها وظهرها وعطرها، فقد سمعها تقول له شكرًا، فطار فرحًا. وخرج صوب صديقه رسام البورتريه الذي يقع في الطريق إلى الأوبرا، وطلب منه أن يرسم له وجهها الذي لم يره أبدًا في حياته، ولكنه وصف له كل ما رآه منها وسمعه، بينما شخص الرسام يرسم الوجه الجميل الذي ارتسم في عيني صديقه. القصة ركزت على حالة الحلم. فالمظالم الاجتماعية والقسوة في العلاقات لا يمكنها أن تمنع الإنسان من الخروج من هذه الدائرة والدخول في دائرة أرحم هي الحلم الذي تقاسمه الصديقان.

***

          القصة الثالثة، وفاء زميل، قصة خطية كلاسيكية إلى حد بعيد، استعارت الأدوات القصصية المعروفة لتوصيل مضمون إنساني يعيشه كل واحد يوميًا في مؤسسته. وربما كانت هنا قوتها لأنها تقص العادي بشكل غير عادي أي بنكهة تحسسنا كأننا نعيش لأول مرة الحدث. أبو كرم مواطن كآلاف المواطنين قضى عمره يبحث عن عمل. إلى أن يلتقي أحد أصدقائه فينصحه بصديقهما المشترك الذي صار مديرًا كبيرًا في مؤسسة ويعيش حياة رفاه كبير. يقصده، ولكنه لم يستطع رؤيته بسبب انشغاله بأعماله. بعد مجهودات كبيرة يطلب منه أن يراجعه يوم السبت، ولكنه لم يتمكن من رؤيته إلا بعد السبت الثاني والخمسين، بعد وفاة أحد مستخدميه، فيخرج أبو كرم من مكتب صديقه ولا يعود أبدًا.

          وبعد أقل من سنة يلتقي أبو كرم صديقه يسير راجلاً في أحد شوارع المدينة بعد أن طرد من عمله وانكسرت كل حياته وأحلامه. والقصة درس في التواضع والطغيان معا، فهما التيمتان الأساسيتان اللتان اشتغل عليهما كاتب القصة.

***

          أما القصة الرابعة والأخيرة، النورس والرحيل فهي تعمل بدورها على قضية إنسانية شائكة تتعلق بموضوعة المنفى والاغتراب، وكيف أن الإنسان لا يستكين إلا في الأرض التي جاء منها. إن الافتقاد يولد حالة من الحزن والقلق والمرض. مثل النورس الذي اختارته القصة كجزء من الحكاية، الذي لا يستطيع أن يعيش خارج الأراضي التي تعود ارتيادها في رحلاته مع سربه. ولهذا فبمجرد أن يشفى النورس من كآبته يطير مع سربه في رحلة تقوده نحو أرضه الأولى. في الوقت نفسه يتلقى الراوي من صديقه فيزا تدعوه لزيارة أرض هي في النهاية أرضه التي حرم منها زمنا طويلاً ولا نعرف سببًا لذلك، وربما كان هو السبب الذي يدفع القرّاء إلى إنهاء هذه التفاصيل بواسطة تمديد ذهني للحكاية. القصة نجحت إلى حد بعيد وباقتصاد لغوي كبير، في تصوير ذلك الإحساس العميق الذي يشعر به كل من فقد أرضه لسبب ما من الأسباب.

          القصص الأربع، كما يتضح من القراءة المقدمة لها، تشتغل على موضوعة إنسانية انطلاقًا من أربع موتيفات للحكي اختارها كل واحد من القصّاصين باستقلالية وهي متواشجة فيما بينها: الطفولة، الحلم، الطغيان ثم الاغتراب، كلها موضوعات حسّاسة، صاحبت الإنسان منذ بدء الخليقة ولا تزال. والذي أهَّل هذه القصص لتحقيق نجاح طيب هو خروجها من دائرة الخطابة والوثوقية، التي طبعت الكثير من القصص. ليس الأدب في حاجة إلى منبرية لكي يقنع قارئه إذ تكفي اللمسة الصغيرة وتحسس الهشاشة الإنسانية الدفينة، لكي تحرك مواجعنا وأشواقنا كقراء.

----------------------------

طفل في محفظة
علاوة حاجي (المغرب)

          هذه أول ليلة يقضيها داخل محفظة، هو لم يفعل ذلك لأنه يهوى قضاء الليالي داخل المحافظ، وهي لم تستوعبه لأنها كبيرة فحسب، بل لأن جسده الضئيل قد يختبئ في أي مكان!

          من داخلها سمع أباه يصرخ: أين يمكن أن يختبئ ذلك الفأر الصغير؟

          ثم صوت أمه التي توزع المهام على إخوته العشرة: أنت ابحث عنه فوق، وأنت تحت.. أنت ابحث عنه هناك، وأنت فتشي عنه هناك...لا تتركوا مكانًا دون أن تبحثوا فيه جيدًا، أنتم تعرفون أن بإمكانه الاختباء في أي مكان.

          - ربما أكله القط!

          كان قد نام دون أن يسمع هذا التعليق الخبيث الذي صدر من أحد إخوته، والقهقهات التي تلته، والصفعة القوية التي ختمت المشهد!

***

          - أتسمي هذا كرّاسًا أيها الصعلوك الصغير؟

          لم تكتف المعلمة بإمساكه من أذنيه وجذبهما بشدة، بل ضربته بالطلاسة نافضة غبار الطبشور على رأسه، ضحك زملاؤه الذين يطلقون عليه لقب القزم، فشعرت المعلمة بأنها تقوم بعمل بطولي، وراحت تشد أذنيه بقوة أكبر كلما ارتفعت أصوات التلاميذ بالضحك.

          بعد نهاية الدرس، خرج من الصف منهكًا، جسده منحن إلى الأرض وأذناه اللتان اصطبغتا باللون الأحمر تؤلمانه، محفظته الضخمة تثقل كاهله، وبدا مثل حمال مسنٍ بائس.. نزع المحفظة من على ظهره وراح يجرها في الوحل حتى وصل إلى المنزل.

          حين رأته أمه مكتسيًا بياض الطبشور، ومحمر الأذنين، صرخت: ماذا حل بك يا ولد؟

          - ضربتني المعلمة.

          - مستحيل.. كيف تجرؤ على اتهام الآنسة بديعة بمثل هذا الكلام أيها الكاذب؟

          ولما كان الكلامُ أحدَ جُزئي معاملة الأم مع أبنائها، فقد أردفته بصفعة كادت تسقطه أرضا.

          عندما عاد والده من العمل في آخر النهار، هرع إليه ليشكو قسوة أمه ومعلمته، وبما أنه رأى محفظته الملطخة بالوحل، فقد جاد عليه بصفعتين اثنتين هذه المرة.

          انسحب الطفل إلى إحدى الغرف وهو يبكي، ومنها سمع أباه يقول لأمه:

          - يبدو أن المحفظة كبيرة عليه.

          - صحيح، لدرجة أنني أصبحت أشك في أنها أثرت على نموه.

          - بسيطة.. سأرميها غدا وأشتري له محفظة جديدة.

          حين سمع هذا الكلام، اتجه مباشرة إلى محفظته، دخل إليها، تكوم فيها وهو يتمنى أن يرميه أبوه معها في الصباح، ليشتري محفظة جديدة وطفلاً جديدًا!

بدلاً من ليلى
عماد عبد المحسن (مصر)

          كان يقف لساعات طوال داخل واحد من أندر بيوت الفن، إلا أنه يتعامل مع الأوبرا ليس كوظيفة مثلها مثل أي عمل آخر.

          فهو رغم وقوفه في كل حفل أمام باب الدخول ينزع عن سيدات المجتمع الداخلات إلى الحفل «بلاطيهن»، التي تتنافس فيما بينها على فخامة الأنواع ذات المبالغ، التي تساوي كل منها راتبه لمدة أعوام متتالية، لم يخطر بباله على الإطلاق أن يتخطى هذا الباب.

          لم يخطر بباله أبدًا أن ينال من أي سيدة من سيدات المجتمع إلا نظرة من الخلف، وهو يمسك بالبالطو من يد كل منهن، وفي هذه اللحظة تفوح رائحة من أفضل العطور الشهيرة، فإذا بأنفه تنال هذه الميزة العينية كل مرة، وعينه تنال نصف كتف وشعر مصفف ويد تمسك منه «النحاسة» وعليها الرقم الخاص بها.

          ظل هكذا لسنوات وسنوات حتى أصبح يؤدي كل هذه المهام بشكل أوتوماتيكي، كأنه استبدل بآلة لا تصدر أصواتًا ولا تزعج أحدًا.

          اهتمام فني واحد طرأ عليه في الشهور الأخيرة، حفل الأوركسترا السيمفوني الذي يقام في الأحد الأول من كل شهر، لم تكن الموسيقى هي اهتمامه - لا سمح الله - بل كان حضورها المنتظم لهذا الحفل. هذه الذي منحته بالإضافة إلى رائحة عطرها ونصف كتفها وشعرها المصفف ويدها التي تأخذ «النحاسة» ... منحته شيئا جديدًا، شيئًا واحدًا جعله يميز الأيام والأحداث، التي يشارك فيها فقط بالوقوف أمام باب الدخول.

          لقد صارت حياة جديدة، يحلم بها في الأحد الأول من كل شهر، يبدأ حلمه يقظًا فور أن يغادر باب الأوبرا إذ ترافقه خيالاً سيره إلى «محل الكبدة الإسكندراني» الذي اعتاد أن يتناول عشاءه عنده....

          مرورا بـ«كشك» صديقه رسام البورتريه الذي يقع في الطريق إلى الأوبرا.

          هذه التي لم ير وجهها ولم يطمح في ذلك، اكتفى منها بما يراه من الأخريات، لكنها ليست مثلهن، لابد أن وجهها أجمل بكثير من البالطو الذي ترتديه، والذي لولا الخوف من أن يراه الأمن في الأوبرا يقبله مرات قبل أن يعلقه على «شماعته»، بل إن قلبها -من المؤكد - أرحب من دار الأوبرا، وبه فرق أوركسترا أكثر حرفية من هذه التي تأتي لتسمعها هنا.

          إن أصابع يدها التي تأخذ «النحاسة»، بالرغم من أن هذه «النحاسة» اللعينة تقف حاجزًا دون ملامستها، إلا أنها تقطر حنانًا وحبًا. الليلة حضرت بعد ثلاثين يومًا بالتمام والكمال من الغياب منذ موعد آخر حفل للاوركسترا.

          الليلة إضافة جديدة لم تضفها أي من ضيفات هذا المكان من قبل... نعم أضافت هي ... هي وحدها.. أضافت صوتها ، قالت: شكرًا.

          فتوقف الهواء الذي حمل صوتها إلى أذنيه وانحنى أمامها. خرج من الباب عقب الحفل محلقًا، لقد منحته صوتها، ويا له من صوت.

          مر بصديقه رسام البورتريه وطلب منه خدمة لأول مرة، ولكنها خدمة «بالفلوس»، سيدفع له كل ما يريد مقابل أن يرسمها له.

          - أين صورتها؟ سأله.

          - تشبه من؟ صف لي وجهها؟

          أخبره أنه يستطيع أن يصف له نصف كتفها وشعرها المصفف ووقفتها من الخلف والبالطو الذي ترتديه ورائحة عطرها وصوتها. جلس إلى جواره يصف كل شيء بدقة وصاحبه الذي رسمها ليس كما وصفها له، وإنما كما رآها في عينيه الهائمتين، ظل إلى جواره طوال الليل إلى أن انتهى من أغرب «بورتريه». أخذه منه وغاب في الطرقات، والفجر يسقط أضواءه على لوحته التي ابتلعته، واختفى.

وفاء زميل
نواف الدخيل (سورية)

          كلما جاء أول شهر ومات آخر يوم من الشهر الذي قبله ... تزداد أحلامي ... أحلام تدغدغ مشاعري وعواطفي وأحاسيسي. لكنها لذيذة تلامس جذور الروح. بالرغم من أني أعرف أن الحلم انتظار... تتبعثر الأحلام عندما لا تتحقق. وأهذي كثيرًا ... وهذياني يتخمني جوعًا.. وأقتات أحزاني... هناك خيار بعيد... أقرّ به لعله يصبح حقيقة ويطول الزمن... وتصفر الرياح في بطني وجيوبي .. الفراغ في داخلي يتخلله أحيانًا قرع طبول تثقل رأسي. بالرغم من تأكدي أن الفراغ أساس التكوين والخلق. أخرج يوميًا باحثًا عن عمل وظيفي. ويطول البحث وأعود منهكًا من التعب دون وجود عمل. زارني يومًا صديق لي، وبعد أن سلم واعتذر عن مجيئه المفاجئ دون موعد. قلت له: أنت بالذات لاتحتاج إلى موعد، وجلسنا واحتسينا القهوة سوية. سألني عن أحوالي، وهل تمكنت من تأمين عمل فقلت (مستورة). إلا أنني حتى الآن لم أتمكن من الحصول على عمل وظيفي. فصاح بلهفة وتهكم قائلاً: تعرف (فلان) قلت نعم: هذا زميلي في الدراسة أيام زمان. قال: لقد أصبح مسئولاً ( وهو الآمر الناهي) وأعطاني عنوانه. وبالفعل لم أصدق بأن زميلي ذاك الشخص يصبح مسئولاً. في اليوم التالي ذهبت إلى مركز عمله. وبعد أن اهتديت إلى مكتبه، أجلسني سكرتيره في مكتب السكرتاريا. شعرت بأن هذا المكان تحفه الملائكة، وكان يتردد إليه رجال كلهم وقار واحترام. وطال انتظاري... فاعتذر مني السكرتير بأن (الأستاذ ) في اجتماع، وربما لاينتهي إلى نهاية الدوام. فالأفضل أن تأتي غدًا. وانصرفت وكلّي أمل، وبما أنه زميل دراسة سابقًا، كنت أحدّث نفسي في عودتي. فهو جدير بأن يحل مشكلتي، كونه الآمر الناهي. فهو قد أنهى دراسته الجامعية، وأنا تركت المدرسة فقط عندما حصلت على الشهادة المتوسطة، وأكثر ما شد انتباهي واستغرابي سيارته، التي تشبه سيارات مسلسل شرطة «لوس انجلوس»، ومن خلال ذلك يدفعني الأمل. إن شاء الله سأذهب إليه غدًا، لعل وعسى أن يتدبّر أمري وييسره، ويجد لي عملاً مناسبًا أعيش منه (والناس لبعضها) ناقشت زوجتي واضطلعتها على الفكرة، ووضع زميلي الذي أصبح مسئولاً. فدّعمت موقفي، وأصرّت على ذهابي إليه قائلة: اذهب إليه يا أبو كرم. وفعلاً في الصباح التالي الذي طال أكثر من غيره، ارتديت أجمل ما لديّ من ثياب لتليق بمقابلة زميلي، إلا أنها كانت كالحة ورثة إلى حد ما. لكنها نظيفة جدًا، بالرغم من قدمها. وهي أفضل ما أملك من لباس. وذهبت إلى زميلي، وبما أنني عرفت المكتب في المرة الأولى. كنت أعرف طريقي إليه. ودخلت مكتب السكرتير. وحيث إنه يعرفني أدخلني مباشرة، وللوهلة الأولى شعرت برهبة الموقف ، لكنني تذكّرت أنه زميلي. فسلمت عليه ورحب بيّ ترحيبًا حارًا. جاملني أكثر من اللازم، وأحسست بأنه أبدى مودة فائقة باتجاهي، مما شجعني بأن أطرح الموضوع. وتداولنا أطراف الحديث معا بهذا الخصوص. وعن أيام خلت. وأكد عليّ أن أراجعه يوم (السبت)، وكان السبت عني بعيدًا .. إلا أنني تحليت بالصبر ، وودعته وانصرفت. وجاء السبت وراجعته وانقضى سبت آخر. فأكد أن أراجعه بعد أسبوع، فراجعته أيضًا... وانقضت أسابيع. وفي السبت الثاني والخمسين من آخر العام أعلمني زميلي بمراجعته مع جلب أوراقي الثبوتية، وانطلقت إليه فرحًا على جناح السرعة. ووصلت وطرقت باب مكتبه كوني لم أجد السكرتير، رحّب بي من وراء طاولته وأردف قائلا: لقد وجدنا الحل يابو كرم. أصبح لدينا مكان شاغر إن (مستخدمي) توفي منذ السبت الماضي، وقبل أن ينهي حديثه فهمت القصد. عندها شعرت بأنه قد ارتطم بداخلي جدار حجارته غير متلاصقة، وشعرت بأن أوراقي الثبوتية تبعثرت وتطايرت وذرتها الرياح. كنت أريد التقاط أهم ما فيها لكن دون جدوى ...! فرحلت دون انتظار إكمال حديثه. وبعد أن مرّ اثنان وخمسون سبتا من مراجعتي الأولى له، كنت أسير في أحد شوارع المدينة، وإذ بزميلي المسئول يسير على قدميه متثاقلاً بمشيته، وقد تلاشت ملامحه، النظرة وعنفوانه وكبرياؤه. فسلمت عليه، بالرغم من شعوري أن هناك محاولة للهروب من أمامي، حيث كان مهزومًا من داخله، أي لا يريد أن أراه وهو بهذه الحالة المزرية. لكني فرضت عليه الوقوف وبعد أن سلمت عليه. سألته دون أن أطيل عليه بالسلام. ما بك يا رجل كأنك تحولت إلى عالم من الرخويات. أين ذهب ذاك النشاط والشموخ، لقد تغيرت سحنة وجهك النضر أين تلك البشاشة. هل أنت مريض؟! فأجابني: نعم إني مريض إلى حد ما ظروفي صعبة.. صعبة جدا الحياة ليست لها أمان (والناس ما ترحم)، لقد نحيت عن الوظيفة لأسباب تعسفية كنت مظلومًا فيها . علمًا أنني كنت أعمل جاهدًا أن أكون مخلصًا ومتفانيًا في عملي. كنت أنظر وأتمعّن بهندام زميلي. زميل الدراسة سابقًا بين الرضا وعدم القبول، قياسًا لما رأيته عند لقائه أول مرة، وهو يجلس خلف الطاولة على كرسي يرتفع قليلاً خلف رأسه، ويدور لأي حركة بسيطة. كأن البنطال لم يكن فيه جسد فهو مفرغ من محتواه. كان زميلي يريد إنهاء الحديث معي بسرعة هروبًا من هذه المواجهة فمد يده مصافحني قاطعًا حديثي، وبعد أن توادعنا رحت أحدّث نفسي باللاشعور. الله يا دنيا إن الإنسان كان ظلومًا جهولا. إن الله لا يحب كل مختال فخور.

النورس والرحيل
حافظ محمد التجاني (سوداني مقيم في القاهرة)

          لم يبق في الشط المهجور غير نورس وأنا نورس، ربما فاته السرب ورحل في الأفق إلى البعيد، فموسم الرحيل تراءى في عينيه عبر الشفق، فأصبح يقفز بين الصخور السوداء الحزينة كلما رأى موجة راوقها إلى صخرة أخرى.

          ينقر بمنقاره الذهبي، بالكاد يجد بين الصخور شيئًا، ربما نملة جائعة أيضًا، ويلتهمها وتؤلم حلقه قرصًا قبل أن تموت.

          وأنا هنا كمن تنفس البحر أهداني ألمًا جديدًا ووحشة بدلاً من أنس كنت أرنو إليه.

          هل يشبهنى هذا النورس فهو وحيد مثلي ذهب أقرانه يتقافزون في الضياء إلى حيث الغيم والورد والفراشات والربيع, لماذا تخلف هذا الجندي الأبي، هل أهيض جناحه، وما ذنبه فيما آل إليه حاله، أظن قدره أن يعيش الشتاء هنا معي في شط، ربما يغمره الصقيع ذات مساء، ولن تسمع غير أغاني الصيادين ورائحة السمك المشوي عندما تعبر مراكبهم وهم يغنون أغاني موغلة في القدم كان يغنيها الصيادون منذ آلاف السنين، ربما هذا البحر هو الذي يقذف في أفواههم لحن الأمسيات الحزينة، الذي يجاوبه صدى الصخور، ويرتد كسيموفونية تشبه شقشقة هذا النورس.

          وهممت أن أحمل هذا النورس إلى كوخي، غير أني احترمت حريته، ولكن ربما يتجمّد، ربما يتجمّد على الشط إذا لم يطر من هنا، وأنى له ذلك، ومع احترامي لحريته، وحفاظًا عليها أخذته ووضعته في كفّي وهو يرتجف من البرد والألم والجوع،

          ورأيت في عينيه ألمًا وشوقًا إلى الهجرة، وفقدان السرب، وهممت بوضعه في قفص، ولكن احترمت حريته أيضًا، ووضعته أعلى القفص، وقدمت له بعض سنابل وعشب علّه يتعافى قبل موسم آخر للرحيل.

          بعد أربعة أسابيع، بدا يحلق قليلاً مع الغروب، ويحط رحاله على الكوخ، وتغير صوته، وأصبح فيه شيء من الحنين، ربما بسبب الفراق.

          وذات صباح من أيام سبتمبر، رأيت مدثر ابن الجيران يتسلل قرب الكوخ، ويحمل ( نبلة)، ويترصد النورس كي يصيبه في مقتل، وأمسكت بتلابيبه قبل أن يطلق صاروخه القاتل نحو النورس، واعتذر الصغير ذو الشعر الذهبي، والعينين البراقتين، وقال: لم أعلم بأن لك نورسًا، واستدرك، أنت فقط تربي الحمام، وقلت في سرّي، أنا أربّي الحرمان.

          وألف النورس الكوخ، وأصبح يغدو ويروح، وفي أول أكتوبر، وعند الأصيل، بدأت أسراب النوارس هجرتها نحو الجزر الدافئة، فتغير لحن النورس وأصبح يرسل لحنًا جديدًا يشبه نغم الفوز الجميل.

          وعندما عدت من البحر مساء اليوم التالي، وأنا أحمل سلة السمك، وصنارتي القديمة، لقيني مدثر وهو حزين.

          ذهب النورس ياعمي، حاولت أن أصيده، وهو يلحق السرب، ولكنه أفلت مني وقفز ككرة المضرب، وعانق أحد أفراد السرب في الفضاء قال مدثر هذا وهو مطأطئ الرأس، وسلمنى خطابًا جاء بالبريد للتو، ووجدت فيه صورة فيزا من صديق قديم يدعونى لزيارة بلد تبعد أربعة ألاف ميل هي بلدي، وأخيرًا وجدت مَن يدعوني لزيارة بلدي وكأنها مواسم الرحيل تتزامن في شتاءات العمر قبل النوى والجفاف، ولكن قبل الرحيل إلى الغابة والصحراء، سأودع البحر وصخوره السوداء، وستوحشني وحشته عندما تأتي النوارس من الشمال في هجرة أخرى هناك في الأمسيات الاستوائية، هناك في أرض الخلاسيين أرضي، أرض الدف والباباي والأناناس.

---------------------------------
* كاتب وروائي من الجزائر.
لأسباب خاصة بإذاعة الـ «بي. بي. سي» العربية سوف تتوقف عن بث هذه القصص لفترة مؤقتة ثم ستعاود بثها مرتين أسبوعيا في وقت لاحق، بينما تؤكد «العربي» التزامها نحو قرائها وكتابها وسوف تواصل اختيار القصص الفائزة وتقوم بنشرها ودفع المكافأة المالية الخاصة بها.