الموسيقار كمال الطويل: آخر غصون الذهب إلياس سحّاب

الموسيقار كمال الطويل: آخر غصون الذهب

رحل كمال الطويل في شهر يوليو من عام 2003, وبذلك رحل آخر ملحني الزمن الجميل الذي أرسل موسيقاه الشجية لـ (الثورة) والحب, واعتنق الأفكار التقدمية كوسيلة للخلاص.

عندما رحل الموسيقار العظيم سيد درويش باكرا في الربع الأول من مطلع القرن العشرين ( 1923), كان قد حقق إنجازًا فنيًا عملاقًا في سنواته الست الأخيرة التي عاشها في القاهرة (1917-1923) هو إقامة قواعد مدرسة القرن العشرين في الموسيقى العربية المتقنة المعاصرة, تأسيسا على النهضة الأولى للموسيقى العربية المعاصرة في القرن التاسع عشر, تجاوزا لها وتوسيعا لآفاقها في التعبير الفني, بما أفاد منه وانطلق منه بعد ذلك كل من عمل في حقل الموسيقى العربية في القرن العشرين, وهو ما كان يعبر عنه الموسيقار رياض السنباطي بشيء من المبالغة والتواضع بعبارة: (نحن لا نفعل سوى ترديد ما أنجزه سيد درويش).

فإذا انطلقنا إلى تأريخ منجزات الموسيقى العربية المعاصرة بعد سيد درويش, في قطرها العربي المركزي (مصر) والأكثر تأثيرا في الوجدان العربي العام, فإننا سنلاحظ تعاقب ثلاثة أجيال:

  • الجيل الأول من الموسيقيين الكبار الذين وُلدوا في العقد الأخير من القرن التاسع عشر, أو أوائل العقد الأول من القرن العشرين, وهو الجيل الذي تكوّن من محمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب وزكريا أحمد ورياض السنباطي, وقد انطلق الزخم الفني الكبير لهؤلاء بين العشرينيات والخمسينيات, وإن امتد زمن عطاء السنباطي وعبدالوهاب حتى الثمانينيات للأول والتسعينيات للثاني.
  • الجيل الثاني الذي ولد في العقد الثاني من القرن العشرين, ومن أبرز أعلامه محمد فوزي وفريد الأطرش وأحمد صدقي ومحمود الشريف وعبدالعظيم عبدالحق وعلي فراج وعزت الجاهلي وسواهم.
  • الجيل الثالث الذي ولد في العقد الثالث من القرن العشرين, ومن أبرز أعلامه كمال الطويل ومحمد الموجي وسيد مكاوي ومنير مراد وبليغ حمدي وعبدالعظيم محمد. وجدير بالذكر أن ظهور هذا الجيل في مصر قد تزامن في الولادة (العشرينيات) وفي انطلاق الإبداع الفني (الخمسينيات والستينيات بشكل بارز) مع الجيل الذي نهضت على أكتافه النهضة الموسيقية المشرقية التي انطلقت من بيروت, ومن أبرز أبناء هذا الجيل عاصي ومنصور رحباني, وزكي ناصيف وتوفيق الباشا وفيلمون وهبي وسامي الصيداوي وعفيف رضوان.

شجرة العائلة الفنية

هذه هي إذن شجرة العائلة الفنية للفنان الكبير كمال الطويل, إنه واحد من فرسان الجيل المصري الثالث في النهضة الثانية للموسيقى العربية المعاصرة, التي انطلقت من مصر في أعقاب ثورة سيد درويش. وهو بذلك يكون آخر غصن من تلك الشجرة الذهبية, امتد به العمر حتى أوائل القرن الواحد والعشرين.

ولد كمال الطويل لعائلة ميسورة كانت منتمية إلى قيادة وقواعد حزب الوفد, حزب الوطنية المصرية الأكثر شعبية في النصف الأول من القرن العشرين. ولكن شأنه شأن شباب هذا الحزب, اتجه في عقد الأربعينيات ومطلع الخمسينيات إلى يسار الحزب, تلبية لمشاعر ومفاهيم العدالة الاجتماعية التي كانت تعاندها وتعارضها طبقة كبار الملاك من قيادات حزب الوفد, لذلك كان بدهيا أن ينخرط كمال الطويل اجتماعيا وسياسيا, عند قيام ثورة الضباط الأحرار في العام 1952, وخاصة عند نضج الثورة على نيران معارك الجلاء وتأميم قناة السويس, في القاعدة الاجتماعية والثقافية لتلك الثورة.

إذا استثنينا سيد مكاوي من أبناء هذا الجيل الثالث, الذي كان امتدادا طبيعيا لزكريا أحمد, فإن كل نجوم هذا الجيل وفرسانه, من كمال الطويل إلى محمد الموجي إلى منير مراد إلى بليغ حمدي, قد خرجوا من عباءة عبدالوهاب الفضفاضة, حتى ولو صدر تصريح عن كمال الطويل يركز فيه على تأثره بمحمد فوزي (من أبناء الجيل الثاني), ذلك أن محمد فوزي لم يفلت هو الآخر من الخروج من عباءة محمد عبدالوهاب, في الحداثة الموسيقية كما في الحداثة الغنائية.

وإن كان هذا التصنيف لا يمنع التأثر المتبادل بين عبدالوهاب ومحمد القصبجي بشكل خاص, ثم تفاعل عبدالوهاب بالذات مع كل مجايليه (السنباطي وزكريا) وحتى كل تلاميذه بعد ذلك, بمن فيهم الطويل والموجي وبليغ, ولكن تلك قصة طويلة معقدة نتركها لمجال آخر.

قدر لي في السنوات العشر الأخيرة من حياة كمال الطويل أن اقترب منه شخصيا, وأعقد معه صداقة فنية وثقافية وشخصية أعتز بها, أتاحت لي التأكد من كثير من الاستنتاجات العامة التي كنت قد خرجت بها من عشرتي الطويلة لأعماله الفنية من أولها حتى آخرها.

من أهم تلك الاستنتاجات, ما كنت أعبر عنه في مقالات نقدية سابقة لأعمال كمال الطويل, شعوري بأن موسيقى كمال الطويل, وإن كانت عربية مصرية واضحة المعالم, فقد برز منها انتماؤه إلى الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط, وتأثره بالرياح الفنية القادمة من الشواطئ الشمالية لذلك البحر: إيطاليا واليونان وإسبانيا.

عقدة من آلة العود

ضحك كمال الطويل من قلبه عند سماع هذه الملاحظة, موافقا على مضمونها, وروى لي أنه كان في أيام شبابه الأول يحمل فكرة عامة سيئة عن آلة العود, إحدى الآلات الرئيسة في الموسيقى العربية, بل الآلة الأم التي يترجم الملحن العربي أفكاره عليها, في مقابل دور آلة البيانو بالنسبة للملحن الأوربي.

وخلاصة هذه القصة أن سيدات أسرة الطويل, من أقارب الموسيقار, كن يستأجرن موسيقيا عجوزا لإحياء حفلات الطرب في منازلهن, وكان ذلك الموسيقي يحمل آلة عود, ويأتي للعزف والغناء في مقابل جنيهات معدودة, وغالبا ما يؤدي أغنيات قديمة من تراث القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. هذا المشهد - يقول كمال الطويل - ربط في ذهنه بين آلة العود والتخلف الموسيقي, أو ضيق الأفق الموسيقي.

غير أن من يأخذ هذه القصة على علاتها (وقد عقدت في ذلك نقاشا مطوّلا مع كمال الطويل) يمكنه أن يستنتج خطأ أن كمال الطويل قد انطلق من تلك (العقدة) المبكرة من آلة العود, إلى التغرب الموسيقي والفني الكامل. غير أن كل أعماله بعد ذلك جاءت تكذب هذا الاستنتاج الشكلي, فكيف كان ذلك?

عندما ترعرع كمال الطويل واكتمل وجدانه واكتملت ثقافته فيما بين العشرينيات والخمسينيات, كانت تيارات ثقافية وفكرية عدة تتجاذب المجتمع المصري الشديد الحيوية في تلك المرحلة التاريخية, في كل الأصعدة الثقافية والفنية والأدبية والسياسية والاجتماعية. وكانت هذه التيارات المتلاطمة تختلف بأطياف وظلال غنية, بعضها يذهب في التغرب إلى حدود التقليد الكامل للغرب, بل والانتماء الكامل للغرب أحيانا. وبعضها يذهب في حرصه على الهوية الوطنية والعربية والإسلامية, إلى حدود الإغلاق الكامل لكل النوافذ والأبواب, بينما يرى البعض الثالث أن الحضارة العربية, في عهودها الذهبية الغابرة, لم تكن لديها هذه المشكلة, لأنها كانت ذات شخصية عربية أصيلة وعميقة, وذات فهم شديد, في الوقت نفسه, لحسنات الاتصال بحضارات وثقافات الشعوب الأخرى, حتى كان عصر الخليفة العباسي المأمون, العصر الذهبي للثقافة العربية الأصيلة, من جهة, ولترجمة ثقافات الشعوب الأخرى, والتفاعل معها من جهة ثانية.

فإذا عدنا إلى حقل الموسيقى بالذات, فإن عبدالوهاب قد حل تلك المعضلة حلا إبداعيا عمليا, فهضم كل تراث القرن التاسع عشر, وسيد درويش بعد ذلك والإنشاد الديني الإسلامي والمسيحي المشرقي, ثم انطلق يهضم الإنجازات الأوربية العظيمة في حقل الموسيقى, في القرون الثلاثة الأخيرة, فخرج بشخصية موسيقية وغنائية ضاربة بعمق شديد في جذور الهوية الحضارية العربية والإسلامية, ومشرئبة العنق بشدة نحو الآفاق الرحبة لثقافات وموسيقى الشعوب الأخرى, خاصة ما أنجزته أوربا من كلاسيكية موسيقية شامخة في القرون الأخيرة.

وهذا بالضبط ما شد وجدان وآذان كمال الطويل وأبناء جيله إلى موسيقى وغناء عبدالوهاب, وتلاميذه من أبناء الجيل الثاني, فعقد صداقة متينة مع عبقري الكمان أنور منسي (العازف الرئيسي في فرقة عبدالوهاب, وأحد المترجمين الرئيسيين لأفكاره الموسيقية المتطورة), حتى روى لي كمال الطويل أن معرفته الشخصية الأولى بعبد الوهاب, كانت عندما اصطحبه أنور منسي لحضور تمارين الفرقة الموسيقية على لحن عبدالوهاب لليلى مراد (اتمختري واتمايلي يا خيل), أولى أغنيات الفيلم الخالد (غزل البنات), وكلها من ألحان عبدالوهاب.

عشق للمقامات العربية

ومع أن كمال الطويل لم يحسن العزف في حياته إلا على آلة البيانو, فإن ذلك لم يحمل أي تغريب لأعماله الموسيقية, بدليل أن لحنه الأول كان قصيدته الدينية العظيمة (إلهي ليس لي إلاك عونًا), شعر والده وغناء المطربة الناشئة يومذاك فايدة كامل. وبدليل أن كل أعماله الكبيرة بعد ذلك, بالذات لحنجرتي نجاة الصغيرة وعبدالحليم حافظ, كانت مشبعة بالمقامات العربية الأصيلة التي لا تعزف على آلة البيانو, كالبياتي والهزام والراست والصبا وسواها. وبدليل أن السيدة أم كلثوم قد استدعته للمشاركة في تلحين قصائد الفيلم الديني رابعة العدوية إلى جانب زميله محمد الموجي والعملاق رياض السنباطي. وبدهي أن ألحان تلك القصائد كان لابد من أن تكون خالصة (العروبة الموسيقية), وهكذا كان بالفعل لحن كمال الطويل الذي غنته أم كلثوم في رابعة العدوية (لغيرك ما مددت يدا), الذي انطلق فيه بتأثر واضح بقصائد رياض السنباطي, ثم برزت في المقاطع التالية شخصية كمال الطويل الموسيقية الخاصة. وقد كان التعامل الثاني والأخير لكمال الطويل مع أم كلثوم نشيد صلاح جاهين (والله زمان يا سلاحي), في أيام معركة تأميم قناة السويس, الذي تحول في عصر جمال عبدالناصر إلى نشيد وطني لمصر, وبقي كذلك حتى زيارة السادات للقدس المحتلة.

لقد واصل كمال الطويل بإبداع كبير وبخصوصية واضحة المعالم, جهود التحديث الهائلة التي بدأها أسلافه الكبار (محمد عبدالوهاب, محمد القصبجي, محمد فوزي, بشكل خاص), ولعل أبرز معالم الإضافات التجديدية لكمال الطويل برزت في خطين فنيين كبيرين:

  • خط الألحان الرومانسية الشديدة العذوبة والحداثة التي غناها كل من عبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة بشكل خاص, وإن كان قد لحن قليلا منها لفايزة أحمد وصباح ووردة وعفاف راضي وسواهن.
  • خط الألحان الوطنية الكبيرة التي أرّخ فيها عبدالحليم حافظ بصوته لعصر جمال عبدالناصر, بكل أحداثه الكبرى, على أشعار لصلاح جاهين وأحمد شفيق كامل. وقد تميزت هذه الألحان الوطنية بنَفَس شعبي فيه تأثر واضح بسيد درويش, مع طغيان الطابع الملحمي على بعض تلك الألحان الكبيرة مثل: المسئولية وبالأحضان ويا أهلا بالمعارك وصورة وسواها. وتتميز هذه الألحان بشخصية فنية عربية واضحة المعالم, وبنَفَس مصري شعبي صارخ, وبحداثة في وضع الأوركسترا الكبيرة في خدمة هذه التغييرات الفنية والمتنوعة, مما يجعلها نماذج تستحق الدراسة والتحليل من قبل الأجيال اللاحقة.

وألحان شعبية

لم يخل رصيد كمال الطويل مع ذلك, من أغنيات مصرية صارخة الشعبية مثل لحنيه الشهيرين لحنجرة محمد قنديل الممتازة (بين شطين ومية), و (يا رايحين الغورية), وأغنيته الرائعة لمحمد عبدالمطلب (الناس المغرمين), ومن ألحان دينية تستحق التنويه, مثل (قل ادع الله) الذي غنته شادية ثم نجاة الصغيرة, ومثل القصيدة - الموشح (يا ضنين الأمس) التي غناها كارم محمود ثم عبدالحليم حافظ.

ظل كمال الطويل مع كل هذا التنوع الفني الشديد الثراء, شخصية إنسانية وفنية شديدة العذوبة والرقي, في تجسيد حي لصيغة عجيبة تجمع بين الأرستقراطية وروح ابن البلد المصري, وذلك في حياته الخاصة كما في نشاطه الفني.

ولكن قبل ذلك وبعده, كان كمال الطويل فنانا عالي الإحساس بكرامته الفنية, حتى لا يتنبه الكثيرون إلى أنه قد قاطع حنجرة عبدالحليم حافظ قبل عشر سنوات من رحيل هذا الأخير, لأن عبدالحليم كان يصر على القيام بدور الملحن في إدارة الفرقة الموسيقية, وتوجيه التعليمات التفصيلية التي تترجم شخصية اللحن. وكان كمال الطويل يصر من جهته (وهو على حق في ذلك) أنه هو مبدع اللحن, وهو صاحب الحق في التوجيهات الأساسية للفرقة الموسيقية, وإذا كان لعبدالحليم حافظ من إضافات على ذلك, فعليه التفاهم أولا مع الملحن, وليس إلغاء دور الملحن, والاستئثار بإعطاء التوجيه للفرقة الموسيقية.

الطويل والعزلة الفنية

هذه المسألة المبدئية في تقنيات العمل الموسيقي, والمبدئية في الكرامة الفنية للمبدع الموسيقي, دفعت كمال الطويل ليس فقط إلى مقاطعة نجم شهير كان شريكا في إطلاق شهرته, بل دفعته إلى حالة تشبه الاعتزال, حتى أن إنتاجه الأساسي بقي محصورا في عقدي الخمسينيات والستينيات.

أما بعد ذلك, فقد دخل في رحلة الإقلال الفني, فلم يخرجه عن صمته إلا صوت سعاد حسني, واللون الجديد الذي كانت تجيده, في الأغنيات السينمائية والتلفزيونية التعبيرية, فلحّن لها أغنيات ثلاثة أفلام (خلي بالك من زوزو, وأميرة حبي أنا, والمتوحشة) وأبدع في تلحين أغنيات تعبيرية عميقة للمسلسل التلفزيوني (هو وهي) غنتها سعاد حسني.

وختم حياته الفنية بعد صمت طويل, بالتلحين لفيلم يوسف شاهين (المصير), ورفض التلحين لفيلمه الثاني (الآخر), لأنه بكل بساطة, لم يقتنع بالموضوع, كما قال لي.

أما آخر إبداعات كمال الطويل فكانت قصيدة (درس خصوصي) للشاعرة الكويتية سعاد الصباح, غنتها نجاة الصغيرة. ويبدو هذا اللحن الذي صدر قبل سنوات ثلاث أو أربع من رحيله, كأنه قادم إلينا من خضم العصر الذهبي الأخير, الذي تفجّر في خمسينيات وستينيات القرن العشرين.

كمال الطويل آخر غصن ذهب سقط من الشجرة الذهبية للموسيقى العربية المعاصرة, ويبدو أن عصر القحط الموسيقي سيلازمنا وقتا غير قصير, قبل أن تعود أرض الموسيقى العربية الجادة والغناء العربي الجاد, إلى خصبها التاريخي الذي طال فامتد من منتصف القرن التاسع عشر إلى ثلاثة أرباع القرن العشرين.

 

إلياس سحّاب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات