هل تطيل البكتيريا عمر الإنسان?.. د. وليد محمود الشارود

هل تطيل البكتيريا عمر الإنسان?.. د. وليد محمود الشارود
        

          ربما أكثر ما يتداعى إلى ذهن الإنسان عند سماعه لكلمة «البكتيريا» هو المرض والعدوى والتلوث، ولكنها تلعب دورًا أساسيًا في حياتنا اليومية واستخدامها في صناعة الأغذية والأدوية إلا أننا دائما ما نتذكر أضرارها وننسى فضائلها.

          يحدث هذا الموقف العدائي من الإنسان تجاه البكتيريا في الوقت الذي قد ندهش فيه إذا علمنا أن تلك الكائنات المجهرية ربما تكون هي «صاحبة الدار» أو «الساكن الشرعي» لهذا الكوكب وليس الإنسان، وهذا ما لخصه أحد علماء التطور المبرزين وهو ستيفن جاي جولد (Stephen Jay Gould في مقولته «إننا نعيش على كوكب البكتيريا» والتي عزاها إلى أن البكتيريا صاحبة تاريخ أطول من البقاء على هذا الكوكب مقارنة بالإنسان، حيث تشير الدراسات العلمية إلى أنه من المعتقد أن تكون البكتيريا قد بدأت في الظهور على كوكب الأرض منذ أكثر من ثلاثة بلايين سنة بينما بدأ ظهور الإنسان منذ حوالي بليوني سنة، البكتيريا هي أيضا الأكثر عددا وتنوعًا وانتشارًا على كوكب الأرض - فعلى سبيل المثال - فإن عدد أفراد بكتيريا الايشريشيا كولاي Escherichia coli في أمعاء الإنسان البالغ يزيد عن عدد سكان الأرض!! أيضا فإن هناك قدرًا كبيرًا من التنوع البيولوجي في المجموعات البكتيرية التي قد تقارب درجة الاختلاف بين بعضها قدر الاختلاف بين المملكة الحيوانية والنباتية، وللبكتيريا قدرة مذهلة على التكيف مع الظروف البيئية المختلفة فيمكننا أن نجد أنواعا بكتيرية تعيش في درجات حرارة أعلى من درجة غليان الماء وأنواعا أخرى تعيش على درجات حرارة التبريد وبعضها يعيش في المياه القلوية وأخرى في الحامضية وهكذا، وهذا بالطبع يساعد على انتشارها في مختلف الأوساط والبيئات بهذا الكوكب.

          وفي كل الأحوال فإن الصراع بين البكتيريا والإنسان لا يمكن إنكاره والكثير من الحالات الوبائية Outbreaks التي استطاعت البكتيريا من خلالها أن تصيب مجاميع كبيرة من البشر وأدت إلى موت أعداد لا يستهان بها من الأفراد في الماضي والحاضر تدلنا على مدى شراسة وخطورة الكثير من الأنواع البكتيرية، إلا أنه كما سبق أن ذكرنا فإننا لا نستطيع إنكار المنافع العديدة التي تقوم بها الأنواع البكتيرية الأخرى الصديقة، ولكن إذا كانت البكتيريا الصديقة تستطيع إنتاج العديد من الأغذية والأدوية والصبغات والأنزيمات والفيتامينات وغير ذلك فهل يمكن لأكثر المحسنين ظنا بها أن يتصور أنها يمكن أيضا أن تطيل عمر الإنسان؟

          نعم فلقد كان هذا هو محور رؤية جدلية قام بطرحها في مطالع القرن الماضي العالم الروسي الشهير إيلي ميتشنكوف والذي حصل على جائزة نوبل لاكتشافاته المهمة في علوم المناعة، استطاع ميتشنكوف مع أفراد مجموعته البحثية أن يكتشفوا وجود نوع من البكتيريا العصوية يسمي Lactobacillus  bulgaricus في الألبان المتخمرة، هذا النوع من البكتيريا يستطيع تخمير سكر اللبن المسمى لاكتوز وإنتاج حامض اللاكتيك الذي يثبط من نشاط البكتيريا التعفنية والتي يسكن بعضها أمعاء الإنسان وتقوم بتحليل ما يصل إليها من بروتين لتكون مركبات سمية تتراكم مع الوقت وتسبب قصر العمر أو الإصابة بأضرار صحية خطيرة، ومن خلال ذلك اقترح ميتشنكوف أن التناول المنتظم للألبان المتخمرة المحتوية على تلك البكتيريا العصوية يساعد على زيادة عددها وانتشارها في الأمعاء وقيامها بتثبيط البكتيريا التعفنية مما يساعد على تجنب الأضرار الصحية الناتجة عن نشاطها وبالتالي المساعدة على طول عمر الإنسان، ولقد قام ميتشنكوف بنشر تلك الفرضية في كتاب أصدره عام 1907 م تحت عنوان «إطالة العمر» وفي هذا الكتاب حاول ميتشنكوف أن يثبت فرضيته على أساس علمي ولكن محاولاته جاءت في إطار التأملات العلمية أكثر من اعتمادها على النتائج التجريبية حيث لم يقم ميتشنكوف بتصميم دراسات تجريبية للتحقق من أفكاره، والمثير في هذا الكتاب أنه قام بالاستشهاد بمقابلات وبمراسلات وردت إليه من بعض الأشخاص الذين يمتدحون الألبان المتخمرة وأنها كانت سببا في طول عمر بعض أقاربهم أو معارفهم، إلا أنه مع تطور البحث العلمي في هذا المجال ظهر دليل قوي يدحض نظرية ميتشنكوف حيث وجد أن البكتيريا العصوية Lactobacillus  bulgaricus التي توجد في اللبن المتخمر المعروف باليوجورت (أو الزبادي) لا يمكنها استيطان الأمعاء مما يعني أن سيناريو ميتشكنوف لطول العمر لا يمكن تنفيذه!! لكن المجتمع العلمي لا يمكنه إلا أن يحمل لميتشنكوف كل التقدير لكونه من أوائل من أشاروا إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه البكتيريا الموجودة في الأمعاء في التأثير على صحة الإنسان، حيث نجد أن البحث المتصل في هذا المجال أوضح أن أمعاء الإنسان عبارة عن مستوطنة ميكروبية تحتوي على عدد هائل من الأنواع الميكروبية التي يعتقد أن نصفها لم يتم التعرف عليه بعد. يشير أحد التقديرات إلى أن أمعاء الإنسان البالغ تحتوي على حوالي كيلوغرام واحد من البكتيريا، وأن عدد الخلايا البكتيرية في أمعاء الفرد الواحد يتجاوز بكثير عدد الخلايا الآدمية المكونة لأنسجته، ولقد وجد أن بعضا من هذه الميكروبات المعوية يستطيع القيام بأنشطة مفيدة للصحة مثل بكتيريا Bifidobacteria والبعض الآخر يكون ضارًا مثل بكتيريا Clostridia والبعض الثالث يعيش في الأمعاء ليحصل على احتياجاته الغذائية وقد يقوم بوظائف نافعة أو ضارة حسب الظروف التي يتعرض لها، ومن أمثلتها بكتيريا Escherichia coli، وبصفة عامة تسود أعداد البكتيريا النافعة على غيرها في أمعاء الإنسان، ولكن مع تقدم العمر إلى ما بعد الخمسين والتعرض للإصابات الفيروسية أو التسمم الغذائي وكذلك المداومة على التدخين تحدث زيادة في أعداد البكتيريا الضارة، مما قد يساعد على حدوث أمراض تتراوح حدتها من التهابات إلى سرطانات بالجهاز الهضمي، وتستطيع البكتيريا النافعة بفضل سيادتها العددية وقدرتها على إفراز بعض المواد التمثيلية أن تثبط من نشاط البكتيريا الضارة. كذلك فإن البكتيريا النافعة يمكنها أن تقوم بتنشيط الجهاز المناعي مما يساعد على الوقاية من الكثير من أمراض الجهاز الهضمي.إضافة إلى ذلك فإن البكتيريا النافعة يمكنها أيضا أن تقوم بتخليق فيتامين B في الأمعاء وتساعد على تخليص الجسم من الكوليسترول الزائد.

          ومع ظهور سرطان الأمعاء كواحد من أهم مسببات الوفاة في العصر الحديث فإن البعض بدأ في الرجوع إلى أفكار ميتشنكوف من أن وجود أنواع من البكتيريا النافعة في الأمعاء قد يساعد على طول عمر الإنسان!!

المعويات الصحية

          ولقد كانت العودة إلى أفكار ميتشنكوف ذات أهمية هذه المرة وليس من باب الحنين إلى الماضي والترحم على أفكار السابقين حيث إنه في ضوء الاكتشافات الجديدة من وجود بكتيريا نافعة يمكنها الاستقرار في الأمعاء لكي تمارس فوائد صحية فإنه من الممكن أن يتم تفعيل فكرة ميتشكنوف حيث إنه إذا تم عزل هذه البكتيريا وإضافتها في صورة نقية إلى الأغذية فإنه من الممكن أن يساعد ذلك على تحسين صحة المستهلك، وبالفعل فقد بدأت العديد من شركات الأغذية وخاصة منتجي الألبان المتخمرة في إضافة أنواع من البكتيريا النافعة مثل Bifidobacterium bifidum، Lactobacillus acidophilus إلى الألبان المتخمرة وتسويقها على كونها منتجات غذائية وظيفية Functional Foods أي أن لها قيمة صحية إضافة إلى قيمتها الغذائية وأطلق على هذه الأنواع البكتيرية النافعة اسم Probiotics أي «من أجل الحياة» والتي اقترح الكاتب تعريبها بمصطلح «المعويات الصحية» حيث إنها تمارس وظائف صحية من خلال استقرارها بالأمعاء، ولقد وصل حجم التعامل في أسواق اليوغورت الصحي Bio-yoghurt أي المحتوي على بكتيريا صحية إلى عدة ملايين من الدولارات في الثمانينيات.

          إلا أن هناك بعض الآراء العلمية التي ظهرت فيما بعد لتضفي شكا على فاعلية هذه الطريقة في زيادة أعداد البكتيريا النافعة في الأمعاء إذ إنه عند تناول الإنسان للغذاء المحتوي على المعويات الصحية فإن أعدادا كبيرة من هذه البكتيريا يتعرض للتلف بواسطة حامض الهيدروكلوريك HCl عند مرورها على المعدة، كذلك يتلف بعضها عند تعرضه لأملاح الصفراء التي يفرزها الكبد، ولذلك يصل عدد قليل نسبيا من تلك البكتيريا إلى الأمعاء مما قد لا يساعد على قيامها بالوظائف الصحية المتوقع أن تقوم بها. ولقد قام البعض بدراسة إمكانية وقاية المعويات الصحية من تلك الإفرازات عن طريق كبسلتها أي وضعها في كبسول لا يتأثر بالحامض أو أملاح الصفراء ولكنه يتحلل في وسط الأمعاء، ولكن لم يظهر تطبيق صناعي مناسب لتلك الفكرة. وهناك اتجاه بحثي آخر يتبناه بعض الباحثين ومن ضمنهم كاتب هذه السطور يعتمد على تعريض المعويات الصحية لبعض الظروف البيئية التي تساعد على رفع درجة تحملها للظروف الحامضية وغير ذلك. كذلك فإن هناك اتجاه أكثر حداثة يطلق عليه التكنولوجيا الحيوية المرضية Patho-biotechnology يعتمد على الاستفادة من قدرة بعض أنواع الميكروبات المرضية على مقاومة الظروف غير المناسبة للنمو والتي يقوم جسم الإنسان بإحداثها من خلال أجهزته المناعية بغرض مقاومة هذه الميكروبات حيث يتم نقل بعض الجينات التي ثبت أن لها قدرة على مقاومة الميكروبات المرضية لتلك الظروف إلى المعويات الصحية.

          إلا أن التصور الأكثر خطورة والذي يلقي شكا واسعا على إمكانية تحقيق أي فوائد صحية من تناول الأغذية المحتوية على المعويات الصحية هو حقيقة أن الأمعاء كما قلنا سابقا عبارة عن مستوطنه ميكروبية مزدحمة بشدة بالميكروبات حيث تقوم بإخراج حوالي تريليون (1012) خلية ميكروبية مع كل جرام فضلات غذائية، وبالتالي فإنه من الصعب على أي أفراد جديدة أن تجد مكانا لتستقر به في الأمعاء، ومن هنا ظهرت فكرة مثيرة وهي أن يضاف إلى الأغذية مواد تساعد على تنشيط البكتيريا النافعة المستقرة بالفعل في الأمعاء بدلا من تناول الأغذية المحتوية على المعويات الصحية. ويطلق على هذه المواد اسم Prebiotics وهي نوع من المغذيات القولونية أي مركبات غذائية لا يتم هضمها أو استخدامها في المعدة أو الأمعاء الدقيقة وإنما تصل من دون تغير تقريبا إلى القولون بحيث يمكن لبعض المعويات الصحية المستقرة به الاستفادة منها في نشاطها. وفي هذا السياق فلقد اقترح الكاتب تعريب Prebiotics على أن تكون «مغذيات معوية»، والكثير من الأبحاث الحالية موجهة إلى هذه المنطقة البحثية الواعدة حيث يتم العمل على استخلاص المغذيات المعوية من بعض الأغذية أو تخليقها معمليا مع دراسة تأثيرها على البكتيريا النافعة المختلفة ومدى تقبل المستهلك للأغذية المحتوية عليها.

مسألة قدرية ولكن!!

          بالطبع فإن هناك عددا من القضايا الجدلية التي يمكن أن تثيرها المعلومات والأفكار السابق عرضها على رأسها فكرة إطالة عمر الإنسان. وحتما فإن قضية الموت والحياة مسألة قدرية محسومة ولا نجد أن هناك أي حاجة لكي نؤكدها في هذا المقام، ولكن الاكتشافات البحثية السابق عرضها في هذا المقال تؤكد على أن هناك إمكانية لتحسين صحة الإنسان ووقايته من الأمراض من خلال نشاط أنواع معينة من البكتيريا النافعة والتي يساعد وجودها وتسيدها في الأمعاء على الوقاية من الكثير من الأمراض وربما علاجها، وهذا يقودنا إلى جدلية أخرى وهي هل هناك أي فاعلية من تناول الأغذية المحتوية على تلك البكتيريا النافعة والتي نطلق عليها «معويات صحية» في ضوء أن الأمعاء مكتظة بالميكروبات ولا يمكن بسهوله أن تستطيع أفراد جديدة أن تجد لنفسها مكانًا بها، ربما نجد مخرجًا من تلك الحيرة من خلال إحدى توصيات مؤتمر أخير تم عقده في لندن وتناقلته محطات BBC الشهيرة حيث تم استنتاج أن شراء الأغذية المحتوية على المعويات الصحية بأسعارها المرتفعة نسبيا عن نظيرتها من الأغذية غير المحتوية عليها يعد مضيعة للنقود إذا لم يكن الشخص يعاني مشاكل بالجهاز الهضمي. وربما يكون تناول المغذيات المعوية أفضل في هذه الحالة حيث إنه يشجع على نشاط البكتيريا النافعة في الأمعاء ويضمن سيادتها على البكتيريا الضارة، في حين أن تناول الأغذية المحتوية على معويات صحية يعد مفيدا مع تقدم العمر والتعرض للإصابات الميكروبية بالجهاز الهضمي والتي تتطلب تناول جرعات من المضادات الحيوية التي تسبب خللا في التركيبة الميكروبية للأمعاء وتساعد على زيادة أعداد الميكروبات الضارة بها.

 

وليد محمود الشارود   





العالم الروسي ميتشينكوف الذي اكتشف فوائد بعض أنواع البكتيريا في علاج امراض الأمعاء





أمعاء الإنسان مستوطنة للعديد من أنواع البكتيريا وهي أكبر عددا من خلايا جسده





هناك أبحاث تجري لوضع البكتيريا النافعة في كبسولات حتى لا تتأثر بالاحماض المعدية