الحيوانات البحرية لـ «هنري ماتيس»

الحيوانات البحرية لـ «هنري ماتيس»
        

          في مطلع القرن العشرين انضم هنري ماتيس إلى مجموعة من الرسامين في التشكيك بصحة المنهج السائد منذ عصر النهضة قبل أربعة قرون، والقائل بأن رسم الظلال والبعد الثالث من أساسيات فن الرسم.

          فقد رأى ماتيس أن التركيز على الظلال والبعد الثالث يتم على حساب اللون والخط، وراح يعمل على دارسة كل جانب من أساسيات فن الرسم على حدة: اللون، الخط، العمق، الظل ....آملاً في التوصل إلى صيغة يمكنها أن تجمع كل هذه العناصر بشكل واضح دون أن يطغى أحدها على الآخر.

          موهبة الفنان في الرسم ببعدين (طول وعرض فقط ومن دون عمق)، قادته بشكل آلي إلى استكشاف «التلصيق»، فأمسك بالمقص والورق للمرة الأولى عام 1931م، ولكن في إطار الدراسة فقط، كوسيلة للوصول إلى غاية مختلفة. فقد أراد أن يحدد موقع الشخصيات في عمله آنذاك على تزيين «بارنز غاليري» في بنسلفانيا بأمريكا.

          وفي أواخر سني حياته، عندما لم تعد صحته تساعده على الرسم، عاد مجدداً إلى فن التلصيق كفن بحد ذاته، قائلاً إنه باستعمال «الورق الملون والمقص» بدلاً من رسم إطار ومن ثم تعبئة مساحته باللون .. فإنني أرسم مباشرة باللون.

          في العام 1950م، وكان قد أصبح فوق الثمانين من العمر، صنع ماتيس واحدة من أفضل لوحاته. بتقنية التلصيق وأسماها «الحيوانات البحرية».

          تعود هذه اللوحة إلى ذكرياته عما شاهده في رحلته إلى بحار الجنوب قبل عشرين عامًا. وتتضمن مجموعة من الأشكال التي تمثل حيوانات ونباتات بحرية بدءًا بالطحالب والأصداف والأسماك في الأعماق وصولاً إلى اخضرار الجزر (تاهيتي على الأرجح) وسمائها الزرقاء.

          كتب ماتيس عندما كان في رحلته وصفاً للألوان التي شاهدها في المحيط الهادئ، من الطحالب والمرجان في الأعماق إلى سطح الماء وما فوقه. ولكنه تحدث عن ألوان «باستيل» باهتة تذوب ببعضها ... أما في هذه اللوحة فقد استعمل ألوانًا تكاد تدحض النص، لما فيها من فجاجة صارخة. ويعود السبب في ذلك كما يقول الفنان نفسه إلى أن مهمة اللوحة هي التعبير عن المشاعر التي يثيرها موضوعها، وليس الاكتفاء بنقل صورة الطبيعة.

          ومجموعة الألوان في هذه اللوحة هي على درجة لاتصدق من التباعد فيما بينها إذ يستقل كل واحد منها تمامًا عن كل الألوان الأخرى... وكان من المستحيل قبل عقود قليلة أن يجرؤ رسام واحد على أن يجمع مثل هذه الألوان في لوحة واحدة. أما ماتيس فقد عرف بعبقريته كيف يضم بعضها إلى بعض، أولاً بتوزعها على تركيب عام يقتصر على مستطيلين، وثانيًا ببعض الخطوط والمساحات التي تجمع أكثر من اثنتين أو ثلاث من المساحات وتتشابك معها. ثالثًا، بتضافر هذه الألوان للتعبير عن جو بهيج تشيعه الحياة البحرية بتنوعها، ولهذا، كان ماتيس من أكثر فناني القرن العشرين تأثيرًا في جيل الرسامين الذي ظهر في ستينيات ذلك القرن.

 

عبود عطية   





هنري ماتيس، (1869-1954)، «الحيوانات البحرية»، 1950م ، (154-295سم)، ورق ملون على قماش، متحف الناشيونال غاليري في واشنطن