مشاكل يعانيها الآباء.. الطويل يكسب

مشاكل يعانيها الآباء.. الطويل يكسب

باستثناء حالات ثلاث, فإن كل مرشحي الرئاسة الأمريكية الذين فازوا على أقرانهم ووصلوا إلى كرسي الرئاسة في البيت الأبيض كانوا أطول من منافسيهم.

وكل الأبحاث تشير إلى أن النجاح المادي والمهني مرتبط بطول القامة في الغالب, ولذلك صار الغربيون مهووسين بذلك, ويخافون أي خوف أن يغدو أطفالهم قصاراً حينما يتجاوزون مرحلة الطفولة.

وطول القامة ليس مفتاحاً للثراء فحسب, بل هو مفتاح للنجاح الاجتماعي والعاطفي أيضاً, فالدراسات الاجتماعية أثبتت أن النساء الغربيات يفضلن الرجال الأطول منهن.

وقد سُئلت أطول امرأة في العالم ساندي آلن ـ جاء ذكرها في كتاب غينيس للأرقام القياسية, وقد تجاوز طولها 215 سم عن حياتها العاطفية فقالت إنها لا تزال تؤمن بأن الزوج يجب أن يكون أطول من زوجته. وبالطبع أمضت تلك السيدة الطويلة حياتها عازبة.

أما في الشرق فطول القامة ليس على تلك الدرجة العظمى من الأهمية لتدخل عوامل فكرية وثقافية ودينية متنوعة تجعل المجتمع عامة, والأسرة خاصة, تقبل فكرة قصر القامة على أنه قضاء مكتوب.

عوامل... وعوامل

إن طول المرء هو حصيلة عاملين : الوراثة والبيئة: وتعتبر الوراثة عاملا مهما جداً, في نمو الطفل, خاصة على مستوى طول الأب والأم, فالأهل القصار سوف ينجبون أطفالاً قصاراً والعكس صحيح, ويمكن حساب معدل توقع طول المرء من حساب طول أمه وأبيه. فإذا كان الطفل ذكراً فإن متوسط طوله النهائي مساو لطول أبيه مضافاً إليه طول أمه (بعد إضافة 2.2 سم إليه) ويقسم الناتج على رقم 20 وفي حال الأنثى فإن متوسط طولها النهائي مساو لطول أمها مضافاً إليها طول أبيها (بعد طرح 2.2 سم منه) ويقسم الناتج على رقم 2.

ورغم أن هذه الأرقام الحسابية تقريبية, فإنها مهمة جداً لأنها تعطي ـ الطبيب أولاً والأهل ثانياً ـ فكرة عن الطول المتوقع للطفل, إلا أن هذا التوقع ليس رقماً راسخاً لا يتغير بل إنه معرض لتأثير العامل الآخر وهو البيئة.

تتضمن عوامل البيئة درجة التغذية, وحدوث الأمراض, والتعرض للأدوية والملوثات, ودرجة الرعاية النفسية والسلوكية المقدمة للطفل.

حكاية النمو

في مكان آمن داخل الدماغ تتربع غدة صغيرة ـ لايتجاوز وزنها نصف غرام ـ وتدعى الغدة النخامية Pituitary Gland , وكثيراً ما تُلقب هذه الغدة بالغدة السيدة لأنها تشرف على باقي غدد الجسم, ولهذه الغدة عمل أساسي مهم وهو إفراز هرمون النمو Growth Hormone ـ الذي تحدثنا عنه ـ من التأثير في معظم أنسجة الجسم حيث يُستقلب هذا الهرمون في الكبد والأنسجة الأخرى إلى عوامل فعّالة, أهمها (عامل النمو شبيه الأنسولين) (Insulin - Like Growth Factor I) الذي بدوره يؤثر في خلايا غضاريف وصفائح النمو قرب نهايات العظام فيدفعها للتكاثر مما يجعل العظم ينمو طولاً وبذلك يزيد نمو الطفل, وكذلك يؤثر هرمون النمو ـ هذا ـ بواسطة مستقلبات مشابهة في جميع أنسجة الجسم فتنمو نمواً متناسقاً بديعاً.

ولكن لكي يتم ذلك يجب أن يتمتع الطفل بتغذية جيدة, ورعاية حسنة, وألا يكون مصابا بأمراض مزمنة, وأن يكون بحالة سواء هرموني مع سائر الغدد كالغدة الدرقية والكظرية على سبيل المثال, وبالإضافة إلى كل ذلك أن يكون مؤهلا وراثياً للنمو كما ذكرنا سالفاً, وبالعودة للبدايات نجد أن الجنين أثناء الحمل ينمو نمواً سريعاً ـ وذلك أمر منطقي ـ لأن تطور التحام خليتين وتحولهما إلى مخلوق بشري بأعضاء مختلفة ووظائف متنوعة خلال فترة تسعة أشهر يتطلب السرعة القصوى. وتحدث أكبر سرعة نمو في الطول عند الجنين في الأسبوع 18 من الحمل. أما أكبر سرعة في نمو الوزن فتحدث في الأسبوع 34 من الحمل ثم تتناقص سرعة النمو تدريجياً, ويستمر هذا التناقص فيما بعد الولادة ومع أن الطفل ينمو ويتطور خلال سنوات حياته الأولى فإن سرعة النمو بحد ذاتها تتناقص من سنة إلى أخرى فسرعة نمو الطفل في سنته الثانية هي أبطأ منها في سنته الأولى وهكذا دواليك, ومن الطريف حقاً رؤية تناقض سرعة النمو مع استمرار النمو بحد ذاته.

يستمر هذا التناقص في السرعة (وليس في النمو نفسه), إلى مرحلة بدء البلوغ. ويختلف سن البلوغ ما بين المجتمعات لاختلافات عرقية وبيئية ووراثية, وفي المجتمعات الغربية يبدأ البلوغ بعد سن التاسعة للبنين والثامنة للبنات. حينما يبدأ البلوغ تزداد سرعة النمو بشكل كبير يُذهل أحياناً الأهل, وتكون سرعة النمو عند البنات أكبر من تلك عند البنين, إلى أن يحدث الطمث فتتباطأ سرعة نمو البنات بعده, بينما تكون الفترة التي يمتد فيها النمو عند البنين أطول من تلك عند البنات, وهذا ما يعلل أن ذكور أي مجتمع هم أطول من إناثه بشكل عام. يعزى البلوغ إلى إفراز هرمونات الجنس تحت أوامر الغدة النخامية من الخصيتين عند الذكور ومن المبيضين عند الإناث تحث هذه الهرمونات على النمو متضافرة مع هرمون النمو نفسه في البدء ولكن متى ازداد إفراز هرمونات الجنس في العظام مؤدية إلى التحامها, يتوقف النمو الطولي عند المراهقين.

ومن المهم معرفة أن السرعة التي يحدث فيها البلوغ تختلف من مجتمع إلى آخر ومن أسرة إلى أخرى. ولا شك أن بعض قراء هذا المقال يذكرون أنهم كانوا متأخرين في نموهم وبلوغهم عن أقرانهم, إلا أنهم لحقوا بهم فيما بعد, وهذه ظاهرة معروفة وتحدث في بعض الأسر التي يطلق على أفرادها اسم (النامين المتأخرين) (Late Bloomers).

وقت للقلق

يجب على الأهل أن يقلقوا إذا ما لاحظوا بطء النمو عند طفلهم, ولذلك يؤكد الأطباء على أهمية الزيارات الدورية لفحص الطفل ـ ولو كان بصحة جيدة ـ وذلك لمراقبة نموه وتطوره, ويعتمد معظم الأطباء في العالم على مخططات نمو يسقطون عليها طول الطفل ووزنه مقارنة بعمره ويلاحظون بذلك مدى سرعة نموه. ولهذه المخططات والمنحنيات البيانية أهمية كبيرة, لأنه إذا ما بدأ الطفل بالخروج من نسبة نموه صعوداً أو هبوطاً متجاوزاً أكثر من 20% كان ذلك راية حمراء للطبيب تذكرة بوجوب البحث عن سبب لذلك التغيير.

إذا ما أظهرت الفحوص المخبرية أن الطفل القصير مصاب بعوز هرمون النمو وجبت استعاضة الهرمون علاجياً, وهذا استطباب لا يختلف عليه طبيبان في أي مكان من العالم, كما أثبتت الدراسات العديدة أن هرمون النمو مفيد لتحسين طول القامة وتوازن الاستقلاب عند الأطفال المصابين بقصور الكلى المزمن, وعند بعض الطفلات المصابات بمتلازمة تورنر Turners Syndrome وهي حالة من قصر القامة تفقد فيها الأنثى إحدى صبغياتها المؤنثة. ولا تزال الأبحاث جارية حول استخدام هذا الهرمون في مختلف أشكال قصر القامة والحالات المرضية المزمنة المؤدية إلى توازن بروتين سلبي في الجسم. ولذلك ينبغي على طبيب الأطفال أن يكون ملماً بتطورات علم الغدد وآفاقه العلاجية المتجددة.

الترياق السحري

يظن الكثير من الناس أن هرمون النمو هو الترياق السحري, ليس لقصر القامة فحسب وإنما لبناء الأجسام وتأخير الشيخوخة, وتحسين استقلاب الجسم, وكثيراً ما تستغل أجهزة الإعلام بعض الحقائق العلمية عن هرمون النمو لتظهره كأكسير الشباب الذي بحث عنه الأطباء والمفكرون عبر العصور, والحقيقة أن هرمون النمو هو هرمون بنّاء, يحث الخلايا عامة ـ وخلايا النمو في العظام خاصة ـ على التكاثر والانقسام, وهو يحفز صنع المواد الوراثية في الخلايا ويدفعها إلى التكاثر, كما أنه يهدم الشحوم في الجسم ويبني البروتينات في العضلات, ولذلك صار العقار المختار والمرغوب من قبل الرياضيين الذين يبغون بناء أجسامهم ولا يقتصر فعل هرمون النمو على دعم الاستقلاب فحسب, بل إن له تأثيرات داعمة لجهاز تكوين الدم وللجهاز المناعي ولجهاز القلب والدوران, ولا تزال الأبحاث العلمية جارية على قدم وساق لدراسة تأثير هذا العقار في جسم الإنسان.

هذه الخصائص الداعمة للنمو والاستقلاب جعلت الناس يظنون أن هرمون النمو يؤخر الشيخوخة وترهل الجسم, لذلك نشأت في الغرب سوق سوداء غير شرعية لبيع هذه الهرمون للأثرياء القادرين على دفع ثمنه المرتفع.

كان هرمون النمو يستخلص من الغدد النخامية بعد الاستحواذ عليها من الجثث, إلى حين لاحظ الباحثون حدوث مرض نادر غريب مشابه لمرض جنون البقر يدعى مرض كروتزفيلد جاكوب DREUTZFELDT - JAKOB DISEASE وهو عبارة عن اعتلال دماغي مع عته وحركات لا إرادية. وكثيرا ما ينتهي بالوفاة عند المصابين به, فتوقفت المعالجة بهرمون النمو وسحب من الأسواق, ثم استطاعت شركات الأدوية صناعة هرمون بطرق الهندسة الوراثية ثبتت سلامته, فازدادت شعبيته كثيراً, إلا أن سعره بقي مرتفعاً, حيث تقدر كلفة العلاج السنوي بهذا الهرمون بحوالي 30 ألف دولار للشخص الواحد.

 

محمد اليافي