أنامل تشكل المعادن

 أنامل تشكل المعادن
        

حتى الآن لم نبحث بالجدية اللازمة في تراثنا الفني، لم نبال بالتفرج عليه واحتضان فنانيه ومبدعيه مع أن هذا الفن يحتوي على كنوز لم نكتشفها بعد.

          إن تأكيد استقلال الشخصية القومية في الفن الإسلامي تتجابه وتتناقض دائمًا بمحوري الفكر الذين يسعون دائمًا إلى تجريد أي فن عربي أو شرقي مسلم من حقوقه الطبيعية بأنه فن عربي وإسلامي مشبع بطرز تشكيلية من الفنون سبقت نهضة الفن التشكيلي بعصور طويلة. وما تنسبه هذه الأيدي الأمينة إلى أن كل فن في شرقنا منبعه الغرب، أو متأثر بالفنون الغربية وليس الذنب ذنبهم، إنما خطؤنا أننا لم نبحث عن تراثنا مع أنهم أعطونا ثروة يتباهى بها الغرب في متاحفه وينسبون كل ما هو فني جميل ومبدع حتى السحر أنه متأثر بعبقريتهم الفذة التي لم ننكرها يومًا ما وأن لهم مدارسهم المبدعة، ولكن حقنا أن نعترف بأن لدينا ما يضاهيهم في الروعة وإبداع الفنون مع أننا لم نحظ بفرص ثقافتهم وإثرائهم واحتوائهم من قبل أباطرتهم وملوكهم وكنائسهم وما فرض علينا من حظر التجسيد للإنسان وتحريمه دينيًا دفعنا للإبداع بما وهبنا الله من مكنونات هذه الطبيعة من دون تجسيد الإنسان، فاقتصرت أيدي حرفيينا وفنانينا على محاكاة المعدن بأناملهم فصوروه قطعة فنية مزخرفة بنقوش تشكيلية محورها نباتات الطبيعة وحيواناتها أحيانًا وأشكال هندسية تسحر الألباب، والتفنن بالخط مشكلاً آيات القرآن بعذوبة مناسبة لتزخرف قطعًا متنوعة من التشكيل المعدني.

          وكان كل عصر يضع لمساته وطرازه بمفهومه الخاص للجمال إن كان من ناحية غلاء المعدن أو رخصه أو تطعيمه بالميناء والأحجار الكريمة أو شكلاً من الفضة والذهب والنحاس، لذا كان الفنان يبحث عن الجمال في عمله، بفلسفة دينية كانت أم مادية وتقليدية، وممزوجة بواقع العصر ومفهومه المشوق لمحاكاة المعدن وكأنه ذو روح تتفاعل مع الأيدي المبدعة.

          وما قدمه لنا الغرب هو الرحلات الثرية الاستكشافية لما لدينا من كنوز تعرفنا بالفن العربي قبل الإسلام وبعده. 

الفن يجمع ويوحّد

          لذا كان الفن يوحد الحدود الجغرافية ويجمع بين دول كانت مختلفة سياسيًا ويتعرض بعضها للدمار من قبل بعض آخر إلا أن التنافس في التجارة بين الدول شكل حافزًا مهمًا لتطور الفنون والحرص على جودتها وأشكالها، واستئثار بعض السلاطين بأجود أنواع القطع الفنية من لوحات وآنيات وزخارف لقصورهم دفعهم للإغداق على الفنانين والحرفيين ليظهروا أجمل ما لديهم من صنعة وحرفة مزخرفة يتباهون بها في ما بينهم، وتعلقهم بإسلامهم جعلهم يحاكون الآيات بالزخرفة إن كانت في المصاحف المذهبة والمرصعة بالأحجار الكريمة، أو على غمد سيف دمشقي أو فارسي، أو قماش موصلي، أو إبريق نحاسي فارسي، أو صحن منقوش ومكفت بالفضة، أو بالمجوهرات الهندية المغولية التي أظهر فيها الفنان المسلم كل إبداعه في الصنعة والنقش والتطعيم، حتى أنه نقش آيات قرآنية على الأحجار الكريمة، وأجاد باستخدام المعدن في اختراعه للساعات (الاصطرلاب) والصدور حتى أصبح لكل عصر طعمه ولونه الخاص بصناعة المعادن وتحويرها لتصبح فنًا قائمًا.

          السيوف الدمشقية وسك العملات من النحاس والفضة منذ العصرين الأموي والعباسي والتي أصبحت مسلمة محض من دون تأثيرات بيزنطية في العصور: الفاطمي والأيوبي والمملوكي والعصور المتلاحقة التي أصبحت في العصر العثماني من الذهب الخالص، بجودة وتقنية يُشهد لهما. وكانت في العصر الفاطمي ميداليات مزينة بأشكال حيوانية، كذلك هناك التكفيت بالفضة المغربية الأندلسية لأوان وطاسات وصدور وزخرفة كئوس وأباريق نحاسية وفضية.

          إن أول ما يلفت نظرنا في شخصية الفن الإسلامي، هو أنه يتمثل بأشكال نباتية وهندسية أطلق عليها اسم الرقش العربي «الأرابسك» وقد أبدعت في تشكيلها على المعادن، حتى الخط العربي كان له حيز كبير في الرقش على المعدن. 

روعة الألواح البرونزية المذهبة

          وما استأثر بالقلوب هو روعة الجمال الزخرفي للألواح البرونزية المذهبة التي استخدمت في بناء «قبة الصخرة» في العصر الأموي، وما يجعلها فريدة في نوعها هو نوع الأسلوب والتقنية حتى يسعنا القول إنها نادرة، حيث شكل المعدن عن طريق الضغط وكل لوح مختلف عن الآخر، وتغطي الأفاريز الموصلة لتيجان الأعمدة الرواق المثمن، وهذا ما يؤكد لنا مهارة الفنان الصانع الشرقي في هذا العصر، حيث يبدع في إحياء أغصان الكرمة بأوراقها وعناقيدها، حيث يثبت لنا حرفته بالمشغولات المعدنية، ثم تطور في زخرفته في قصر المشتى الأموي.

          كذلك هناك الكثير من الأباريق البرونزية المزخرفة والسيوف والتي رقش عليها بالخط العربي والخوذ من الحديد الموشى بالنحاس.

          ومن روائع الفنون المعدنية الأغلفة الجلدية المطعمة بالمعدن للكتب، وخاصة أغلفة للقرآن الكريم، مكتوبة بالخط الكوفي وذلك في القرن التاسع الميلادي، فقد كانت مزينة بأشرطة  متشابكة ومبرومة كألواح هندسية وكأنها مأخوذة عن الفسيفساء، وصنعت الأباريق وبعض الأواني الأخرى النحاسية والبرونزية  على أشكال حيوانات، وهي ساسانية الصنع، وهناك الحلي الفضية المضغوطة من مختلف العصور الإسلامية.وقد قدمت فارس العباسية نماذج لأهم القطع من مزهريات ومباخر ومساق بشكل حيوانات مثل «عنقاء كامبو سانثو» الذي أخذه من مصر ملك القدس «أموري»، كذلك هنالك أشكال أخرى من أسود وطواويس وهي تقليد إيراني قديم ظل يستخدم بعد الإسلام، وهناك الأثريات الأسطوانية المغربية، والفوانيس الكبيرة من النحاس.

          أما الحلي المعدنية فتعرّض معظمها للتذويب نظرًا لتقنيتها الثمينة، كالعملات أعيد صكها من جديد، وهناك القليل مما تبقى من أساور وخواتم وقلائد مربعة ومثلثة وبشكل الهلال من الذهب المضغوط أو المشبك.

          وهناك الأبواب البرونزية الجميلة في مدرسة العطارين في فاس، وأبواب المسجد الكبير في قرطبة، مصباح مسجد قصر الحمراء.

          كما أن السيوف الملكية الأنيقة زينت قبضاتها برءوس أحصنة عاجية إيرانية الصنع، أو برءوس وحوش ذات طابع شرقي مغربية الصنع والحوذات.

          ومن فنون الحرفة فن الطرق على النحاس للمزهريات الكبيرة والصدور، وتعتبر الموصل ودمشق المركزين الأساسيين لهذه الصناعة، وقد نقلت هذه الصناعة إلى مصر في القرنين الثاني عشر والثالث عشر وهناك القناديل والشمعدانات ذات القواعد المخروطية الواسعة والطاسات السحرية والتي عليها طلاسم منقوشة بالداخل، ومنها ما هو مطعّم بالذهب أو الفضة.

          القطع ذات الصياغة المشبكة مع العلبة الفضية المذهبة والمطرقة تمثل صناعة بالغة التقنية كعلب المجوهرات المطعمة بالأحجار الكريمة في العصر الهندي المغولي في بلاد الهند، والمجوهرات الرائعة التطعيم والتصميم والزخرفة والفريدة من نوعها في صناعة المجوهرات، والسيوف والخناجر التي تحمل قبضاتها العاجية أو الذهبية المرصعة بالجواهر في بلاد فارس وتركيا فن اسطنبول وبلاد الأناضول، فكان حرفيوها مهرة في تلك الصناعة، صناعة السيوف والأدرعة والطسوت والدلايات من النحاس المنقوش والمذهب وهي مقتبسة عن بلاد فارس وشمال إفريقيا من القيروان والجزائر التي كانت مستخدمة بشكل كبير.

          إن الصناعات المعدنية وتشكيلها وزخرفتها كلما زاد ثمنها وأسرف السلاطين بترصيعها فهذا يدلنا على الوفرة الاقتصادية التي كان يتمتع بها كل عصر وعلى مدى تذوق الملوك والأمراء والنبلاء للفن وتشجيعهم للصناعات المعدنية بشتى أشكالها مما دفع بالحرفيين للإسراف في إبداعهم وتشكيلاتهم الفنية.

 

آمال عربيد   





 





ألة موسيقية ولكن الجسم الاساس منها من النحاس المنقوش. تناغم بين الموسيقى وفن الزخرفة





طبق منقوش لتقديم الطعام. تفاصيل الطبق والنقوش المستخدمة من الأزهار وأغصان الشجر





وعاء لطحن الحبوب. مهما كانت الاداة المستخدمة صغيرة أو هامشية تتدخل فيها يد الفنان





وعاء منزلي من البرونز المسبوك مزين بالحروف العربية وأوراق الشجر والزهر