حمزة بونوه... فنان جزائري يؤسس محترفه في الكويت

حمزة بونوه... فنان جزائري يؤسس محترفه في الكويت
        

          كان نيل الجزائر حريتها وكامل استقلالها إيذانًا ببزوغ فجر جديد وبداية ميلاد فني جزائري تنبع جذوره من الموروث الثقافي للفنون العربية والإسلامية، ويصبح للجزائري اعتبار وحق في مزاولة حرية التعبير، وتناول موضوعات ذات طابع إنساني، ومواضيع ثورية وتحررية، وعاد أبناء الجزائر المهاجرون محمّلين بخبرات ودراسات أكاديمية وأصبحت للجزائر تيارات فنية متعددة، ووجدت تجمعات ثقافية وفنية خاصة في مدن الجزائر ووهران وقسنطينة، وانضم إليها الشباب من خريجي مدارس الفنون الجميلة وجمعياتها، مكونين جماعات فنية مثل: جماعة الفنون الإسلامية التي تعنى بالمنمنمات والخطوط والزخارف الإسلامية، والتي بدأها محمد راسم وأخوه عمر، وجماعة الخمسة والأربعين الذين جمعهم حب الفن وممارسته باتجاهات وأساليب مختلفة، وجماعة الفوج الأول من خريجي جمعية الفنون الجميلة، والذين تأكد حضورهم مع نهاية الستينيات، وجماعة أوشام من الذين اتخذوا من الوشم والرموز. والزخارف الشعبية أسلوبًا لعملهم، أما جماعة العصاميين، فقد اجتذبت إعجاب الجماهير بفنهم لصدقه وعفويته، هذا بخلاف بروز جماعة الخطاطين ورسامي الكاريكاتير، ومجموعات من النساء الفنانات، وقلة من النحّاتين والخزافين ممن درسوا في دول أوربا. وفي مراحل لاحقة، ظهرت أجيال من خريجي كليات الفنون والمعاهد الفنية المنتشرة في مدن الجزائر تواصلت مع القيم الفنية السائدة والمطروحة، التي تراوح أغلبها بين مفهومي التراث والمعاصرة، وأعداد أخرى شكّلت وجودًا متعارضًا تتماشى وتوجهاتهم الشبابية نحو إيجاد صيغ تعبيرية جديدة، وجد بعضهم أن يبحث عنها خارج الوطن.

          وجريًا على عادة الكثيرين من الشباب الجزائريين، والذين يشكلون 75 % من المجتمع، وانسجامًا مع طباع بني جيله على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية، وتفضيلهم الاستقلال والاعتماد على أنفسهم، بعيدًا عن إطار الأسرة وأنظار الأهل والجيران حتى يضمنوا كامل حريتهم الشخصية، والتي تسمح لهم باختيار طريق حياتهم وسبل النجاح، يلبي الشاب حمزة بونوه عام 1979 دعوة من إحدى قاعات الفن المعروفة «جالري بوشهري» بدولة الكويت، ليقيم معرضًا لأعماله، وكان في ذلك الوقت على أبواب التخرج من مدرسة الفنون الوطنية بالجزائر، ونيل صك التخرج، فيحقق نجاحًا وقبولاً لأعماله، وينال ترحابًا من المجتمع الثقافي في الكويت، ويعرض عليه بعضهم إقامة جالري خاص يحتضن عرض أعماله بشكل دائم، ولاقى هذا هوى في نفسه، فهو مازال في مقتبل عمره، وهو المولع بالسفر، واكتشاف جماليات الحياة والحرية والحصول على خبرات متنوعة وتجارب جديدة في بلد مشرعة أبوابه على ثقافات العالم.. في الكويت بلاد العرب على وجه الخصوص. ولما لها من خصوصية جغرافية وسط بلاد الشرق العربي وطلتها على دول الخليج العربي يقيم محترفه، ويتفرغ تمامًا للفن، متفردًا في ذلك، فلم يسبقه أحد  حتى الوطنيون منذ زمن طويل حين قدمت الدولة للمتفرغين منهم المحترفات (المرسم الحر) والمواد والخامات وراتبًا كدخل مادي على رأس كل شهر.

          وتدبر حمزة شئون نفسه ساعيًا إلى إثبات ذاته ومعتمدًا على نفسه، متحملاً مسئوليات الحياة وأعباءها، وتعايش مع الوجدان الثقافي العربي والعالمي، فالكويت تعج بآلاف من البشر من مختلف جنسيات العالم، والأهم كيفية تشكيل مشروعه الفني هاجسه الحميمي.

          وسجل نجاحًا، تلو نجاح، معرض هنا، وآخر هناك في الأردن، في لبنان، واتفاق على عرض في مصر. وترحيب من سورية والبحرين، وشق بذلك طريقًا مبكرًا نحو الاحتراف، وبدأ يقطف شهرته مبكرًا، ويعرف كيف يستغل مواهبه وتنميتها في الاتجاه الصحيح. ويفوز حمزة بالجائزة الأولى في المسابقة التي تنظمها كل عامين الجمعية الكويتية للفنون التشكيلية (بينالي الخرافي الدولي للفن العربي المعاصر)، في دورتها الثانية ديسمبر 2006م بمشاركة عدد كبير من فناني الدول العربية أمثال إبراهيم بوسعد (البحرين)، وأحمد جاريد (المغرب) وشوقي شمعون (لبنان)، وعبدالسلام عيد وعبدالرزاق عكاشة (مصر) ويوسف أحمد (قطر) وآخرين.

تجربة حمزة التشكيلية

          وتجربة حمزة الفنية تنتمي إلى الحالة التجريبية الحروفية، وامتداد طبيعي لسلسلة طويلة من الفنانين العرب، «مديحة عمر، حامد عبدالله، يوسف سيدة، ضياء العزاوي، شاكر حسن، محمود حماد، أحمد شبرين، أحمد عبدالعال، يوسف أحمد، علي حسن، نجا المهداوي، حسن المسعودي، علي آرميص، فريد بلكاهية، محمد المليحي». ومن بني وطنه «رشيد القريشي، محمد بن خده، إسماعيل صمصوم ومحبب بن بيلا وآخرون». وبحثهم الدائم عن أسلوب عربي خاص بهم يقدمونه للعالم كفن عربي حديث ومعاصر عرف بالحروفية، ويعتمد على الحرف كفن مفرغًا من الدلالة له جماليته، ولا ضرورة لقراءة حروفه أو كلماته يستمد مغزاه من قيمته التصويرية، وتجليات تشكيلية ذات طبيعة رمزية وتأملية مبتكرة.

          وقد أثبت هذا التيار مكانًا بين الحركات الفنية في العالم، ونجح بعضهم والبعض الآخر لم ينل حظه من النجاح، واستمرت التجربة في مد وجزر تواصل حتى الآن، ونال كثير من الفنانين التشكيليين الحروفيين مكانتهم، وأثبتوا جدارتهم، وحظوا باهتمام مؤرخي ونقاد الفن الغربيين، حتى أننا نجد أن كثيرًا من متاحف العالم تحرص على اقتناء مجموعات من لوحاتهم مثل المتحف البريطاني، الذي نظم أخيرًا معرضًا كبيرًا لمجموعته، يجوب بها بعض بلاد العالم.

          وإذا اقتربنا أكثر من تجربة حمزة التشكيلية، نجده يكتب لوحاته ورموزه أكثر مما يرسمها، وهذه الكتابة التصويرية أو العلامات الكتابية قد تذكّرنا بالكتابة، وأشكال الصور المصوغة في قالب بنائي كما في الحضارة المصرية القديمة، أو مسمارية حضارة بين النهرين، أو الكتابات العمودية في حضارات الشرق الأقصى الصينية واليابانية.

          إن الناظر إلى داخل لوحات حمزة، يتأمل مفرداتها الدقيقة، يجدها علامات كتابية بلا قواعد خاصة تتشابك، تتخللها فراغات، تتناسخ، ويبث الحركة فيها بديناميكية إيجابية بإيقاع موسيقي بصري. هذا النسق الإيقاعي العربي استطاع الفنان أن يسخّره ليصبح أداء معبّرًا فاعلاً لإمكانات التعامل فيها مع ظاهرة الشكل والأرضية بتمييز عناصر بعينها - يقلص خطوطها - على خلفية غاية في التكرارية، ووفق أنساق ومحاور واتجاهات رئيسية ممتدة إلى أعلى، كما نكتشف في شامل إنتاجه الفني روابط خفية تجمع فيما بينها مخزونًا حاشدًا للذاكرة الشعبية التراثية، والخطوط البربرية ومكوناتها الثقافية للحضارة الإسلامية والشمال إفريقية.

          في بعض لوحاته الضخمة، التي يعتمد فيها إحساسه البصري على غزارة إشاراته وعلاماته وخربشاته الحروفية في تشكيلات وأحاسيس زخرفية يلعب فيها الرمز دوره ويفرض نفسه، نرى الخطوط والمربعات والدوائر والمثلثات تشغل فراغ اللوحة بالكامل في تناسق وتيمات تزيينية، ونجده يقسم مساحة اللوحة إلى أعمدة متتالية (تصل إلى دقة المسطرة)، وتختلف عرض أبعادها ينسج عليها كتابات إشارية طولية، وبالرغم من أنها أبعد ما تكون عن تفسيرها، إلا أن الناظر إليها دائمًا يحاول استقراءها، بادئًا من أسفلها أو من أعلاها، فأغلب لوحاته نسجيات سداتها ولحمتها علامات وإشارات طوطمية، وتكرار مشحون بخلفيات روحية أو مخيلة صوفية.

          يهتم حمزة في أعماله بأن يجعل كتاباته الإشارية الخفية، التي لا تستنطق، تبدو كما لو كانت شخوصًا أو أجسادًا رأسية ممشوقة، تحمل سمات إنسانية (عين وأنف وفم)، وهم في ميتافيزيقية، أشكال شاخصة كأنها خارجة من أحجبة المشعوذين والسحرة في حال سكون، وصعود تنحو بامتداد السماء، وكما نرى ذلك في لوحاته الضخمة، نراه كذلك في لوحاته، التي تتألف من مجموعة من الشرائح الطولية المرتفعة جدًا، وكنزة العرض جدًا.

          وفي الواقع، مهما جمح الفنان في تجربته التشكيلية إلى الغرائبية سوف نكتشف أنه حتى في هذا تعبير ابتكاري لرؤيته للأشياء وعلاقته معها. وما يعتمر في نفسه نحوها وحوار تشكيلي لتراكيب شديدة التلوين بالأحمر والأخضر والأزرق والأسود الغالب لكل التخطيطات والحروف، عامرة بالحيوية، وموحية بحركة داخلية دائمة تدهش المشاهد ليقف أمامها متأملاً، باحثًا، ومتعاطفًا.

          ومن منطلقه لتحقيق رؤية مبتكرة جديدة، يلجأ حمزة لوسائط غير مطروحة على الساحة التشكيلية العربية، فيخضع كامل إنتاجه من لوحات فنية إلى تقنية الرسم والنقش المعكوس على أسطح زجاجية، وهذا يعني أن الرؤية لهذه الأعمال، سوف تصبح من الجانب غير المرسوم عليه، أي الوجه الناعم للزجاج، وعندما نحاول تتبع مصادر ذلك، ومن منظور قريب نتذكر مارسيل دوشامب في عمله المشهور «الزجاج الكبير» عام 1916، الذي ربما يعود بسبب مشاهدة دوشامب لتجارب التصوير على الزجاج في بافاريا، والفن الفولكلوري Bavaria Folkart، ولكن الأقرب إلى مشاهدة حمزة هو التصاوير السنغالية الصوفية المعروفة باسم المريدين، وهو التصوير المعكوس على السطح الداخلي للزجاج Reverse-glass paintings، وهي طريقة معروفة وشائعة في شمال إفريقيا منذ بدايات القرن العشرين، وأساسها ما كان يصوّر على زجاج الشبابيك في تونس والمغرب، وخاصة للترحيب بحجاج البيت الحرام، وجلبت هذه الطريقة إلى السنغال على أيدي مسلمي لبنان وسورية والمغرب. وانتشرت هذه الطريقة وصاحبت هذه الرسوم الإسلامية الموحية، التي تصوّر مشاهد مقدّسة من حياة المسلمين وأولياء الله الصالحين، نصوصًا كتابية عرفها الباحثون ورجال المتاحف بـ «النصوص المصورة»، وأطلقوا عليها أعمالاً مركبة أو مفاهيمية تمزج الصورة بالنص، وقد تم عرض نماذج من هذه التقنية للتصوير المعكوس على الزجاج، وبنطاق واسع في أوربا وأمريكا في السنوات الأخيرة.

          وقد كانت لهذه التقنية التي خصّ بها حمزة إنتاجه الفني علاقة بالمظهر الخارجي الفعّال للوجه الناعم للزجاج، ويصبح استخدامه للزجاج والذي استبدله بـ «البلكس جلاس» الأكثر أمانًا في التعرض للكسر، وحماية مؤكدة للوحة على السطح الداخلي من التغيرات، التي تصيبها بالاتصال على الهواء.

          عندما نتابع تحليل إنتاج الفنان حمزة ونتأمله، نلمح براعته وقدرته على تنظيمه وترتيبه لعناصر عمله الفني، واستطاع أن يجد له وحدات مميزة لها صفاتها ومميزاتها ونوعيتها الفريدة، ويرجع هذا لتنوع أشكالها ومصادرها ومنابعها.

          وباتجاه حمزة نحو تشكيلات بصرية جديدة تتأكد لنا قدرته على توظيف أشكاله وعناصره الفنية توظيفًا جماليًا عندما ربطها بالعصر الذي يعيش فيه، وحملها طاقة وإيقاعات وحركة الحياة حسًا وروحًا.

          وعندما يتوسل حمزة تأثيرات الحضارة الإسلامية في شرق وشمال إفريقيا والموروث الثقافي للفن الإفريقي من خطوط ورموز الحفريات، والرسوم الوشمية الشائعة على أجزاء الوجه واليدين للنساء لأغراض تزيينية لتحقيق متعة الرؤية، وكتعويذة ضد العين والسحر، وزرابيه المشحونة بالنقش والوحدات الزخرفية الملونة، نجده يؤكد في ذات الوقت أنها ليست دعوة للعودة إلى الماضي الموروث بقدر ما هي تعبير عن أشكال استحوذت على بصره، تعايش معها منذ طفولته، ولاقت هوى في نفسه، مهّدت لإبداع لوحات تحتشد بقيم جمالية ومشحونة بإيحاءات الصفاء والبهجة.

 

يحيى سويلم   






 





الفنان في محترفه بالكويت





الجموع





للفنان الجزائري نصر الدين دينيه (1861 - 1929) دراسة لوجه شابة بألوان جواش على كرتون 17.5 × 12.5 سم





خطاط صيني يكتب - حائط





 





للفنان الجزائري رشيد القريشي (1947) لوحة محفورة (الأرض) 76 × 56.5 سم





عمل سابق للفنان عام 2004م





كتابات طولية ورموز - 2006م