خلال تلك الرحلة محطات، علامات خاصة بكل إنسان، يوم مولده، يوم إتمامه الدراسة، يوم نجاته من خطر محدق آت من خارجه أو من داخله، أو مناسبات محددة. بالنسبة لي يعد شهر رمضان من العلامات الفارقة، البارزة، منذ أن وعيت به، وبدلالاته، وبما يرتبط به من مباهج، لذلك بقدر ابتهاجي بقدوم العيد، وما يعنيه ذلك من فرح، وانتظار ملابس جديدة، وانطلاق، بقدر ما يكون شجني لفراق رمضان. مازال لشهر رمضان التأثير والقدرة بالرغم من تبدل الأحوال.
في طفولتي، والرحلة لا تزال في بدايتها، كنت أنتظر قدوم أول أيامه كما أنتظر حلول ضيف عزيز طيب الإقامة، يصحب معه كل جميل، تصورته بمخيلتي شيخًا مهيبًا، كل ما يمت إليه أبيض، وحتى الآن، بالرغم من اقترابي من تمام العقد السادس، فإن الهيئة الآدمية التي تصورت عليها الشهر الكريم لم تتبدل ولم تتغير، ويرجع ذلك إلى اتساع المخيلة وانطلاقها، ولأن أسماء الشهور الهجرية منتشرة في مسمعي، كلها مذكرة، كثير ممن يسعون حولي اسمهم، رمضان، رجب، شعبان، محرم، صفر، ربيع، ربما أكون في طفولتي المبكرة رأيت شيخًا مهيبًا، جليلاً، جميلاً، مطمئنًا، مهدئًا، اسمه الشيخ رمضان، ومن ملامحه تكون تصوري هذا.
هذا الشيخ الجليل يجيء بعلامات معينة، منها ثبوت الرؤية، فور الإعلان عن أول أيام الصيام غدا، تبدأ ملامح الواقع في التغير، أول شيء يراودني ذلك الشعور العميق بالاطمئنان، فطبقا لما يقول أبي ويؤكده أن العفاريت تحبس في رمضان، وبذلك يمكن لنا نحن الأطفال أن يمتد لعبنا ومرحنا في الحارة إلى ساعة متأخرة من الليل، كنا نسكن حارة عتيقة من حارات القاهرة القديمة، درب الطبلاوي، وكانت حارة سد، أو غير نافذة، لا تؤدي إلى حارة أخرى، الغرباء الذين يدخلون إليها على امتداد اليوم معروفون، محددون، معظمهم باعة خضر وصحف ولوازم البيوت، بالرغم من ذلك كان الأهل يطلبون منا العودة قبل الغروب، فالظلام مخيف وثمة عفاريت تظهر بين الحين والحين، خاصة عند الفرن الذي يغلق أبوابه عند العصر، وناحية قصر المسافرخانة المهجور.
كان للعفاريت أسماء وصفات، مثيرة للرهبة والخشية، لذلك يخيم الهدوء على الحارة ليلا، هدوء لم أعرف له مثيلا في أكثر الأماكن بعدا وخلوا من الزحام.
لأن العفاريت تفقد حريتها في رمضان فهذا يعني الحرية والانطلاق واللعب مع الأقران إلى ما بعد منتصف الليل. بسرعة أيضا تبدأ ملامح الحياة في التغير، باعة الفول الذين لا يظهرون قبل شروق الشمس يبدأون في الظهور، لكل منهم موقع معلوم، لابد أنهم أعدوا عدتهم تحسبا لمجيء الشهر الكريم، يبدأ طواف باعة الزبادي، ينادون عليه إذ إنه من لوازم السحور، يحمل كل منهم طاولة خشبية مستديرة فوق رأسه، وتحت إبطه حامل خشبي، يغرزه عند وقوفه، كان الزبادي يباع وقتئذ في أوان صغيرة من الفخار، اسم الآنية «سلطانية»، مازلت أذكر مذاقه، بالتأكيد مختلف عن الزبادي المعبأ الآن في ورق مقوى وينتج بكميات كبيرة، وبوسائل حديثة، بالتأكيد أكثر تطورا، لكنها لا توفر المذاق القديم الأقرب إلى الطبيعة.
الفول المدمس والزبادي والشاي، لا تخلو مائدة من تلك الأصناف، سواء موائد الأثرياء أو الفقراء، الكل في السحور سواسية، منذ السادسة أغالب النوم لأتناول هذه الوجبة الاستثنائية، غير المعتادة، أجلس إلى جوار أمي وأبي وأشقائي، ذلك الشعور بالجمع، باللمة، لا يكون إلا في شهر رمضان. وبالطبع يمكن الإحساس أقوى في الإفطار، كان الوالدان يتحايلان لكي أفطر، ربما إشفاقا منهما على كياني الصغير، وأذكر أن والدي كان يقول لي إن إفطار الصغار حتى الظهر، ولكن بعد السابعة كنت أصر وأواصل الصيام. كان ذلك يشعرني مع الكبار، إضافة إلى الاعتياد على الجلد، الصبر، وعند الغروب يكتسب الإفطار مذاقا خاصا فما يجيء بعد تطلع وانتظار يكون له حلاوة استثنائية، في الإفطار عناية خاصة بالطعام، لا يخلو يوم من مرق وخضار ولحم. أما الحلوى فتتحول من طبق استثنائي إلى ثابت، إما كنافة أو قطايف. كانت رائحة الفانيليا وقدح السمن البلدي وتحمير الكنافة فوق نار هادئة من معالم الفترة.
كنت أتطلع إلى الشمس التي تدنو من نهاية رحلتها عند الأفق الغربي. تبدو الدقائق الأخيرة بطيئة جدا، قبل أن ينطلق المدفع من فوق هضبة المقطم، حتى منتصف الخمسينيات كان ممكنا للمدينة كلها أن تصغي إليه، ترتفع صيحة جماعية «هيه»، ثم يسود صمت بعد انتهاء آذان المغرب.
أجلس أمام المائدة، أمد يدي إلى كوب قمر الدين، لكن أبي ينهرني
«انتظر حتى يقول المؤذن.. أشهد أن لا إله إلا الله».
وحتى الآن، لا أتناول الشراب إلا مع نطق المؤذن بالشهادة، حتى نهاية الخمسينيات، لم يكن التليفزيون قد بدأ بعد، وكانت الإذاعة بمفردها في الأثير، وأشهر ما تقدمه بعد تسجيلات كبار القراء للقرآن الكريم، مسلسل ألف ليلة وليلة، أصبحت المقدمة الموسيقية المأخوذة من متتالية ريمسكي كورساكوف جزءا من ذاكرتي النغمية. لم أعرف اسم مؤلفها إلا مع تقدمي في العمر واجتهادي في تذوق الموسيقى العالمية. يلي الإفطار انطلاقنا إلى الحارة واللعب آمنين من شر العفاريت، ثم نعود إلى البيت حيث الكنافة والقطائف والمكسرات. أغالب النوم حتى أستمع إلى المسحراتي. المسحراتي إحدى العلامات الأساسية في رمضان. لكن قبل أن أتوقف عنده فلنطل على الطعام، صحيح أن الشهر الكريم للصيام، لكن ما من شهر تبرز فيه أهمية الطعام مثل رمضان، ولعل ذلك من المتناقضات، من أجمل ما يتعلق بالأكل الشعور أن الإنسان يتناول وجبة الإفطار مع جماعة كبرى ينتمي إليها، الجماعة تبدأ من الأسرة . مع ظروف الحياة أصبح تناولنا الطعام معا في أوقات متفرقة، لا نكتمل حول المائدة إلا في عطلات نهاية الأسبوع والأجازات، في رمضان يلتئم جمعنا يوميا، نتقارب، نمر بالطقوس معا، بالنسبة لي لم يتغير في الأمر شيء حتى بعد أن أمر الطبيب بالإفطار بسبب تناولي أدوية القلب وسيولة الدم، الماء لا غير، أما تناول لقمة خلال النهار فهذا من المستحيلات. منذ طفولتي أجلس في انتظار الأذان والمدفع، ولم يتغير ذلك عندي، إن في الإقامة أو السفر، وفي أيام الوهن، بل إنني أستعيد أيام حرب أكتوبر، لقد صدرت فتوى بالإفطار، لكن الضباط والجنود صاموا، حاربوا وهم صيام، مازلت أذكر الوجبة الجاهزة التي وفرتها شركات القطاع العام التي صفيت الآن وبيعت، وجبة تحوي كل المكونات الرمضانية، المخلل، والمكرونة والخضار واللحم والكنافة، مذاقها مازال في حواسي حتى الآن، وجبة كانت توزع على مليون جندي وضابط يخوضون الحرب في الشهر المقدس، من مكوناتها أتوقف عند ما يختص به طعام رمضان وأبدأ بالمخلل.
المخلل
للمخلل المفتتح، ربما لا يقربه المرء طوال العام، لكنه يصبح من اللوازم في رمضان.
«المخلل» وشهر رمضان يستدعيان إلى ذاكرتي شخصين من القاهرة القديمة، الأول هو البولاقي، لا أعرف اسم الثاني، بل لا أعرف إذا كان هذا اسمه أم لقبه، كان الوالد - رحمه الله - يرسلني إليه، أعطيه قرشا أو اثنين لأحضر «المخلل» اللازم لرمضان.
لم يكن للبولاقي دكان. إنما كان يضع مائدة من الخشب أمام بيته الذي يقع في شارع حبس الرحبة بالجمالية، بالضبط أمام مقهى البنان، الذي يمسك بناصية شارع قصر الشوق، بالرغم من أن شارع حبس الرحبة طوالي، فإنه مثل كل الشوارع الرئيسية في القاهرة القديمة لا يمضي مستقيما، بل متعرجا، لذلك يبدو عند حد معين وكأنه مغلق، وتلك خاصية في المدن العربية كلها. في تقديري لها أسباب منها ما يتصل بالبيئة إذ إن هذا التعرج يؤدي إلى الحد من اندفاع الرياح شتاء، وامتداد الظلال صيفا، كما أن له هدف نفسي، إذن سيهون على الماشي قطع المسافة، إن انقسام الشارع إلى مراحل فيه وعد دائم بالوصول، وعند بلوغه النقطة التي يبدو فيها الطريق مغلقا ينفتح على مسافة أخرى، هكذا يتجدد المنظر كل مائة متر تقريبا، هذا يمنح المقيمين في المكان خصوصية وشعورًا خاصًا بالمكان، هكذا تبدو الحميمية في أيام رمضان والأعياد فكأن الطريق امتداد للبيت، للأسرة، إنها حميمية التقارب والألفة التي توفرها المدن القديمة لساكنيها من مغرب وطننا العربي إلى أقصى مشرقه، من الذين كنت أرقبهم منذ طفولتي مع طول رمضان «البولاقي»، إنه أحد الشخصيات المرتبطة بالشهر الكريم تمامًا مثل عم «حسين المسحراتي»، وصوت زوزو نبيل التي كانت تؤدي دور شهرزاد في المسلسل الإذاعي «ألف ليلة وليلة» التي كان يكتبها طاهر أبو فاشا، لم يكن التليفزيون قد دخل إلى حياتنا بعد بفوازيره ومسلسلاته.
سنوات متتالية أرقب البولاقي وأتأمله وأتعامل معه فقط عندما أشتري المخلل، لم أتبادل معه الحوار، أخبره فقط عما أريد، فيتطلع إلي من خلال عينين عميقتين السواد، محدقتان، نافذتان، وسرعان ما يمسك الطبق الفارغ الذي جئت به ويلبي طلبي، كان البولاقي موظفا حكوميا في جهة ما، ربما كانت السكك الحديدية، يبدو محددا، صموتا، لا يخالط هذا أو ذاك، لا يجلس بالمقهى، لكنه مهذب يرد التحية بأحسن منها، لا يظهر كبائع مخلل إلا في شهر رمضان فقط، في أول أيام الشهر الكريم يخرج المنضدة المستطيلة، يرص فوقها قدورًا فخارية، وأوعية زجاجية كبيرة «برطمانات» وأطباقًا عميقة كبيرة، في الأواني المغلقة الزيتون الأخضر المخلل، والليمون الذي طال حفظه غامق الصفرة، والبصل بأحجامه الصغيرة والكبيرة واللفت بنوعيه الأحمر والأبيض، أما الأطباق المغطاة بقماش خفيف، فيرقد داخلها الباذنجان الأسود، والطماطم، وشرائح الخيار، والفلفل بأنواعه، النحيل الطويل، والغليظ.
يبدأ البولاقي البيع منذ العصر، لا أدري، هل بعد عودته من وظيفته، أم أنه كان يحصل على إجازة طوال شهر رضان من أجل المخلل، كان حضوره أمام البيت الذي يسكن الطابق الأول منه مهيًبا، كان نحيلاً، أبيض البشرة، غامق الشعر، أنيقًا في ملبسه، أراه ماضيًا إلى عمله في حلة كاملة ذات صديري حتى في الصيف، لكن في رمضان يرتدي جلبابا أبيض، ناصع البياض، يشمر أكمامه، لا يمسك الثمار المخللة بأصابعه، بل بملقاط معدني، أو مغرفة، وإذا مد أحد الزبائن إصبعه مشيرا إلى نوع معين، يحذره من لمس المخلل، كان يبدو كطبيب أتم تعقيم أدواته استعدادا لإجراء جراحة دقيقة. وعندما يرص الباذنجان أو الطماطم يبدي العناية الفائقة، أذكر أنفاسه التي كان يستنشقها بقوة عند انهماكه شأن من يستمتع بعمل ما.
الحق أنني لم أعرف مذاقا مماثلا لمذاق المخلل الذي يعده البولاقي، خاصة الزيتون والخيار واللفت، أما الباذنجان فكان يحشوه بخلطة لم أعرف لها مثيلا حتى الآن، ولعله آثر أن يجعلها سرا لم يطلع عليه أحدًا، ويبدو أن مذاق الباذنجان جذب آخرين، لذلك تعاظم الطلب عليه. ويبدو أن بعض المشاهير والشخصيات المرموقة من المصلين في مسجد الحسين سمعوا به، كذلك مشاهير تجار خان الخليلي والصاغة، والنحاسين، لذلك أصبح الصنف الوحيد الذي يجب حجزه مقدما قبل يوم واحد على الأقل، الباذنجان المخلل، ويبدو أنه لم يستجب لكل المطالب التي أوصته بزيادة الكمية، خلال سنوات متعاقبة منذ أن عرفته في طفولتي لم تتغير الكمية التي يعرضها، قبل المغيب تنفد معظم الأصناف، الباذنجان أسرعها، عبر سنوات عديدة لم أره يتخلف يوما واحدا في رمضان، قبل الإفطار بدقائق يدخل إلى بيته، ويترك المنضدة فوقها الأواني الفارغة أو الممتلئة، بعد العشاء يجمعها. ولا يظهر إلا اليوم التالي. هكذا أصبح البولاقي من الأسماء الشهيرة بإتقان ما تقدمه من طعام، مثل الدهان في اللحمة، وأبو حجر في الفول، والخضري في البسبوسة والكنافة، أسماء ذاع صيها وانتشر في القاهرة القديمة وقصدها الناس. لم يشتهر إلا صنف واحد خارج مخلل البولاقي، إنه ليمون عم حسن المسحراتي.
عم حسن من سكان حارتنا، قصير القامة، نحيل محدودب، بعينيه حول، منذ أن فتحت عيني على الدنيا وبالنسبة لي هو المسحراتي، مسحراتي حارتنا، وحتى الآن إذا ما ذكر المسحراتي يستدعى إلى ذهني عم حسن على الفور، فهو مرجعية هذه الشخصية الفريدة المتصلة برمضان، لم أعرف السبب الذي جعله يقوم بالتسحير في رمضان. ربما ورث ذلك عن والده. كان عمله متصلا بالمزادات، يقصد مزادات القصور والبيوت القديمة، ويشتري التحف والأشياء الغريبة، ثم يضعها في مخزن عميق يقع تحت مسجد محمود محرم المطل على شارع حبس الرحبة والقائم عند مدخل درب المسمط حيث المدخل الثاني لقصر المسافرخانة الذي احترق منذ أربع سنوات.
داخل هذا المخزن يحتفظ عم حسن بإناء زجاجي لم أعرف له مثيلا في أي محل للمخلل أو أي مكان آخر، مستطيل، طوله حوالي متر وعرضه حوالي ثلاثين سنتيمترا، كان يحجبه طوال العام ثم يظهره في أول أيام رمضان مليئا حتى الحافة بالليمون المخلل الذي استغرق تخليله سنة كاملة، لم أكن أعرف هل يحتفظ بوعاء آخر داخل المخزن يمد منه الوعاء الزجاجي؟ أم أنها الكمية التي أراها أول أيام رمضان وتنفد مع آ آخر أيام رمضان، ومع ثبوت رؤية هلال شوال يدخل الإناء إلى أغوار المخزن المجهولة ولا يظهر إلا في السنة التالية.
كما أني لم أعرف مثيلا لباذنجان البولاقي، لم أعرف حتى الآن مثيلا لليمون عم حسن المسحراتي، لطول مكثه في الوعاء ينتفش، يصبح حجم الليمونة قريبا من البرتقالة لتشربها الماء المزود بالكمون والبهارات والملح والخل والعصفر ذي البذور الصفراء التي تلين وترق وترصع قلب الليمون التي تتفرطح ويتسع حجمها بتأثير التضاغط والالتصاق بالجدار الزجاجي، كانت رائحة الليمون نفاذة تنبثق من الوعاء إلى فراغ الطريق، كان يبيع بالثمرة، والليمونة الواحدة كانت تكفي لإعمار مائدة بعد تقسيمها، مجرد قطعة منها تفي بالغرض، تفتح الشهية وتمد الجسم بالأملاح التي فقدها خلال الصوم وهذا أحد أسباب افتتاح المائدة بالمخلل بعد تناول عصير المشمش «قمر الدين»، كلاهما مصدر طاقة لازمة، سكر وملح. بما أننا ذكرنا السكر فلابد من مقاربة الكنافة، الكنافة بالتحديد.
الكنافة
ترتبط عندي الكنافة بشهر رمضان، بل إنها من معالمه، ربما يمضي عام كامل لا أتذوقها ولا أقربها، لكن إذا حل الشهر الكريم فلابد من تذوقها مهما التزمت بأنظمة غذائية صارمة خشية زيادة الوزن. في هذا الشهر تنشط الدكاكين المتخصصة في صناعتها نيئة، وأشهرها على الإطلاق في القاهرة دكان مجاور لضريح السيدة زينب الطاهرة، شقيقة مولانا الحسين، منذ الصباح الباكر يقف جمع أمام هذا المحل للحصول على كيلو أو أكثر من الكنافة، الدكاكين المتخصصة في الفطائر والحلويات وبعض المتاجر التي لا صلة لها بالحلويات أو العجائن، تنصب الصينية المعدنية الكبيرة، تحتها نار هادئة توفر درجة حرارة معينة كافية لإنضاج الشعيرات التي تبث من خلال وعاء معدني يشبه سطل الماء القديم، مثقوب من أسفل، ثقوبًا دقيقة تحدد سمك شعيرات الكنافة، تسيل من السطل، دقيقا ممتزجا بالماء والملح والخميرة، يقوم العامل بتحريك الوعاء حركة دائرية محتفظا بمسافة بين سطح الصينية والوعاء. وبمجرد رص عشر دوائر يقوم بجمع الخطوط بيده ليتولى عامل آخر رصها فوق أوراق بيضاء من أوراق الصحف السادة التي لم تطبع بعد، وتلك تكفل حفظ الشعيرات طرية، طازجة. طوال شهور السنة لا نلحظ تسوية الكنافة بالرغم من وجودها داخل المحلات وخارجها، عدا شهر رمضان الذي يتعاظم فيه الطلب على ذلك النوع من الحلوى تحديدا والتي ترتبط به ارتباطا وثيقا.
مرجعيتي في تذوقها ما كانت تعده أمي وكانت ماهرة في إعدادها ولها طريقة فريدة ولحسن الحظ انتقلت طريقتها إلى شقيقتي - أطال الله عمرها - بعد أن تعلمتها منها. هذا المذاق يرجع إلى زمن طفولتي، من أقدم أنواع الطعام التي تحتفظ بها ذاكرتي مع الأنواع الأخرى، والتي تحدد معالم ذاكرتي المذاقية، فالطعام ذاكرة.
الكنافة والقطايف
كان من معالم الشهر الفضيل إعداد الكنافة والقطائف في البيت، ولو أن الوالدة أعدت الكنافة في شهر آخر غير رمضان لما بدا ذلك عاديا، فالكنافة لا تكون حقا وفعلا إلا في رمضان. كانت أمي تحتفظ بصينية من النحاس، ثم أصبحت فيما بعد من الألمونيوم، تغطيها بطبقة رقيقة من السمن الأبيض، وتضع الصينية على نار الموقد الهادئة حتى إذا ساح السمن تبدأ في رص شعيرات الكنافة حتى تغطي الأرضية، وتنثر حبات الزبيب، ثم تضع طبقة أخرى من الشعيرات وترش الزبيب، ثم طبقة ثالثة، وتبدأ في تسوية الكنافة بإدارة الصينية في حركة دائرية بطيئة، بينما تمسك بحافة الصينية مستعينة بقطعة قماش لدرء الحرارة المتصاعدة، كانت تبدي جِدًا وجلدًا، ولا تكف عن تدوير الصينية إلى أن يستوي الجزء الأسفل ويتخذ لونا وسطا بين الأصفر والأحمر، تتناول الصينية بعيدًا عن الموقد، تهزها يمينا ويسارا، تقلب الدائرة التي تماسكت فوق غطاء مستدير، لتعيدها بالعكس مرة أخرى إلى الصينية، هكذا يصبح السطح العلوي في وضع تحتي، بحيث يتلقى الحرارة القوية وهكذا تتم تسوية جميع أجزاء الحلوى التي أخذت شكل الوعاء الدائري وتماسكت، وبالطبع انكمش حجمها قليلا، كان إنضاجها فوق موقد صغير يشتعل بالكيروسين يقتضي جهدا وطاقة. وفي منتصف الستينيات وقع تطور كبير في بيتنا، إذ اقتنينا موقدًا مزودا بفرن يشتعل بالغاز المضغوط «البوتاجاز» وكان محلي الصنع، من إنتاج المصانع الحربية ذا شعلتين سطحيتين قويتين، وأخرى صغيرة لإعداد الشاي أو القهوة أو غلي الحليب، ومازلت أذكر رقم المصنع «مصنع 37 حربي»، لقد ساعد الفرن أمي على وضع الصينية بداخله ولم تكن في حاجة إلى تقليبها إلا مرة واحدة، وربما لا تحتاج إذا تأكدت أن الكنافة نضجت واكتسبت هذا اللون الأصفر الذهبي المائل إلى الحمرة، كانت أمي ماهرة في استخدام الفرن لقد عرفت فرنا مختلفا في جهينة بصعيد مصر، فرنًا من الطين، كان الطعام فيه ينضج في أوانٍ فخارية، ويتم أيضًا خبيز أرغفة الخبز الشمسي والفطائر، لكنني لا أذكر أنني رأيت كنافة في صعيد مصر، أذكر جيدا الفطائر، كانت تخبز في الصباح، ونسميها «أقراص» لأنها دائرية، وكذلك «المخروطة»، التي كانت تؤكل باللبن مع السمن، وهذه أكلة قريبة من الكنافة والكسكسي وأظنها في طريقها إلى الانقراض الآن. حدث في الصيف الماضي عندما زرت القرنة، البر الغربي بالأقصر، ونزلت في بيت قديم اعتدت الإقامة فيه أن طلبت من صاحبه وهو صديق أيضًا، أن يعد لي إفطارا من «المخروطة». كان الأمر أيضا يتعلق بالذاكرة، غير أنني لاحظت حيرة محمود القط صاحبي، قال إنه لا يذكر «المخروطة». منذ سنوات طويل لم يأكلها، ذهب إلى امرأته لكنها اعتذرت، وعندئذ تحدث إلى بعض أقاربه، وقد عرفت هذا كله فيما بعد، ومضى أحدهم إلى أمه العجوز التي جاءت لتعد «المخروطة»، تلك الأكلة التي لا يعرفها الجيل التالي.
تصنع الأقراص من الدقيق، ويتم تقطيعها إلى خيوط نحيلة، أغلظ من خيوط الكنافة، أقرب إلى حجم المكرونة الإسباجيتي، ثم توضع في قماش خفيف، يستحسن أن يكون من الشاش، يوضع في مصفاة، وتوضع المصفاة فوق «قادوس» من «الفخار» (كان ذلك زمن طفولتي) به ماء يغلي، وعلى البخار المتصاعد يتم إنضاج شعيرات المخروطة، تماما كما ينضج «الكسكسي» المغربي، وبعد النضج يصب اللبن المحلى بالسكر أو العسل فوق المخروطة، إفطار دسم معتاد في صعيد مصر بدأ يختفي الآن، كانت أمي تتقن إعداده، لكنني لا أذكر أنني رأيت الكنافة في جهينة حيث ولدت في الصعيد، لابد أنها أتقنتها في القاهرة من إحدى جاراتها القاهريات عندما جاءت من الصعيد بصحبة أبي واستقرت معه. كان لابد أن أستفسر منها عن إتقانها الكنافة، لكنني لم أفعل مثل أمور كثيرة لم أسأل عنها، إما كسلا وإما بالإرجاء ظنا مني باتساع الوقت، غير أن وقتها نفد قبل أن أحاط علما وألم بما لم أكن أعرف.
بعد إنضاج الكنافة، تحين مرحلة التحلية، فيها يتم صب الشراب المصنوع من السكر والليمون والذي تم غليه فوق النار ثم تبريده، يتم صبه على مهل، يتخلل الشعيرات التي تماسكت واستوت، وشيئا فشيئا تلين ويكون السطح أنشف الأجزاء، أما القلب فهو ألينها وأحبها إليّ، بعد آذان المغرب نبدأ الإفطار بشرب الخشاف، البلح والتين والزبيب المبلول، ثم الوجبة الرئيسية، ثم بعد الختام يحل مكان الحلوي، أي الكنافة أو القطائف، تقطع أمي بالسكين، تبدو الخيوط الصفراء المبتلة بالشراب وكأنها سلاسل المتعة، كانت كنافة أمي وسطا بين الجفاف واللين وهذا ما أفضله، وأبحث عنه باستمرار في سائر المحال والأصناف التي أتوصل لها، مع تقدم الزمن أصبح شراء الكنافة من محلات الحلوى أسهل وأسرع، تعرفت على أنواع شتى، فهناك «المبرومة» واشتهر بها حلواني في القاهرة القديمة اسمه «الخضري» بدأ ظهوره في سوق الصاغة، عقب موعد الغداء كان يقف عند المدخل الغربي لخان الخليلي وأمامه صينية كبيرة مغطاة، الكنافة ملفوفة حولها كأنها كابلات من الحلوى، كانت محشوة بالأرز والبندق وعين الجمل، مغمورة في شراب سميك القوام، حلو، وعرفت نوعا آخر أقرب إلى المبرومة ولكنه مستطيل، قطع مبرومة لا تدور حول الصينية، ولكنها مستطيلة، السطح العلوي منها دائما أكثر صلابة لتعرضه للنيران، والتحتي ألين، إنها الطريقة التي تقارب كنافة أمي ولكنها تقف على مسافة منها، رأيتها في تركيا وفي اليونان، الطريف أنني اعتدت أن اتناول الطعام في مطعم يوناني شهير في فرنسا قريب من جريدة لوموند. وعندما قرأت في القائمة اسم «القطائف» سألت النادل عن الكنافة فلم يعرفها، ثم طلب الانتظار، عاد ومعه طباخ مصري يعمل في المطبخ، تصافحنا وتعرفنا، عندما طلبت منه «الكنافة» ابتسم، قال إنهم يسمونها هنا «قطائف». وتذوقت أصابع الكنافة لكن المذاق كان على غير ما توقعت. في حرب تشرين زرت سوريا عقب وقف إطلاق النار مباشرة، والحلوى الشرقية تخصص سورية ولبنان. في حمص توقفت أثناء سفري إلى اللاذقية لزيارة قيادة القوات البحرية، كنا نسافر ليلا، وبعد صلاة الفجر في مسجد خالد بن الوليد اقترح رفيق السفر، الأديب والناقد رياض عصمت وكان مجندا في إدارة الشئون السياسية وقتئذ، وهي الإدارة المسئولة عن التعامل مع الصحفيين، اقترح أن نتناول الإفطار من محل مشهور اسمه «الناطور» معروف بجودة الكنافة التي يعدها، واعترف أنها بالغة الجودة خاصة المبرومة منها، محشوة بما لذ وطاب من الفستق والبندق والجوز واللوز، لكنها جافة، تقرقش بالرغم من سخائها، بمجرد أن قضمت قطعة منها تذكرت كنافة أمي الطرية، السلسة، غير أن الكنافة التي زاحمت كنافة أمي وكادت تدانيها في المكانة، فقد تعرفت عليها في اللاذقية.
قال صاحبي رياض إننا سنتجه إلى حلواني شهير لا يفتح إلا ساعة فقط بالنهار، من الثانية عشرة إلى الواحدة، يبيع كنافة بالجبن، أذكر المحل الصغير لكنني لا أذكر اسمه، يقع فوق مرتفع مطل على البحر، رجل قصير، ممتلئ، واثق جدًا من نفسه، يقطع الكنافة بعناية وكأنه جراح، تذكرت حلواني في دمياط اسمه «أبو ستة» كان متخصصًا في حلوى «الهريسة» وهذا نوع فريد لم أعرفه إلا في دمياط، ولا مثيل له، ولكنه يحتاج إلى حديث خاص، تذكرته في اللاذقية لأن المحل يفتح أيضا لمدة ساعة فقط يوميًا، تنفد الكمية فيغلق أبوابه، أحببت الكنافة بالجبن، وكلمة الجبن هنا مجازية، لأنه جبن غير مالح، وتلك تؤكل ساخنة، يا سلام على المذاق، أكلتها من محل آخر مازلت أذكر اسمه في عمان بالأردن، اسمه «أبو حبيبة» وصاحبه أصله من نابلس التي اشتهرت بهذا النوع من الكنافة المعروفة بالنابلسية، رائحتها تدل عليها، ذكية، شهية، أما المذاق فلا مثيل له.
عرفت أنواعا شتى من الكنافة من خلال محلات الحلوى التي انتشرت في القاهرة والإسكندرية، لكل كنافة طابعها ومذاقها، ولكن تظل كنافة أمي - رحمها الله - هي المرجع، وهي الأفضل، وفي رمضان من كل عام أستعيد مذاقها من خلال ما تعده شقيقتي، فكأنني أستعيد أيامي الأولى.
تنتهي أيام رمضان الجميلة ومعها ينفرط عقد الطعام، ويتفرق أشخاص رمضان في الذاكرة، غير أن من يلح عليّ منهم المسحراتي.
المسحراتي
«اصحى يا نايم
قوم وحد الدايم..»
نداء منغم يرتبط بالمراحل الأولى من العمر، ينضوي على كل ما كان يحتوي عليه الفؤاد من تطلع إلى اكتشاف الدنيا وتأهب بكر لتلقي مباهجها، أول ما سمعته في درب الطبلاوي حيث نقيم. درب هادئ من دروب القاهرة القديمة، والدرب أصغر من حارة وأكبر من زقاق، كان دربنا لا يفضي إلى آخر، لذلك عرف بين القوم بأنه سد، لا يدخل إليه إلا من يسكنه أو من يقصده، لذلك كان ظهور غريب فيه مما يثير التساؤل والريبة، لذلك كان الدرب مكانا آمنا للعب الأطفال في الأصباح الباكرة.
على ناصية مدخله مسجد سيدي مرزوق الأحمدي، التلميذ والمريد الأشهر لسيدي أحمد البدوي الفاسي الصوفي الذائع الصيت، والذي يقوم مرقده في طنطا، وسط الدلتا، ويحضر مولده السنوي أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، مسجد سيدي مرزوق العتيق، أضفى على الدرب خصوصية، خاصة لمن يسكن به وثمة بناء آخر - قصر المسافرخانة - الذي كان فريدًا في عمارته وزخارفه، وقد التهمته النيران قبل عامين وقضت عليه تماما.
عم حسن كان من معالم دربنا أيضًا، خاصة في شهر رمضان. في الشهور الأخرى يظهر في الدرب فلا يلفت النظر، إنه أحد سكانها الطيبين، متوسط القامة، نحيل الجسد، لديه مخزن تحت مسجد محمود محرم شهبندر تجار القاهرة في العصر العثماني، والمالك الأصلي لقصر المسافر خانة قبل أن يستولي عليه محمد علي باشا ويخصصه كمقر رسمي للضيافة.
كان عم حسن مشهورا بارتياده المزادات القديمة التي تقام صباح كل يومي جمعة وأحد. ومنها يقتني أشياء نادرة من التحف والأشياء الغريبة كان المخزن يحتوي على كل ما يمكن للإنسان أن يتصوره بدءا من عجلات السيارات إلى الأواني النحاسية إلى الإطارات الخشبية إلى مداخن القاطرات وحتى محركات الطائرات. لم يكن عم حسن يستخدم عصا وطبلة إنما كان يمسك بعصا غليظة، يقرع بها أبواب الحارة. وكان صوته قويا بالرغم من نحافة جسده، يبدأ قادما من بعيد، يتوقف أمام باب كل بيت بعد أن يقرعه بالعصا، ثم يذكر الأسماء فردا فردا.
«اصحى يا عم احمد وحد الله
اصحى يابو فلان وحد الله..
قوم يا بوفلان.. وحد الدايم»
وينتقل إلى المنزل التالي، وهكذا، إلى أن يصل إلى باب بيتنا رقم أحد عشر، يقرع الباب، ويذكر الأسماء مناديا حتى يصل إلى اسم الوالد
«اصحى يا عم احمد يا غيطاني وحد الله»
عندئذ ينتابني سرور، وكثيرا ما كنت أسأل أبي عن الوقت الذي سوف يذكر فيه عم حسن اسمي، كذلك اسم أخي إسماعيل، وأخي علي. لم يكن يذكر إلا أسماء الذكور، فيقول الوالد، إن هذا اليوم سيجيء عندما نكبر، ونصوم رمضان كاملا.
مع توالي الزمن واتساع المدينة اختفى المسحراتي، لم يعد دوره أساسيا، كما أن الفترة الفاصلة بين الإفطار والسحور اتصلت بفضل البرامج التليفزيونية والمسلسلات المتعاقبة المتنافسة على شتى القنوات، قبل التليفزيون، وحتى نهاية الخمسينيات، لم يكن هناك إلا مسلسل إذاعي واحد، ألف ليلة وليلة، والفوازير الرمضانية، وإذاعة تلاوة القرآن الكريم مباشرة من مسجد مولانا وسيدنا الحسين، أما السهر فكان داخل البيوت، وفي المقاهي القاهرية القديمة وأهمها بالطبع الفيشاوي، كان الناس يجتمعون للحديث معا، يتناول الميسورون منهم المكسرات ويتواجهون أثناء الحديث سواء في المقهى أو البيوت، بعد ظهورالتليفزيون، تراجع السهر والحوار، أصبحت الأنظار كلها تتجه صوب الصوت والصورة، من مسلسل إلى برنامج ومن برنامج إلى مسلسل، حتى حلت الفضائيات بتنوعها، فانتفى الوقت وصار أضيق من أن يستوعب المتابعة، الكل ينظر في اتجاه واحد إلى الشاشة، الكل صامت، يصغي وأحيانًا يعلق، هكذا لم يعد هناك أيضًا نوم بين الإفطار والسحور، أسمع في الضاحية الهادئة التي أسكنها الآن «المعادي» صوتا خافتا ضعيفا لمسحراتي واهن الصوت، يدق طبلة، وينادي بجمل عامة النائمين أن يستيقظوا، إنه لا يعرف أسماء من يسكنون العمارات، وكيف يعرفهم إذا كانوا هم لا يعرفون بعضهم البعض ولا يتواصلون إلا عبر تحية خاطفة إذا التقى أحدهم بالآخر صدفة فوق السلم أو عند المدخل، في الدرب القاهري القديم، كان التواصل قائما عبر التزاور والسهر، أو عبر تناول أطباق الطعام بين الجيران، كانت الحيوات موصولة متقاربة، أما الآن فكل يحيط نفسه بسياج، جدار عازل، حتى في شهر رمضان، على الجانب الآخر انتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة مآدب الإفطار الجماعية في النوادي والمطاعم والجمعيات والنقابات، في كل سنة قبل حلول الشهر الكريم أقرر ألا أفطر خارج البيت، ولذلك أسباب شتى منها ما يصيبني من إرهاق بعد الإفطار وضرورة الراحة، إلا أنني أفاجأ بما لا يمكن رده أو الاعتذار عنه، سواء من جانب هيئات أعتز بالانتماء إليها، أو زملاء أعزاء، أو صداقات حميمة، تلك ظاهرة في حياتنا الاجتماعية، وفرة المآدب وثراء الطعام وضخامته، في الوقت نفسه انتشرت ظاهرة موائد الرحمن في شوارع القاهرة، وأصبح بعضها مشهورا بجودة ما يقدمه من طعام، ومما يثير شجني جلوس البعض لمدة ساعات تحت شمس القاهرة الحارقة انتظارا للإفطار، يجيئون مبكرين لحجز بعض الأماكن، وعند مروري بهذه الموائد، ورؤية الجالسين فقط انتظارا لموعد الإفطار أشعر بضيق وقلق، موائد الرحمن كانت تقام في الماضي داخل المساجد، والبيوت الكبيرة، لم تكن للمظهرة أو للإعلان، أو ستارا لغسيل الأموال وتحسين السمعة.
الفانوس
في بيت السحيمي الذي وصل إلينا من القرن السابع عشر الميلادي غرفة مخصصة لتلاوة القرآن الكريم، تطل عليها مشربيات داخلية تتيح للنساء الاستماع إلى التلاوة ولا تمكن الضيوف من رؤيتهن، هذا تقليد رمضاني قديم في القاهرة والريف، أن يأتي شيخ للتلاوة أو للعظة، في ليالي رمضان وغيرها، من سقف هذه الحجرة يتدلى فانوس رقيق بالرغم من حجمه الكبير، من هذا الفانوس يمكنني استلهام منشأ فانوس رمضان، كانت البيوت تضاء بواسطة فوانيس كهذا، كذلك المساجد، إضافة إلى المشكاوات التي تشكل فنا قائما بذاته، لكن مع حلول رمضان الكريم، ولدواعي السهر انتقل الفانوس من الثبات إلى الحركة، خاصة في زمن لم تكن المدينة مضاءة بعد، لا بالغاز ولا بالكهرباء، أصبح الفانوس في يد الأطفال والمسحراتي وأرباب الحرف، يذكر الأستاذ المرحوم حسن عبد الوهاب في مؤلفه الصغير، الطريف عن رمضان أن ابن ظافر الأديب المصري المتوفى سنة «613 هـ - 1216 م» قال: اجتمعنا ليلة في رمضان فجلسنا بعد انقضاء الصلاة للحديث، وقد أوقد فانوس السحور فاقترح بعض الحاضرين على الأديب ابن الحجاج يوسف علي المعروف بالنعجة أن يضع فيه، وإنما طلب بذلك تعجيزه فأنشد:
ونجم من الفانوس يشرق ضوؤه |
|
ولكنه دون الكواكب لا يسري |
ولم أر نجما قط قبل طلوعه إذا |
|
غاب ينهي الصائمين عن الفطر |
إذن، فانوس رمضان ظاهرة قاهرية قديمة، وربما يعود عصره إلى العهد الفاطمي، وقد حملت الفانوس كثيرًا ونزلت به الحارة، وكان «عادة» و«العادة» تعني شعيرة ما نحافظ من خلالها على الذاكرة، لقد تغير شكل الفانوس في السبعينيات مع زمن الانفتاح الاقتصادي، اختفى التقليدي برشاقته وتناسقه، واختفى الشمع بالطبع، وحل مكانه الفانوس التايواني، المصنوع من البلاستيك والذي يضاء ببطارية صغيرة، عندما حل الزمن الذي أصبحت أشتري الفانوس لابني وابنتي تماما كما كان يفعل الوالد، وحتى لا تنقطع العادة ففي انقطاعها الشؤم كله، غير أنني لم أكن مقتنعا بالفانوس من بلاد بعيدة، غير أنني كنت مضطرا، بدءا من منتصف التسعينيات ظهر الفانوس القاهري مرة أخرى، أعني المصنوع في ورش السباكة الصغيرة، سعدت بهذا كثيرا بالرغم من أن الشكل تبدل، فالألوان أصبحت زاعقة والأحجام صارت أكبر، لا شيء يعود تماما كما كان ولا شيء يبقى على حاله، غير أن رمضان مهما تبدلت معالمه مازال هو نفسه علامة أساسية من علامات الزمن، صحيح أن حلوله الآن يذكرني بسرعة انقضاء المرحلة الخاصة بي في هذه المرحلة الدنيا، خاصة أنني عشت قدومه في الشتاء منذ حوالي ثلاثين عاما، وهاهو يبتعد عائدا إلى الخريف وبعد سنوات سوف يصبح مواكبا للصيف، أحد عشر يوما في كل عام بالقياس إلى السنة الميلادية، غير أنني أشك كثيرا في أن أشهده مواكبًا للشتاء!
بالرغم من كل المتغيرات والعلامات، يظل رمضان شيخا طيب الملامح، أبيض الثياب، لحيته كثة، يجيء مثيرا للبهجة، وإذ يقارب على الرحيل يتأجج الحنين، ويدركنا الأسى في العشرة الأواخر عندما نبدأ في الإصغاء إلى تواشيح الوداع..
ما أوحش الله منك يا شهر الصيام..