في رمضان أيضًا، خلع الغني بالله السلطان المريني أبو عنان، فسار
فارًا إلى فاس، ونزل على السلطان أبي سالم إبراهيم. وفي هذا الشهر أيضًا كان دخول
الفيلة، التي أوتي بها من السودان إلى فاس، وبسببها ظهرت في المغرب «عشبة تابغ»
(التبغ) التي كان يشربها أهل السودان، وغيرها من الوقائع الأخرى التي شهدتها هذه
المدينة التاريخية العريقة في شهر رمضان.
هكذا، إذن، ارتبطت فاس بشهر رمضان، المدينة المنبعثة من عبق التاريخ
وسحر الحضارة، فحافظت، على مر العصور، على طابعها الديني والروحي، وهاهي تحتفي هذه
السنة (2007) باختيارها «عاصمة للثقافة الإسلامية» مناسبة كانت الكويت حاضرة فيها
أيضًا، من خلال مكتبها الإعلامي بالمغرب، مشاركًا مدينة فاس احتفاءها، عبر تنظيم
أيام ثقافية مغربية كويتية بها، كما تحتفل فاس، هذه السنة أيضًا، بمرور 1200 سنة
على تأسيسها.
والحديث عن رمضان في مدينة فاس، كما هي الحال في المدن المغربية
الأخرى، يبقى في الواقع حديث عما قبل حلول شهر رمضان، وتحديدًا في الأيام الأخيرة
من شعبان، حيث يبدأ الاستعداد لاستقبال هذا الشهر الكريم، بطعمه ونكهته الخاصة في
هذه المدينة. فهذا «روجي لوطورنو» يحكي، في الجزء الثاني من كتابه «فاس قبل
الحماية»، عن الأجواء التي تصاحب عادة الاستعداد لرمضان في فاس، في تلك الفترة،
وخصوصًا في الأيام الثلاثة الأخيرة من شهر شعبان، قائلاً: «كانت النساء يصعدن إلى
السطوح ويقذفن بالمفرقعات والصمامات، بينما يفرقع الأطفال المفرقعات في الأزقة، وفي
اليوم الأخير تكون السطوح أكثر اكتظاظًا، ويتسلق الرجال الربى المجاورة ليرقبوا من
جهة الغرب الهلال الدقيق الذي يعلن عن الشهر المعظم. وفي أعلى برج المنجمين، قرب
جامع القرويين، كان رجال الفن مستعدين ليشهدوا ظهور الكوكب، وبأيديهم آلات عتيقة.
وبمجرد وفور أن يروه، يخبرون القاضي الذي يأمر بطلقة مدفعية لاطلاع السكان على
الحدث..».
الاستعداد لرمضان
ومازالت بعض تلك العادات قائمة في فاس إلى اليوم، من حيث الاستعداد
لرمضان قبل حلوله، فالنساء ينهمكن في تنظيف البيوت، وإعداد لوازم رمضان وبعض
حاجياته الغذائية، من حلويات رمضان المشهورة (الشباكية والمخرقة ولبريوات..)،
و«السفوف». والتجار والحرفيون و«الصنايعية» منشغلون بمضاعفة منتوجاتهم في هذا
الشهر، من مواد غذائية، وأوان زجاجية وفخارية وخشبية ونحاسية، وألبسة تقليدية
وغيرها. ثمة، إذن، طقوس روحانية بديعة، وحركة تجارية حثيثة، تسبق عادة شهر رمضان،
وتمتد إلى ما بعد انتهائه.
لم يكن منتصف رمضان، كمنتصف الصوم الكبير عندنا، فرصة لمسرات كبرى أو
لإمساك قصير عن الصوم، لكن الاجتماعات العائلية كانت أكثر عددًا وأكثر مرحًا تلك
الليلة. وفي اليوم السادس والعشرين، كانوا يلزمون الأطفال الذين سيبلغون الحلم في
السنة الموالية بالصيام، وتقام حفلة عائلية من أجل ذلك. لكن أكبر احتفالات الشهر
كانت - دون منازع - هي ليلة السابع والعشرين أو ليلة القدر...».
إذا كانت أجواء رمضان على هذا النحو قبل الحماية، فهي عادات بقيت
مستمرة وإن بأشكال مختلفة، فهذا الكاتب المغربي محمد برادة (صاحب رواية «لعبة
النسيان»، التي يحكي فيها عن محطات خاصة من حياته في فاس)، يستعيد لحظات من طفولته
في رمضان، كما عاشها بفاس في الأربعينيات من القرن الماضي، في نص ممتع بعث به إلينا
خصيصًا لإضاءة هذا الاستطلاع - المقال، من بين ماجاء فيه: «بالنسبة لي، يظل رمضان
مقترنًا بتلوينات الطفولة والمراهقة، وبأيام العفرتة والشقاوة، حينما كنت ومجموعة
من أطفال العائلة والأقارب نغتنم ليالي رمضان لنفرض على الساهرين مشاهدة اسكتشات
تمثيلية، نقتبسها عن حكايات جحا وخرافات الساحر الذي يخرج من القمقم في ألف ليلة
وليلة.
كان رمضان الطفولة في ذاكرتي، معانقًا للتحدي ولتلك العتبة التي كانت
تخايلني، فأراودها متلعثمًا بكلمات لملمتها من قراءة الشعر والقصص، علّها تسعفني
على رحلة الحياة. كانت النفس تتوهج في ليالي رمضان الطفولة، وهي تصخب مع الأقران في
كنف الأقرباء والأم الوارفة الظلال...».
ذكريات رمضانية
أما الكاتب المغربي أحمد المديني (وهو واحد من الكتّاب المغاربة الذين
عاشوا في هذه المدينة لفترات قبل أن يغادرها، فكتب عنها واحدة من أجمل رواياته
بعنوان «فاس... لو عادت إليه»)، فيحكي لنا، جوابًا عن سؤالنا له بهذا الخصوص،
مستعيدًا بعض ذكرياته الرمضانية بمدينة فاس في الستينيات، حيث كانت العائلات
الفاسية تميل إلى إعداد نوع من الحساء الخفيف، كان الفاسيون يتغذون، على حد تعبيره،
بالنفحات، ومن بين أهم ما يتذكره المديني هو «ليلة القدر». ومَن يذكر ليلة القدر في
فاس، يذكر سطوح البيوت في المدينة العتيقة، التي يسمّيها الفاسيون «فاس البالي».
يصعد الأطفال والنساء إلى السطوح، في الوقت الذي يوجد فيه الرجال وبعض الأطفال
بالمساجد لإحياء ليلة القدر، وكل من له أمنية يطلبها من «سيدنا قدر»، الذي ينزل في
تلك الليلة لتلبيتها، ويسبق ذلك صوم الأطفال لأول مرة، فتجدهم يصاحبون آباءهم إلى
المساجد، في جو تنافسي قوي، نفسره اليوم، يقول المديني، بالرغبة في بلوغ مرتبة
الرجولة.
لقد كانت حركة التدين شاملة في تلك الأيام، كان فيها الإسلام عقيدة
وسليقة وليس تمذهبا، كانت تكثر حلقات الصوفية والذكر والأحاديث، أما في العشر
الأواخر من رمضان، فكان الإنسان يتجرّد فيها من جسده، ومن شهوات الدنيا، وتغدو
العبادة فيه كأنها «حج في المكان»، بتعبير المديني. أما في أيامنا هاته، فقد انشغل
الناس بالرياضة ومقاومة الكولسترول ومشاهدة التلفزيون إلى حد الإدمان.
من بين العادات التي مازالت قائمة في فاس إلى اليوم، تلك المرتبطة
بالإقبال الشديد على المساجد، فهي المدينة التي عرفت، منذ تأسيسها، بكونها مدينة
المساجد، إذ بها أزيد من 800 صومعة، ومازالت الصوامع تتناسل اليوم أمام أعيننا، عند
مدخل المدينة من جهة مكناس، هي أيضًا مدينة الزوايا والأولياء والصالحين والأضرحة
والطرق الصوفية والتكايا والمدارس القرآنية والعلمية، ومدينة لكل ما يؤجج هذه الروح
الدينية، وهذا السلوك والورع. ومَن يذكر فاس، في هذا الشهر، يذكر الموسيقى
الأندلسية، بقصائدها المنشودة، في المديح النبوي والغزل ووصف الطبيعة ومجال الأنس
والسمر.
إنفاق وتبذير
ومع مرور الزمن، أصبحت الكثير من العادات والطقوس تتغير في مدينة فاس
في شهر رمضان، كما تتضاعف نسبة الاستهلاك، أمام كثرة الطلبات والإقبال على الأكل
و«الشهيوات»، كما يسمّيها المغاربة، بشكل مفرط، حيث غدت مائدة الإفطار مكتظة
بالأطعمة والحلويات والمعجنات، وبلغ الإنفاق حد التبذير. كما أضحى شهر رمضان موسمًا
للتكسّب والاستثمار، تزدهر فيه الكثير من الأنشطة التجارية، ويزداد أبناؤها، عبر
التهافت الشديد على شراء لوازم تلك الشربة، التي يكثر الإقبال عليها في رمضان،
المسماة «الحريرة»، والمعجنات التقليدية المعروفة في المغرب ككل بالرغايف وبغرير
والحرشة، والبطبوط ورزة القاضي والملاوي...، إلى جانب السفوف والحلوى والخليع وسلو
والزبدة والسمن والعسل والمربى والجبن والفواكه واللحوم الحمراء والبيبضاء والأسماك
والخضر والنشويات والسكريات والنعناع والزيتون والحوامض، وتنشط حركة بيع التمور
واللوز والبيض والحليب والشاي والسكر والفحم، هذا الذي يتم استعماله بكثرة في شهر
رمضان، وخصوصًا لطبخ «الطاجين» باللحم أو بالدجاج...، بالطريقة الفاسية
التقليدية.
وينقسم المجتمع الفاسي إلى فئتين على الأقل، من حيث عادات التغذية في
رمضان، فثمة من الأسر مَن تكثر من المأكولات في وجبة الإفطار، تتخللها «وجبة»
أساسية، عادة ما تكون «ثقيلة» ومغذية، مكونة إما من السمك أو من المشويات...، هذه
الفئة تفضل تأخير وجبة العشاء إلى وقت السحور، وفئة أخرى تفضل وجبة إفطار خفيفة إلى
حد ما، لكنها تقبل على وجبة العشاء مباشرة بعد صلاة العشاء، أما وجبة سحورها فتكون
خفيفة. وكلا الفئتين لا تخلو مائدتهما من شربة خفيفة هي «الحساء»، أو ثقيل، تسمى
«الحريرة».
جل هذه الأنشطة، إذن، يواكبها جو استثنائي بمدينة فاس. فبالرغم من
استحداث أسواق تجارية عصرية كبيرة بالمدينة، أصبحت قبلة للصائمين ولفضولهم، قبل
الإفطار وبعده، فإن أسواقها الشعبية وساحاتها وأزقتها الضيقة والظليلة، مازالت تشهد
حركة بشرية غير عادية، وتحديدًا بعد صلاة العصر، حيث يبدأ الإقبال الشديد على
التبضع، فيكثر العرض ويزداد الطلب، وتعلو أصوات الباعة لتختلط بأصوات الذكر
والتراتيل في المساجد، وبصدى الإذاعات والأشرطة، ونداءات الحماريين في أزقة فاس
الضيقة: «أبلاك... أبلاك...»، بمعنى افسحوا الطريق للدابة، وخصوصًا الحمار، هذا
الحيوان العجيب الذي مازال مرتبطًا بأزقة فاس الضيقة إلى اليوم، كوسيلة أساس لنقل
البضائع. كما تختلط روائح الطين والخشب العتيق بروائح السمن والخليع والجلد
والبهارات وعود القماري والمسك والزهر المعطر والنعناع، وتتداخل الألوان في لوحات
وصور بديعة: ألوان الزخرفة في الخشب وزليج السقايات والنافورات والأضرحة والقصور
والمساجد، وألوان الشموع والحلوى بمولاي إدريس، وألوان الزرابي والسجادات والجلابيب
والطرابيش...وحين تعرج على «قاعة السمن والعسل» بـ«الطالعة الكبيرة»، تأسرك لوحة
بديعة، تقطر حلاوة وملوحة في آن، صنعتها الطبيعة في الأصل، فتحس كأنك وسط «وليمة
متنقلة».ففي هذه القاعة العتيقة «تعشق العين قبل المعدة» أحيانًا، تعرض أمامك
قنينات لأنواع مختلفة من الدهنيات، من زيت وعسل وسمن وخليع وزبدة، وكل ما له علاقة
بوجبتي الفطور والسحور في رمضان.
وإلى جانب أداء الفرائض في هذا الشهر الكريم، تنشط الطرق الصوفية في
فاس، بشعائرها الدينية واحتفالاتها الصوفية، كما يزداد الإقبال على التديّن، وزيارة
الأضرحة والتعلق بها بشكل قوي، وخصوصًا ضريح المولى إدريس الذي يعرف زيارات منقطعة
النظير. فكل شيء في «فاس البالي» في رمضان، يشي بأن المدينة تعيش لحظات مختلفة، إذ
سرعان ما يحصل لدى الزائر نوع من الإشباع بعبق المكان وروائحه وروحانيته. ولا يمكن
وصف لحظة أذان المغرب بفاس، سوى كونها لحظة ساحرة، بما تضفيه حمرة مغيب النهار على
المدينة من سحر وبهاء.
فاس تنهض
وإذا كانت حلقات الحكواتيين في رمضان، التي عرفتها فاس منتعشة في
السابق، وخصوصًا في باب السكمة وباب أبي عجيسة، فإن ظاهرة التجوال اليوم، قد أضحت
السمة المميزة، فهي حركة كثيفة للتبضع قبيل أذان المغرب في المدينة ككل، لكنها
تزداد كثافة بعد الإفطار وصلاة العشاء، للتخلص من السكريات، حيث إن المجتمع المغربي
معروف بإقباله الشديد على السكريات في وجبة الإفطار، والاستمتاع بجو المدينة ليلا،
على غير عادة الساكنة خارج رمضان، وخصوصًا بعد أن استعادت فاس بعضًا من رونقها
وجمالها الذي كان لها أيام زمان، حيث كانت تشتهر بحدائقها وجنانها ومتنزهاتها،
وخصوصًا «جنان السبيل» الشهير، وإن كانت لم تستفد كثيرًا من قرار اعتبارها «تراثًا
عالميًا»، ولا من إطلاق «مشروع إنقاذ المدينة».
ومع ذلك، فثمة نوايا حقيقية للنهوض بفاس، بعد سلسلة الإصلاحات، التي
عرفتها المدينة في الآونة الأخيرة، مما أضفى على شوارعها وساحاتها طابعًا عصريًا
وجماليًا، لم تشهده المدينة من قبل، حيث شكّل إعادة ترميم تجديد «شارع الحسن
الثاني» أهم إنجاز عرفته المدينة، وقد غدا أجمل شارع يخترقها، بل إن البعض يعتبره
اليوم «أجمل شارع في شمال إفريقيا»، اعتبارًا لشكله الهندسي الطولي، وحدائقه
الغناء، الملآنة بالورد والنافورات ذات الأشكال المختلفة والزاهية، مما جعل منه
اليوم متنفسًا عمرانيًا وطبيعيًا خلابًا، يجلب إليه الصائمين بكثافة بعد الإفطار،
حيث تنخفض درجة الحرارة ليلاً، وتهب نسمات من الهواء العليل، فتتحول أضواؤه الممتدة
على جنباته الأرضية إلى لوحة ليلية بديعة، تغري بالمشي والتنزه. لذا فقد أصبح
الحديث اليوم عن رمضان في فاس مقترنًا بالحديث عن هذا الشارع الفسيح، الذي تزيده
أناقة سالكيه وزينتهم بهاء ورونقا، وخصوصًا في ليلة السابع والعشرين، حيث يتم تزيين
الأطفال، في محلات خاصة، فيرتدي الجميع ألبسة تقليدية وعصرية أنيقة، صممت خصيصًا
لهذه الليلة، احتفاء بصومهم الأول، وإن كان لا يتعدى أحيانًا نصف يوم أو بضع ساعات،
وتيمنًا بليلة القدر المباركة، فتراهم يتنافسون على أخذ الصور، وهم يجوبون شوارع
المدينة طولاً وعرضًا، مستمتعين بملابسهم وزينتهم وحريتهم، وبنسمات الهواء، وبألوان
المدينة وأضوائها.
ثاني متنفس لساكنة فاس بعد الإفطار هو «المقاهي»، وهي الفضاءات التي
تشهد إقبال شريحة واسعة من ساكنة المدينة عليها، شأن باقي المدن المغربية والعربية
الأخرى، وخصوصًا بعد تنامي ظاهرة المقاهي العصرية، التي نبتت كالزهر بشوارع المدينة
الجديدة، بمواقعها المغرية ليلاً بالانتشاء بكئوس الشاي والقهوة الجيدة والمثلجات
والمشروبات، أمام تسابق غريب بين روادها لاحتلال المقاعد المنثورة على أرصفة
الشوارع، للاستمتاع بالمنظر الخارجي، وبنسمات جوه المنعش، بعيدًا عن جو الازدحام
والاختناق الذي يعم عادة فضاءاتها الداخلية. وتعرف مقاهي: «تيتانيك» و«أسوان» و«بلو
بابل» و«بيفاردي» و«زنزيبار» و«النهضة» و«فرونسيا» وغيرها، وبعض الأندية والفنادق
الكبرى، إقبالاً لافتًا عليها بعد الإفطار، لفخامتها ورونقها ولجودة قهوتها، في حين
ينزوي بعض مثقفي مدينة فاس، بعد الإفطار في مقهى «نجمة» بعيدًا عن وسط المدينة
وحركة شوارعها الضاجة بالناس.
عالم الليل
ويحدث أن يعود بعض المهنيين إلى دكاكينهم وورشاتهم، بعد صلاة العشاء
والتراويح، لمباشرة حرفهم التقليدية، على نغمات الموسيقى الأندلسية وطرب الملحون،
ونكهة كئوس الشاي الساخنة بالنعناع، المثيرة للنشاط والحيوية، والمحرّضة على العمل
والكلام والتنكيت والنميمة. أما الشباب، فينتظمون، قبيل أذان المغرب، في دوريات
مصغرة لكرة القدم، كما يتكتل آخرون في قاعات ومقاهي الأنترنت، قبلتهم المفضلة، في
الوقت الذي تنشغل فيه النساء والفتيات بإعداد الفطور والعشاء، ويدمن آخرون مشاهدة
القنوات التلفزيونية ومسامراتها الرمضانية، دون أن ننسى، هنا، عادة الإقبال على
القراءة والمطالعة خلال هذا الشهر أيضًا.
ويحدّثنا الباحث والأكاديمي عبدالرحمن طنكول (رئيس بيت الشعر في
المغرب، وعميد كلية الآداب - ظهر المهراز بفاس)، عن فاس في رمضان، فيرى أنها ثلاثة
عوالم: عالم بالنهار بعد الظهر، يسيطر فيه الرجال. تسعفهم النرفزة أو يصطنعونها،
يتهافتون على اقتناء ما لذ وطاب، يتخاصمون ويتصالحون، إنه بامتياز عالم
المتناقضات.
وعالم بالليل، يحظى فيه الأطفال باكتساح الأزقة والشوارع لينصرفوا
للعب والمرح وإطلاق الشهب المضيئة.
وعالم خاص بالنساء، يتبادلن فيه الزيارات، وأنواع وصفات الحلوى،
وأخبار المدينة ومختلف الوشوشات التي تؤثث خيالهن، وتعطي نكهة خاصة لحياتهن. ومن
بين العادات التي حافظ عليها المجتمع الفاسي، ومعه المجتمع المغربي والعربي، ظاهرة
«النفار» أو «الطبال» أو «الغياط» (أي المسحراتي بتعبير المشارقة)، فبالرغم من لا
جدوى هذه العادة اليوم، فقد بقيت حاضرة وممتدة في مجتمعاتنا، بما تحرّكه فينا من
نوستالجيا وذكريات، وبما تولده لنا أيضًا من متعة، وبما تضفيه دقات طبل
«المسحراتي»، أو نغمات «غيطته» أو «نفاره»، على هذا الشهر الكريم من نكهة خاصة،
يضاف إليها صوت طلقات المدفعية، إيذانًا بالإفطار أو بالإمساك.
وقد حافظ المجتمع الفاسي على سخائه في رمضان، شهر البركات والصدقات،
ففي هذا الشهر يتزايد المحسنون في فاس، وتتناثر موائد الرحمن هنا وهناك، فيجد بعض
الفقراء عزاءهم فيها، وفي الجمعيات الخيرية، بما تقدمه من مساعدات مادية وعينية،
وبما تنظمه، قبيل أذان المغرب، من موائد مجانية للإفطار.
وقبيل عيد الفطر، تزداد الحركة ويكثر النشاط التجاري بشكل بديع قل
نظيره، كما ينتشر صنف آخر من التجار الموسميين في أزقة المدينة، في اليوم الأخير من
رمضان، وهم يعرضون للبيع حبوب زكاة الفطر. ويستعد الناس لاستقبال يوم العيد، بما
يستلزمه من زينة ولباس وطعام ومشرب وحلويات، وطقوس أيضًا، ومن أهمها الإقبال الكثيف
على أداء صلاة العيد، في جو من الخشوع والاحتفاء الديني البهي، والإكثار من عادة
التزاور بين الأهل والأصدقاء، حيث يكون لجلساتها في هذا اليوم طعم خاص، تتخللها
حكايات الصيام ومغامراته، ومحاولة التكيّف، من جديد، مع عادة الأكل نهارًا والنوم
باكرًا.