بل القيم مطلقة.. لا نسبية!

 بل القيم مطلقة.. لا نسبية!
        

          اطلعنا، باهتمام بالغ، على المقال الذي كتبه الأستاذ الدكتور أحمد أبو زيد تحت عنوان «قيم جديدة لعصر جديد»، ونشرته مجلة «العربي» العدد (580 - مارس 2007م)، فلفت نظرنا قول د. أبو زيد: «تشكيل القيم «...» يتم خلال عصور طويلة من التطور الاجتماعي والثقافي، وتدخل فيه عناصر كثيرة تاريخية وعرقية ولغوية ودينية بل وبيئية»، وسنفحص صدق هذه المقولة في الفقرات التالية. باختصار، تحت العناوين الثلاثة التالية: أولاً - في مفهوم القيم. ثانيًا: مَن الذي يضع القيم؟ ثالثًا: القيم نسبية أم مطلقة؟ ونختم بالخلاصة والنتائج.

أولاً: في مفهوم القيم

          يقول العالم بالنفس الدكتور فاخر عاقل: «إن القيم هي الأمور التي يعتبرها الفرد جيدة أو ذات أهمية، وهي مظاهر الحياة التي ينسب إليها الإنسان وزنًا معنويًا، هي بهذا المعنى دلالة على الشخصية». (د. عاقل، معجم علم النفس، ص 119).

          ويقول العالم الاجتماعي الدكتور محمد إبراهيم كاظم: «القيمة هي مقياس أو معيار أو مستوى يستهدف في سلوك شخصي، ويسلم الشخص بأنه مرغوب فيه أو مرغوب عنه». (د. كاظم التطور القيمي والتغير الاجتماعي، ص 12).

          كذلك، فقد تم تعريف القيم على لسان كثير من العلماء الآخرين، وخاصة منهم علماء التربية، حيث عرفها فريق منهم بأنها «قوانين من أجل الحياة»، في حين عرفها فريق ثان بأنها «مفاهيم للأشياء المرغوبة وغير المرغوبة»، ورأى فريق ثالث أنها «معايير ومبادئ تستخدم للحكم على الأشياء». بينما رأى فريق رابع أنها «أفكار تدور حول ما عملناه في الماضي، وما نعمله الآن، وما نحاول عمله في المستقبل». (انظر: د. جودت أحمد سعادة، المواد الاجتماعية، وعلاقتها بالعلوم الاجتماعية، ص 164). ويرى المفكر الدكتور زكي نجيب محمود «أن القيم تقوم في الإنسان بالدور الذي يقوم به الربان في السفينة يجريها ويرسيها عن قصد مرسوم، وإلى هدف معلوم». (د. محمود، فلسفة وفن، ص 64).

          ويمكن القول، إذن، إن القيم هي المعايير أو الضوابط التي تجسّد ضمير (أو وجدان) المجتمع أو الأمة، وتوجه سلوك أفراده وجماعاته وأنظمته، وتعبّر عن خصوصيته وهويته وثقافته، وتنبثق عنها معايير مكتوبة (هي القوانين) ومعايير غير مكتوبة (هي العادات والتقاليد). 

ثانيًا: مَن الذي يصنع القيم؟

          انقسم العلماء والمفكرون حول تحديد واضع القيم إلى أربع فرق، أولاها تقول إن واضع القيم هو الإنسان، وثانيتها تقول إن واضع القيم هو المجتمع، وثالثتها تقول إن الأحوال الاقتصادية هي واضعة القيم، ورابعتها تقول إن الله تعالى هو واضع القيم. وفي الفقرات التالية عرض موجز لمقولات تلك الفرق.

          1- حول رد القيم إلى الإنسان: إن السوفسطائيين والفيلسوف نيتشه والتطوريين والفلاسفة الموجودين هم أبرز القائلين إن الإنسان هو واضع القيم. فعند نيتشه (مثلاً) أن «منبع الأخلاق والأحكام التقويمية في الأخلاق ليس أوامر الله ونواهيه كما تقول المسيحية، كما أنه ليس الفعل الإنساني بما ركب فيه من جوهر يأمر بالخير ويميز بينه وبين الشر، وبما في طبيعته من «آمر مطلق» يدعو إلى فعل الواجب دون شرط، ومن غير حاجة إلى استخلاص القوانين الأخلاقية من التجربة، كما يقول الفلاسفة، وعلى رأسهم «كانْت»، وإنما هي الطبيعة الإنسانية بما فيها من غرائز، وعلى رأس هذه الغرائز جميعًا غريزة حب السيطرة وإرادة القوة». (د. عبدالرحمن بدوي، الأخلاق النظرية، ص99). أما الوجوديون فيسقطون جميع القيم التي تفرضها على الإنسان سلطة خارج ذاته، فيوجبها عرف اجتماعي أو معتقد ديني أو سلطة سياسية أو غير ذلك. فالفرد عند الوجوديين لا يخضع لحتمية اجتماعية أو لموضوعية عملية. إنه رب القيم وصانعها بمحض إرادته، التي لا ترتد إلى معطيات سابقة. (د. توفيق الطويل، قضايا من رحاب الفلسفة والعلم، ص64).

          ومن أوجه النقد الموجهة إلى نيتشه وسائر التطوريين، أنهم «معنيون بتأريخ القيم لمعرفة نشأتها وتتبع تطورها، لكن فلسفة الأخلاق تهتم بالغاية التي تقوم في نهاية التطور، وتعنى بتحديد القيم العليا التي ينبغي أن يسير بمقتضاها السلوك الأخلاقي. فالتطوريون يضعون العربة أمام الحصان فيما يقوله المثل الإنجليزي: وقد انتهى التطور عند نيتشه إلى الارتداد بالإنسان إلى شريعة الغابة، فقضى على أنبل النزعات الإنسانية من تضحية وغيرة ومشاركة وجدانية، ونحو ذلك من مبادئ أخلاقية، وفات نيتشه أن القيم التي هاجمها من دعة وحلم وتواضع وصبر، تتطلب من قوة النفس، وضبط النوازع الطبيعية، أكثر مما تتطلبه القيم التي مجّدها السوبرمان». ومما قيل في نقد الفلسفة الوجودية: «الإنسان فرد في مجتمع، وعليه أن يدخل في حسابه قيم المجتمع الذي ينتمي إليه دون أن يفقد بهذا حريته أو يذيب فرديته في زحام هذا المجتمع، وأن رد التقييم إلى الإنسان مشروط بتجريد الإنسان من أنانيته ما أمكن، وبذلك، لا تصدر القيم عن فوضى التحليل والافتقار إلى إنسانية أهداف الحياة وغاياتها، إذ الأصل في القيم العليا أنها تسمو بالإنسان فوق شريعة الغابة، وتدنيه بقدر ما تسمح الطاقة البشرية من صفات الذات الإلهية». (د. الطويل، المرجع السابق، ص 65 و 66).

          2- حول رد القيم إلى المجتمع: أيد هذا الاتجاه أصحاب الفلسفة الوضعية وعلماء الاجتماع ممن ضخموا شخصية المجتمع على حساب أفراده، ومن أبرزهم إميل دوركهايم، «الذي يرى أن الأمور الأخلاقية لها قيمة لا تقاس بسائر القيم الإنسانية، وآية ذلك أننا نضحي بنفوسنا من أجلها، مما يدل على أنها لا نظير لها. ولكي تكون الأمور الأخلاقية منقطعة النظير هكذا، فلابد أن تكون العواطف التي تعيّن قيمها لها الطابع نفسه، أي يجب أن تكون هي الأخرى منقطعة النظير بين سائر الرغبات الإنسانية، ولابد أن تكون لها مكانة وطاقة تجعلانها ذات مكانة خاصة بين حركات حاستنا. والعواطف الجماعية هي التي يتوافر فيها هذا الشرط، فلأنها الصدى في نفوسنا لصوت الجماعة العظيم، فإنها تخاطب ضمائرنا بلهجة مختلفة تمامًا عن لهجة العواطف الفردية المحض، إنها تخاطبنا بصوت عال، وبسبب أصلها، فإن لها سلطانًا وقوة خاصين». (د. بدوي، المرجع السابق، ص97).

          و«في الاتجاه إلى رد القيم إلى المجتمع مواضع ضعف لا تخفى. فمن ذلك قولهم إن الأخلاقية تقوم في طاعة الفرد لمواصفات المجتمع وتقاليده، حتى أضحى الفرد مسلوب الحرية، فاقد الإرادة والفاعلية. إن استقراء التاريخ ليشهد بأن مواصفات المجتمع كثيرًا ما تكون هزيلة بالية. وعندئذ تكون الأخلاقية في هذا الوضع إقرارًا لفساد المجتمع وتوكيدًا لقيمه المريضة، مع أن الأخلاقية الأصيلة تستلزم في هذه الحال ، الثورة على العرف الاجتماعي الهزيل (...)، وقد ترتب على نظرة الوضعيين للقيم الخلقية نتائج مروعة، وكان أظهرها الفصل القاطع بين الفرد والمجتمع الذي ينتمي إليه، ورد القيم إلى هذا المجتمع وحده، وجعلها ملزمة قاهرة للأفراد، فتفقد الإنسان في هذا التصور حريته وكرامته». (د. الطويل، المرجع السابق، ص 50 و 51).

          3 - حول رد القيم إلى الأحوال الاقتصادية: يدين بهذا الرأي اتباع الماركسية الذين شاركوا الوضعيين والاجتماعيين في الاستخفاف بإرادة الأفراد، ولكنهم خالفوهم، فقالوا برد القيم إلى الأحوال الاقتصادية دون غيرها من مقومات الحياة الاجتماعية. «فالماركسية عند شراحها مذهب علمي ينزع إلى الكشف عن قوانين سير المجتمع بحكم تطوره في ضوء البحث العلمي المجرد من العواطف والأهواء، وبالمادية التاريخية، التي دانت بها جاهرت بأن الذي يوجه العالم، ويتحكم في تطوره ليس الفكر، وإنما هو الأحوال الاقتصادية، التي تسود المجتمع في أي مرحلة من مراحل حياته، فتكيف تفكير أهله، وتحدد أساليب تطورهم وسائر حياتهم. وفي ضوء هذا، كان تفسيرهم للقيم، إذ رفض شراح الماركسية رد القيم إلى الفعل الإنساني، وأنكروا إرجاعها إلى العناصر الروحية، واعتقدوا بأن التفكير النظري المجرد لا تأثير له على مجرى التاريخ، فمباشرة النظر العقلي لا يسوغها إلا اتصال التأمل بالعمل الذي يغير الأحوال الاقتصادية تغييرًا ينتهي بالقضاء على الفوارق الطبقية (...) والمجتمع يتألف دائمًا من طبقات، لكل منها - في كل مرحلة من حياتها - وضع اقتصادي متطور، ولهذا كانت لها قيمها المتغيرة بتغير أوضاعها الاقتصادية، وصراع الطبقات سالف الذكر، ينتهي حتمًا بتغلب طبقة على أخرى، وينشأ عن هذا نفور من القيم التي كانت تدين بها الطبقة المندحرة، وتطلع إلى قيم جديدة تساير مصالح الطبقة الصاعدة. ومن هنا، كان تحوّل النظرة إلى الخير والشر، فما كان شرًا عند الطبقة المندحرة قد يصبح خيرًا عند الطبقة الصاعدة، والعكس صحيح، وما من شك في أن اندحار قيم وانتصار قيم أخرى، يخضع لقوانين التطور الحتمي للمجتمع». (د. الطويل، المرجع السابق، ص55).

          ومما قيل في نقد القول برد القيم إلى الأحوال الاقتصادية: «لا ينكر أحد أثر الأحوال الاقتصادية في سير التاريخ، ولكن تقوم إلى جانبها عوامل أكثر أهمية وأعظم تأثيرًا، وكلها تتمثل في «الإنسان، صانع التاريخ، بما نجم عن عقله من علم وفلسفة وفن وأدب... إلخ، وهو بفاعليته قادر على أن يغير حتى الأحوال الاقتصادية نفسها، على نحو ما يقول أصحاب التفسير الروحي للتاريخ». (د. الطويل، المرجع السابق، ص 56).

          4- حول رد القيم إلى الله تعالى: يعتبر اللاهوتيون المسيحيون المتأخرون (مثل: دنزسكوت، ل.ب جيرسون، ووليام أوكام)، والفيلسوف رينيه ديكارت (أبو الفلسفة العقلية في مطلع العصر الحديث)، أبرز ممثلي هذا الاتجاه، فالله وحده (عند اللاهوتيين المعنيين)، هو وحده الذي يحدد مفهوم الخير، ويميز بينه وبين الشر، وفي كتابه المقدس إيضاح مبين لذلك، ولو أمر الله بفعل شر لكان خيرًا، ولو نهى عن فعل خير لكان شرًا، حتى ذهب بعضهم إلى القول إن «العقل الإنساني الخالص لا يمكنه التمييز بين الخير والشر، ولو لم يشأ الله أن يكشف عن قصده، لكان من الممكن أن يقتل الولد أباه دون أن يكون مذنبًا». 

ثالثًا: القيم.. نسبية أم مطلقة؟

          إن رد القيم إلى الإنسان (الفرد) أو إلى المجتمع، أو إلى الأحوال الاقتصادية، أو إلى عناصر تاريخية وعرقية ولغوية ودينية وبيئية (حسب د. أحمد أبو زيد)، أو إلى أي جهة أخرى غير الله تعالى، يفضي، بالضرورة، إلى القول إن القيم نسبية (تتغير حسب الزمان والمكان وعوامل أخرى). وليست مطلقة (تصلح لكل زمان ومكان). كما هو الحال لدى القائلين برد القيم إلى الله تعالى».

          والحق أن القيم مطلقة وليست نسبية... فإن «الدفع بالقيم الأخلاقية جميعًا إلى دوامة التغير والنسبية لن يلبث أن يصيب الحقيقة الخلقية في الصميم، وبالتالي فإنه لن يلبث أن يؤدي إلى بلبلة الرأي العام الأخلاقي. هذا إلى أننا لو سلمنا بأن الأخلاق «علم»، وإذا اعترفنا في الوقت نفسه بأن من شأن كل علم أن ينطوي على مجموعة من الحقائق العامة، التي تتسم بطابع الصدق. فلابد لنا من التسليم بأن علم الأخلاق ينطوي على مجموعة من الأحكام الأخلاقية التي لا تصدق بالنسبة إلى فرد واحد بعينه، بل تصدق بالنسبة إلى الأفراد جميعًا في كل زمان ومكان». (د. زكريا إبراهيم، المشكلة الخلقية، ص 60). 

عبدالوهاب محمود المصري
دمشق / سورية