سميرة عزام المناضلة ورائدة القصة النسوية

سميرة عزام المناضلة ورائدة القصة النسوية
        

          كان موت الأديبة القاصة والإعلامية الفلسطينية سميرة عزام 1927 - 1967 نهاية تراجيدية، فقد امتدت كلماتها إلى المجلات والدوريات العربية، وتبلور دورها في العمل الفلسطيني، ثم تحطّمت طموحاتها وأطلق قلبها إشارات التعب فلم تبال به وظلت خطواتها مديدة وراء ما يتلامح من خطوط ترسم حُلم العودة إلى الأرض السليبة.

          توقف نبض سميرة عزام في 8 - 8 - 1967 وهي على مشارف عمّان متجهة إلى ملاقاة أنفاس الأرض التي أحبّت، أرض الزيتون والبرتقال.  وقد اكتسبت سميرة عزام من مدينتها (عكا) صلابة وعزيمة، فأمام أسوارها عرف نابليون بونابرت وجيوشه خيبة الهزيمة، ولم يستطع اقتحامها، وعرفت استقلالا في وجه الهيمنة العثمانية لأمد، وكان النسب الغساني العربي يمدها بعنفوان ورؤية لوحدة تجمّع طاقات الأمة، ولم تر فلسطين قضية مفردة وإنما هي بعض من كيان عربي متكامل، وكان تعليمها عنصرا بلور أحاسيسها وروحها، وأعطاها القدرة على التعبير والإسهام في مسار الأحداث وتطوراتها قبل 1948 وبعدها.

          بدأت دراستها في عكا ثم أكملت المرحلة الثانوية في حيفا، وما لبثت أن مارست التدريس والإدارة وهي دون العشرين، ونشرت خواطرها في صحيفة «فلسطين» الصادرة في يافا تحت اسم «فتاة الساحل»، ويظهر لنا تكوين أدبي وروحي عميق، فاللغة متماسكة جميلة والقيم الإنسانية تطالعنا مع التعلّق بالأرض ولا تخفى آثار كتابات جبران ومي زيادة فيها، وعندما دهمت مؤامرة الانتداب البريطاني والصهاينة سنة 1948 أسهمت مع الأهالي في تقديم ملابس للمتطوعين الذين هبّوا لنجدة فلسطين وكتبت معها بيتًا شعريًا يقول:

سيروا على وضح النهار فالحقّ من نور ونار


          حملها الرحيل بعد ذلك إلى الشتات والتنقل بين بيروت والحلة وبغداد وقبرص والكويت، عملت معلمة بمدينة الحلة العراقية لمدة سنتين عادت بعدهما لتغدو مذيعة ومعدّة لبرامج المرأة في إذاعة الشرق الأدنى بقبرص 1952، وكانت تبث برامجها من قبل من حيفا بفلسطين واتخذت بيروت مقرّا لها 1954 حتى أقفلت إثر حرب 1956، وعندها سافرت سميرة للعمل بإذاعة بغداد شهورًا من سنة 1957، ورجعت إلى بيروت فتزوجت أديب يوسف الشاب الفلسطيني من الناصرة 1959 وعاودا السفر لتشتغل في إذاعة بغداد الجمهورية مذيعة ومعدّة برامج المرأة إضافة إلى مقالات نشرتها في صحيفة «الشعب»، وفي خضم الفوضى واختلاط الأوراق والرؤى أيام عبد الكريم قاسم وصل قرار بترحيلها خارج العراق في 24 ساعة جاءت وساطة سفير السودان فكان أن أضيفت مهلة 12 ساعة للمغادرة!!!

          تابعت سميرة حياتها في بيروت، فقد تعاقدت مع مؤسسة فرانكلين للنشر فترجمت عددًا من الأعمال الأدبية والفنية والعلمية وكتبت في المجلات والصحف (صوت المرأة) و(دنيا المرأة) و(الآداب) وقدّمت بحثا إلى مؤتمر الأدباء العرب الخامس 1965 ببغداد حول «دور الأدب في قضية فلسطين», وقد ربطتها حوارات وأواصر وطيدة بالعديد من الأدباء والنقاّد العرب منهم: نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وجبرا إبراهيم جبرا وسهيل إدريس وعايدة مطرجي إدريس وألفة إدلبي وغسّان كنفاني ورجاء النقّاش وعبد الكريم الكرمي وإميلي نصر الله.

          لقد واجهت الشتات الجغرافي بين المدن والأمكنة بالتواصل مع الروح العربية ورغم الصدمات والأزمات المتعاقبة كانت ترى الضوء في آخر النفق، ولعل دأبها على القراءة والتحصيل وتقديم الإبداع القصصي يضعها في مصاف أمثولة للمرأة العربية المعاصرة وهي تتحدى كلّ عصف الأعاصير وتجوّد عطاء يحفر مساره الأدبي وتعمل مع أكبر مؤسسة للترجمة وهي خريجة الثانوية في فلسطين.

          ولعل الأعين تلمع عندما تقرأ أنها إضافة إلى جهودها في العمل الإعلامي والتعليمي، وفي الترجمة ونتاجها القصصي الذي نشرت منه أربع مجموعات من القصص القصيرة بين 1954 و1963، كانت في طليعة العاملين في القضية الفلسطينية ولها موقع قيادي أرادت من خلاله أن تتغيّر المعادلة من جموع اللاجئين إلى أصحاب وطن وقضيّة.

          كتبت سميرة قصصا قصيرة وجمعت منها أربعة كتب هي: الأشياء الصغيرة 1954 و«الظلّ الكبير» 1956 و«قصص أخرى». 1960 و«الساعة والإنسان». 1963 التي نالت عنها جائزة أصدقاء الكتاب وكانت أنجزت رواية بعنوان: «سيناء بلا حدود» لكنها مزّقتها في حالة غضب بعد يونيو 1967، وقد جمع أصدقاؤها خواطر لها وقصصا في كتاب بعد وفاتها: «العيد من النافذة الغربية»، ثم عثر على أعمال أولى لها فنشرت خواطر ومحاولات قصصية نضج بعض منها تحت عنوان أصداء 1997، وهنالك إضافة إلى الكتب العشرة المترجمة عدد كبير من القصص المنشورة أو المذاعة وكذلك الأحاديث في إذاعات بغداد والشرق الأدنى ولندن تحتاج إلى جمع وتصنيف. 

رائدة القصة النسوية

          لم تكن عبارة الأديبة الشامية ألفة إدلبي: «إن سميرة رائدة من رائدات القصة في أدبنا النسوي»، ولا عبارة الناقد رجاء النقّاش: «هي أفضل كاتبات القصة القصيرة في أدبنا المعاصر» حالة انفعالية بعد رحيل صديقة قريبة، ولم تكن الريادة زمنية تسبق نتاج من جاء بعدها، وإنما يعود التميّز إلى رؤية ووعي امتلكتهما سميرة عزام وقد طبعا كل ّما دوّنته وما أذاعته على الناس من قصصها، ولعلنا نوجزهما في فكرة هي: «الوحدة والتكامل لتجاوز التجزئة وصولا إلى جسم فاعل لا تتبعثر طاقاته».

          إن أول مايلفت الانتباه هو عدد القصص التي تناولت فيها الكاتبة فلسطين فقد اشتملت المجموعات الأربع وما نشر في ما بعد على ما يزيد على سبعين قصة قصيرة لانجد بينها إلا ما يقارب العشر استمدّ من البيئة الفلسطينية قبل 1948 وبعدها.

          وهنا ندرك أن سميرة أرادت أن يحس الجميع بهذا التقارب والتماثل بين شخصيات القصص وهي تتجاور ويتلاقى فيها كثير من الجوانب الاجتماعية والانسانية في حيفا والناصرة ويافا والقدس وبيروت ودمشق وبغداد. إضافة إلى إحساس آخر لدى المتلقي هو الاستعداد لمتابعة رسالة كاتبة تهتم به كما تهتم بمن هم الأقرب إليها مكانا وأحداثا، فلا يشعر من بداية الكتاب إلى نهايته أنه في عالم مختلف، يقف منه موقف المشاهد لا المتفاعل بالتوازي والتداخل.

          وإذا تأملنا القصص المباشرة والتفصيلية والمتضمنة حديث الحرب والسياسة فسنجدها أقل: الطريق إلى برك سليمان- خبز الفداء - بالمزاد العلني - لأنه يحبهم - زغاريد - عام آخر - فلسطيني, وأما: ثورة الأجراس والساعة والإنسان ونائلة فظاهرها آفاق عامة لولا ذكر المدينة أو صفة الشخصيات الفلسطينية، ونحن ندرك فيها عمق الرؤية الثورية والبعد الإنساني فخطابها عربي وعالمي يدخل القلوب والعقول.

          انصرف معظم قصص سميرة إلى البيئات الشعبية العربية وهي تضمّ من هم على حافة الكفاف أو من اتسعت لهم أبواب حياة متوسطة  (صبي الكواء - نافخ الدواليب - الغريمة -  سأتعشى الليلة - أسباب جديدة - بائع الصحف - نصيب - الساعة والإنسان) ولقد رأت الكاتبة أن خطابها حول هؤلاء وإليهم أساس الحركة التاريخية القادمة، فهم الخزّان البشري وأصحاب المصالح المشتركة التي تقتضي تقاربهم واستفادتهم من التجارب المتماثلة كذلك، وهي لم تغفل الآخرين سواء في دائرة المال أو في دائرة الثقافة وإن تكن قد اشارت إلى إشكالات نتجت عن هذا المال (أما بعد - ستائر وردية - الظل الكبير).

          الزاوية الأخرى في التناول الاجتماعي تتصل بما يسمّى الأدب النسوي خاصة في أيامنا هذه! فقد رأينا سميرة لا تنحاز إلى المرأة وتفرغ لحكاياها وأحداثها فقط، بل أرادت النهوض واكتمال الفاعلية في حركة متشابكة يتعاون فيها الرجل والمرأة وتستقيم علاقات الآباء والأبناء، لذلك تابعت حالات إيجابية وأخرى سلبية، واقتربت من عالم الرجل لفهمه وبلوغ عتبات لا تبقي الغموض أو الالتباس في مشروع الحياة وعلاقاتها, وكما أظهرت أنانية بعض الرجال ومحاولتهم التفرّد بالسيادة والمزايا (القارة البكر - ستائر حريرية) وقفت عند أحاسيس مرهفة لأب أمام ابنه المريض (لا ليس لشكّور) لا تفوقها عاطفة الأم رغم الوشائج الخاصة للحضانة والتلازم المألوف بين الأم وأولادها الصغار.

          إننا مع مرور السنوات في دنيا العرب ندرك البصر النافذ في هذه الرؤية لدى سميرة، وفي جولة سريعة نلحظ حرصها على إظهار اجتماع الأسرة وتفاعلها وحوارها وتعاونها (الساعة والإنسان - أسباب جيدة - الحب والمكان) مع الإلماح إلى المبالغة في بعض الرؤى (فاتها القطار)، ونشير هنا إلى أن الكاتبة لم تبعد عن القضايا العامة في السلوك الحضاري والتطور (طائر الرخ في شهربان) وضرورة التعايش مع العلم وأدواته متآزرة مع انفتاح فكري ديموقراطي، وهي في كلّ ذلك تؤكد ثوريتها بمعنى إدراك طريقة بناء أمة قادرة على نيل حقوقها والحفاظ عليها.

          ويبقى جانب بعيد الدلالة, لأن سميرة عزام وهي المسيحية قدّمت عددا من القصص من البيئات المسيحية في فلسطين أو في أقطار عربية، ونسجت هذه الأعمال الفنية بخيوط رؤيتها ووعيها، فهي تعرض أمامنا النفوس في حالات إنسانية مشتركة نرى فيها الشابّة تتأمل طريق المستقبل مع شريك حياتها بين المفهومات التقليدية وتطلعات الجيل المتعلم، ونتابع لهفة أمّ وهي تصطدم بحواجز المحتلين الصهاينة تمنع لقاءها بابنتها أو تلك التي لا تمنح إذن المرور لتحتفل بزواج ابنها البعيد (نصيب - عام آخر - زغاريد) وعندما نلمح جرس الكنيسة تنداح معه دلالات رمزية متعددة (ثورة الأجراس- مجنون الجرس).  

تقنيات السرد القصصي

          أما عناية الكاتبة بتقنيات السرد القصصي فكانت توازي اهتمامها بتنامي الدوائر الدلالية الاجتماعية والنضالية الظاهرة والضمنية، وظل التجريب الأسلوبي هاجسا تتسلسل القصص وتتلوّن حتى تكون في الموقع الأكثر تأثيرا ووصولا إلى المتلقي المعاصر, وجاء نشر تجاربها الأولى ليبرهن على التطور والدأب لديها، ففي الأربعينيات من القرن العشرين بدأت بخواطر غنائية وبعض القصص الممتزجة بها إلى أن استقامت لها سنة 1950 ثلاث هي البداية الحقيقية: «لها الله - ثورة الأجراس - بالمزاد العلني»، وكانت كتبت لقطات سريعة من المجتمع وتأرجح بعض شخوصه بين المعايير الأخلاقية ارتفاعا وهبوطا وتناوبا بين الظاهر والباطن تحت عنوان «ألوان من الناس» ونجد في مجموعتها الأخيرة: الساعة والإنسان قصة «لأنه يحبّهم» وتتضمّن ثلاث لوحات لشخصيات سلبية تأثرت بالركود والحصار في حياة المخيمات والظروف القاسية للفلسطينيين، وهكذا نلحظ التوظيف الدقيق والنافذ لهذه التقنية في إطار البنية الكلية للقصة، فكانت ومضات أضاءت تفكير بطل القصة ومهّدت لما سيأتي من أحداث.

          ويستوقفنا السارد في قصص سميرة، فمع أنه تنوّع بين السارد الخارجي الذي يشاهد عن بعد ويحكي لنا مجريات الأحداث وذاك القريب، فإننا نلحظ في المجموعة الأخيرة - 1963، غلبة السارد الداخلي وهو واحد من الشخصيات الفاعلة أو المتأثرة بعلاقات القصة، وكأنما الكاتبة أرادت التأكيد على نقل القضايا والمواقف إلى المتلقي وإقناعه بحيوية ما يقرأ وكأنما تتحايل على موضوعية القصّ وحياديته (الساعة والإنسان - أسباب جديدة - طائر الرخّ في شهربان -هل كان رمزي - الحب والمكان -التركة - سجادتنا الصغيرة - حبات السبحة).

          وقد تنوعت أساليب السرد في القصص سواء في قوالبها أو في حركتها الداخلية، فكانت تختار في عدد من القصص نقطة أقرب إلى النهاية فيتداخل الحدث المتطور صعودا بخطّ الماضي (الظل الكبير - سأتعشى الليلة -الغريمة) إضافة إلى طريقة السرد المتسلسل (كوافير)، ونشير إلى ثلاث تجارب لافتة أولاها «لأنه يحبهم» ففيها انتقال من الراوي الخارجي إلى راو داخلي تتقمصه الشخصيّة الرئيسية في القصة ثم تقوم بحدث خطير يرويه لنا ويتابعه الراوي الخارجي، إضافة إلى أسلوب رسم اللوحات الداخلية، والتجربة الثانية هي متابعة حوار داخلي لبطلة تستعرض الأحداث في حياتها وذلك في المساحة المحصورة بين بوابة الكنيسة والممر الواصل إلى الكهنة حيث سيعقد قرانها وهي تتردد بين القبول والرفض وتستعرض مواقفها وما كان من آراء خطيبها والتصوّرات المتعارضة بينهما التي تنتهي بكلمة (نصيب) تدخل بها غمار مواضعات المجتمع وتيار الحياة وكانت عنوانا للقصة، وأما التجربة الثالثة فقد آثرت أن تكون حوارية بين الرجل والمرأة، وجاء هذا الاختيار من طبيعة الحالة التي قامت على التحدّي وصراع بين غرور الرجل وتمسّكه بامتيازات نفسية وسلوكية وإرادة امرأة معاصرة عرفت كيف تلوي ذراعه وترهق مسلّماته، ونقرأ منها:

          هو: كأن الأمر لا يعنيك.

          هي: بل يعنينا كلينا.. أنا وأنت، أنا أريدك أن تعترف بي كلا لايتجزّأ، لا مخلوقة يبدأ تاريخها منذ باركتها بنظرتك، هذا حقّي وما اختلقت قصة أختبر بها عمق حبّك.

          هو: أما كنت تخشين أن تفقديني؟

          هي: أفقدك؟ إنك ظريف. أنا أعلم أية دوافع جرّت الواحد منا للآخر.. فلم النفاق؟ ألا تؤمن أن الصراحة أقدر في ظرفنا - أو في ظرفي على الأقل - على بناء حياة لم تستملك من المقومات إلاّ المظهرية؟

          هو: إنك قاسية.

 

وجوه المرأة

          لم يكن يشغل سميرة عزام تقديم قصص الحبّ الصاخبة أو حكايا اللواتي يملأن الحفلات وتلمع ألوان أرديتهن البراقة مع ابتسامات ووعود تتكسّر على الممرات القريبة أو تذوي في ساعات أيام قليلة.

          لقد تابعت سميرة ألوان الطيف ورسمت المرأة في أطوار كثيرة ونفذت إلى أعماقها، وأشارت إلى نجاحها وإلى عثراتها وهي تنظر إلى جديلة من الضوء يمتد معها المستقبل الذي يبنى.. إننا نرى في قصة «الغريمة» حبّ الحياة والرغبة في الاحتفاظ بالزوج والبيت وهما كلّ ما تراه أو تستطيع أن تحلم به وذلك بالحرص على العمل وإنتاج!! العيش، فمن هذين المركبين النفسيين لدى «وهيبة» الغسّالة يتولد الإصرار على إيجاد فرصة بعد أن سلبتها الآلة الكهربائية الجديدة ما كانت تنعم به إذ تمرّ بالبيوت وتنجز الغسيل بيديها وبهمّة لا تبارى، إنها أمام التحدي التقطت كيف تعمل غريمتها - الآلة وطرقت أبواب ثمانية فنادق في المدينة حتى أحرزت موقعا لها.   وفي قصة «الأشياء الصغيرة» يتكشّف العالم الهشّ لأحلام مراهقة وهواجسها وانفعالاتها السريعة، وتبدو المفارقات بين الواقع وأوهام تحيط بالفتاة، ونلمح كذلك جانبا يتبدّى في قصص سميرة وهو السخرية التي تمررها سريعة أو تكون حادّة مع تصويرها للمرأة وهي تحسّ بضعفها وتحاول الخلاص بأساليب طريفة (عندما تمرض الزوجات).

          وفي قصة «نصيب» نتابع أطياف الرومانسية المثالية لفتاة تقبل على الزواج وتريد من العلاقة الجديدة أن تكتمل فيها المودّة والمشاركة والفهم والتحليق فوق كلّ ما تراه، أما الزوج فهو يمشي على الأرض ويرى المال حلا لكل العقبات ومانح مفاتيح السعادة، وقريبا من هذا تظهر تصورات متناقضة تقود إلى مغامرة ترى فيها الفتاة المتعلمة تقاطع الخطوط بين السموّ والأفكار والعلاقة المادية بين رجل وامرأة، وعندما تنجو من السقوط يخالجها إحساس مركّب تحاول من خلاله معايشة الدنيا وأيامها الآتية (الظل الكبير).

          ونرى الحلم الساذج والمغنم الذي يفرش السعادة لأمّ وابنة لها تزوجت رجلا كبير السنّ.. إنه أثاث البيت الذي حصلتا عليه بعد نذر قطعه على نفسه إبان مرضه، والآن إن هذه المرأة الصغيرة تضمن زواجًا سريعًا إذا ما غيّب الموت الزوج العجوز (ستائر ورديّة). وثمة قصة تختبر إحساس الأم بابنها الذي ضاع ثمّ جيء بفتى قيل إنه الولد الضائع، إنها تتردد ويغمرها الشكّ وتتعكر صفحة اللقاء، وعندما يهرب هذا الذي ملأ المكان تعود إلى الطرقات بأسئلتها وندائها بحثا عنه!! (هل كان رمزي).

قراءة رمزية جديدة

          إن قدرًا وافرًا من قصص سميرة عزام يجد موقعه لدى المتلقي اليوم، ذلك أن سبرها لأعماق الإنسان وإدراكها القريب لخفايا العلاقات في المجتمع يجعل كتابتها مادة حيّة تتماهى مع كثير مما نعايشه أو ترهص به علامات نراها.

          لكنّ الجانب المدهش هو احتمالات القراءة الرمزيّة الجديدة لعدد من تلك القصص سواء كانت الكاتبة قصدت إليها أو لم ترسم هذه الإشارة.. إن إمساكها بخيوط اللعب الأساسية وتبصّرها يترك في كلماتها وبنية الأحداث ما يحتمل التفسير المتعدد والترميز.

          إننا نسمع في قصتي «ثورة الأجراس» و«مجنون الجرس» صوتًا مستمرًا يذكّر بالقضية الفلسطينية ويدعو إلى تأمّل حقائقها، فبطل القصة الأولى فلسطيني يحنّ إلى أرضه وضيعته حيث كان يمارس قرع جرس الكنيسة ثم افتقد هذا العمل والصوت والدلالة على وجوده الحقيقي فوق  تراب الوطن فكلّ يكمل الآخر، وبطل القصة الثانية رجل عجوز أيقن الكل أنه لم يعد قادرا على قرع الجرس لكنّه يفاجئ الجميع بصخب الأصوات تعلن عن وجوده كأنما هو التراث أو الحكمة لايتركان أو تقضي عليهما العزلة.

          وكان موقف الرجل الكهل الذي أخذ على عاتقه إيقاظ الشباب الذين يسافرون كلّ صباح مؤثّرا، فهو حريص على ألاّ يضيعوا نتيجة السرعة والتأخّر تحت عجلات القطار كما حدث لابنه، فهل نرى في هذه الشخصية قارعًا آخر ينبه إلى الزمن الضائع والفرص المهدورة والمحطمة لسوء التدبير؟! خاصّة أن الأحداث تجري في فلسطين قرب حيفا!

          وقد تكون من أظهر القصص في رمزها «طائر الرخّ في شهربان» حيث يكذّب الناس - نتيجة الجهل والتجهيل من المشعوذ - كلّ ما يحمله الرجل العائد من رحلة بعيدة دفع فيها ثمنا غاليا من حياته، ولايكتفون بذلك بل نرى الرجل يموت بين أيديهم عندما أرادوا إخراج الشيطان من داخله وسرعان ما تفاجئهم الطائرات والقطار.. مما أخبرهم به.. ولعل إنجاز سميرة هنا واضح بحضور معاصر وأسطورة جديدة لزرقاء اليمامة.

          إن إنتاج هذه الرائدة سواء المنشورفي كتب أو ذاك الموزّع في المجلات والصحف والمسجّل في الإذاعات ينتظر الجمع والتصنيف ليأخذ موقعه لدى المتلقي العربي ضمن كلاسيكيات لابدّ من توافرها في مواجهة زحام الصور الطائرة الذي ملأ الآفاق.. أو سدّها أمامنا!.

 

فايز الداية   





الأديبة الفلسطينية سميرة عزام