نيقولا برديائيف الفيلسوف "أسير الحرية" فؤاد كامل

"أسير الحرية" هو اللقب الذي أطلق على الفيلسوف نيقولا برديائيف.. فلقد كانت مؤلفاته دفاعا حارا عن حرية الإنسان في كل المسائل التي تتعلق بالإيمان وكان يؤكد دائما أن كل الأديان تؤدي إلى حرية الروح.

ولد نيقولا "ألكسندروفيتش برديائيف" العارف الروسي الأكبر كما يسميه أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بدوي بمدينة كييف عام 1874، من أسرة تنتمي إلى طبقة النبلاء. ودرس بجامعة كييف في كلية الحقوق ولكنه لم يتخرج في هذه الكلية، إذ شارك في حركات الطلاب الاشتراكية الديمقراطية فنفي إلى سيبيريا عام 1898. وعندما أطلق سراحه ارتحل إلى ألمانيا سنة 1903 للدراسة بجامعة هيدلبرج. وفي سنة 1917 قامت الثورة البلشفية الكبرى في روسيا، فالتزم خلالها موقفا حرا في المعركة التي دارت بين فريق الثوار وفريق الروس البيض. وعين رغم هذا الموقف الحر أستاذا للفيلولوجيا والتاريخ بجامعة موسكو.

من الوطن إلى المنفى

وفي عام 1922 ألقت الحكومة السوفييتية القبض على أكثر من مائة أستاذ وكاتب بتهمة اختلافهم عن الأيديولوجية السائدة، ونفتهم من روسيا، وكان من بينهم برديائيف الذي استقر في برلين في بداية الأمر، ثم انتقل إلى باريس فيما بعد حيث أقام في ضاحية من ضواحيها تدعى "كلامار"، وفي منزله بتلك الضاحية كان يلتقي بمفكري عصره من الفرنسيين المقيمين ومن الأجانب الوافدين إلى باريس. وظل منذ عام 1926 حتى نهاية عاما 1939 رئيسا لتحرير مجلة دينية فلسفية هي مجلة "السبيل" Put (باللغة الروسية)، وتوفي فجأة بينما كان مكبا على مكتبه في 24 مارس سنة 1948.

حياة من ثلاث مراحل

وقد ترك برديائيف عددا كبيرا من المؤلفات ترجم معظمها إلى أكثر من أربع عشرة لغة، منها اللغة العربية، ومن أهم مؤلفاته: "الذاتية والمثالية في الفلسفة الاجتماعية":

دراسة نقدية ل "ن.ك. ميخايلوفسكي" (1900)، "من وجهة نظر الأبدية" (1907)، "الوعي الديني الجديد والمجتمع" (1907)، "فلسفة الحرية" (1911)، "معنى الإبداع" (1916)، "تصور دوستويفسكي للعالم" (1923)، "معنى التاريخ" (1923)، "عصور وسطى جديدة" (1924)، "مصير الإنسان" (1931)، "الذات وعالم الأشياء" (1934)، "الروح والواقع" (1937) "عبودية الإنسان وحريته" (1939)، "أصل الشيوعية الروسية" (1946)، "مقال في الميتافيزيقا الأخروية" (1947)، "ترجمة ذاتية" (وترجمت إلى الإنجليزية تحت عنوان الحلم والواقع) (1949).

* * *

وتكاد حياة برديائيف تنقسم بين مولده في مارس 1874 ووفاته في هذا الشهر نفسه من عام 1948 إلى ثلاث مراحل متساوية الطول تقريبا. تبدأ المرحلة الأولى من مولده حتى نفيه من جامعة كييف أثناء طلبه للعلم إلى سيبيريا لمدة سنوات ثلاث عام 1898. ثم نفيه بعد ذلك إلى الأبد ابتداء من سنة 1922 لاختلافه الصريح مع "الماركسية التطبيقية" التي اعتنقها البلاشفة، أو الحكم السوفييتي الجديد في روسيا. وتنتهي هذه المرحلة الأخيرة بوفاته في باريس عام 1948، ومن الممكن تسمية المرحلة الأولى التي استغرقت 24 عاما ب "مرحلة كييف"، والمرحلة الثانية التي استغرقت مدة مساوية للأولى بمرحلة "الأعوام الروسية"، والمرحلة الأخيرة ب "مرحلة النفي في الخارج" التي اتسمت بحنين جارف إلى "الوطن الأم".

من الوجودية إلى الشخصانية

ويستطيع المرء أن يبدأ في الحديث عن فلسفة برديائيف من أي نقطة يشاء، ذلك أن البداية من أي مشكلة في هذه الفلسفة تسلمك إلى جملتها وتفصيلاتها في آن واحد، كما تسلمك إلى قلبها الحميم، وصميم لبها كذلك، لا لأنها فلسفة استدلالية تقودك المقدمات فيها إلى النتائج، بل لأنها كل عضوي واحد متماسك، أشبه باللوحة الفنية لا بالمذهب العقلي المجرد.

وفلسفة برديائيف تنتمي إلى أكثر من نزعة فلسفية معاصرة، فمن الممكن أن تنتسب إلى "الوجودية" وإلى "الشخصانية"، وإلى "الحيوية" وإلى "الإشراقية" (الغنوصية) الصوفية، وهذه النزعات جميعا يدمغها طابعه الديني المسيحي، وأسلوبه المتدفق الغائر المشبوب الذي يعبر عن تجربة حية حميمة استغرقت ما يقرب من ثلاثة أرباع قرن من الزمان. ولهذا فإن هذه التجربة الإنسانية الطويلة لا تخلو من ألوان من التناقض وعدم الاتساق.

تعبيرات عن الصراع الروحي

ويتحدث هو نفسه عن هذه المتناقضات والمفارقات في فلسفته فيقول. "إن ضروب التناقض وعدم الاتساق التي توجد في فكري ما هي إلا تعبيرات عن الصراع الروحي، عن المتناقضات التي تكمن في قلب الوجود نفسه، ولا سبيل إلى إخفائها وراء واجهة من الوحدة المنطقية. وتكامل الفكر الذي يرتبط بتكامل الشخصية ما هو إلا وحدة وجودية، لا منطقية... ويرتكب الفيلسوف الخيانة عندما يبدل الموضوعات الأساسية في تفكيره الفلسفي، أعني الدوافع الأساسية التي تحرك فكره، أو أساس ميزان القيم عنده. وقد يقوم المرء بتغيير رأيه عن المكان الذي تتحقق فيه حرية الروح وكيفية هذا التحقق. ولكن إذا استبدل بحب الحرية حب العبودية والعنف، كانت الخيانة هي النتيجة".

السعي إلى المعرفة والحرية

والمحور الأساسي الذي تدور حوله فلسفة برديائيف هو الجانب الإلهي في بشرية الإنسان، وكل ما يقوله يأتي أو ينبع من هذه الفكرة المحورية. وليست هذه الفكرة تصورا مجردا. ولكنها جز لا يتجزأ من التجربة الروحية، وهي تقتضي الصراع مع الخارج. والمجاهدة في الباطن. وعن هذه الفكرة الأساسية يقول برديائيف في كتابه: "العبودية والحرية":

"لم أكن أسعى بوصفي فيلسوفا إلى مجرد اكتساب المعرفة بالعالم فحسب، ففي حالتي كانت الرغبة في معرفة العالم مصحوبة دائما بالرغبة في تغييره... ولم أكن قط فيلسوفا من الطراز الأكاديمي، ولم يخطر على بالي أبدا أن تكون الفلسفة مجردة بعيدة عن الحياة. ومع أنني قرأت دائما مقدارا هائلا من الكتب، إلا أنها لم تكن أبدا مصدر تفكيري. والحق أنه لم يكن بإمكاني مطلقا أن أفهم كتابا من أي نوع إلا إذا أدخلته في صلة مع التجربة التي كنت أعيشها أنا نفسي. وأكثر من ذلك أنني أعتقد أن الفلسفة الأصيلة كانت صراعا دائما. ولقد كانت فلسفات أفلاطون وأفلوطين وديكارت وإسبينوزا وكانت وفخته وهيجل.. كانت كلها من هذا النوع".

الارتباط برؤى دوستويفسكي

ومن الممكن أن نضيف إلى هؤلاء أسماء أخرى ذكرها في مواضع كثيرة هي على وجه الخصوص أسماء مفكرين تأثر بهم تأثرا كبيرا: بيمه وشوبنهور ونيتشه وماركس وتولستوي وكيركجور. ورغم ما بين هؤلاء من تباين شديد، إلا أنهم قد أسهموا جميعا في تشكيل فكره، وإن لم يكونوا بالضرورة أساسيين في تكوين فلسفته. الشخص الوحيد الذي لا يمكن أن تفهم فلسفة برديائيف بدونه هو الروائي الروسي العظيم "فيودور دوستويفسكي".

وقد كان برديائيف، وظل دائما - رغم ثورته على الكنيسة الروسية واتهامه لها في عهد القيصرية بأنها أصبحت أداة في يد السلطة المدنية - ظل مخلصا للكنيسة الأرثوذكسية، وكان الأمل يحدوه دائما في أن يسترد الشعب الروسي روحه "السياوية" وأن يؤدي رسالته في توجيه الجنس البشري إلى "الروحانية" والتخلص من أغلال المركزية الاجتماعية والسياسية. ولم يكن برديائيف يسلم بعقائد كنيسته بوصفها موافقة للعقل أو باعتبارها صيغا دجماطيقية (قطعية)، وإنما كان يخضعها لاختبار التجربة الشخصية ويجد لها تأويلات صوفية.

إنقاذ الضمير الديني من الاغتراب

وعلى حين كانت الكنيسة الشرقية في أوربا ممثلة للتصوف الفلسفي الذي يسعى دائما إلى باطنية الإيمان وعينيته، كانت الكنيسة الغربية تسعى دائما إلى إحالة الإيمان إلى شيء خارجي مجرد، أو إلى "موضعته" Objectivization إن صح هذا التعبير. وكانت رسالة برديائيف هي إنقاذ الضمير الديني المسيحي من هذا الاغتراب، اغتراب الروح عن "الروح"، بتأسيس الإيمان على صخرة التجربة الشخصية لا على رمال اللاهوت المجرد المسرف في النزعة المنطقية، والذي استعار مصطلحاته الميتافيزيقية من مقولات أرسطو الفكرية، وأقحمها على أفكار "الجوهر" Substance الإلهي و "الطبيعة" البشرية.

الإنسان كائن روحي

وأهم ما في فلسفة برديائيف الصوفية أنه لا يرى الإنسان مخلوقا من طبيعة غريبة في طبيعتها عن طبيعة "الخالق". فالإنسان هو أيضا كائن روحي، إنه ابن الإله الأبدي الخالد، ومن ثم فإنه ينتمي إلى نظام لا زماني. وكما أن أصغر قطرة من مياه المحيط، أيا كانت درجة تلوثها، تحتوي في ذاتها على كل خصائص المحيط مثلما يرث الابن "كل" ما يملك أبوه. فكذلك تحتوي روح الإنسان في داخلها على كل صفات ما هو إلهي وإمكاناته. وهي أيضا تجل للإلهي المتجسد في ما هو إنساني.

الإنسان روح في المقام الأول. والروح - التي هي المبدأ الدينامي في الإنسان - إلهية، إنها حقيقة الإنسان وأبديته. وكل ما هو نفسي في الإنسان ما هو إلا تجل لهذا المبدأ الإلهي مرتديا ذلك الظاهر البشري.

ولا يعترف التصوف الفلسفي عند برديائيف، بأي سلطة خارجية للإيمان، فهو لا يعرف إلا روح الحرية وحرية الروح. وفي مجاهدة الإنسان لتحقيق هذه الحرية في حياته الروحية يعاني من القلق anguish وهذا القلق سمة مشتركة عند الوجوديين جميعا تصاحب تحقيق الذات ولا يشبه أية آلام جسدية أو أحزان عاطفية أو توترات ذهنية، إنه قلق وجودي ناشئ عن معاناة الإنسان لتجربة الوجود والعدم وسعيه لاكتساب الحب والحرية، ذلك لأنهما حلقة الوصل بين الإنساني والإلهي. ونحن ننمو ونتطور على مثال من نحب، وننمو ونرتقي فيمن نحب. ونحن نمتص النور الإلهي ونعكسه، وليست هناك أولوية في مبادرة الاتصال بين الله والبشر، وإنما تتم المبادرة بالتبادل وفي اللحظة ذاتها.

الروح ومعنى الحياة

و "الروح" عند برديائيف هي معنى الحياة، فإذا غابت فقدت الحياة البشرية كل قيمتها، وبالروح تكون عودة الإنسانية إلى ينبوعها الأصيل، إلى أعماق الوجود الأولي، وهنالك بشر برديائيف ببزوغ عالم جديد يرفرف عليه لواء وثبة مسيحية كبرى، وتشرق "عصور وسطى جديدة"، فتعود إلى الدين قوته الأولية، ويستحيل المجتمع إلى "مشاركة عضوية حافلة" هي ما يسميه برديائيف بالسوبر نوست sobornost ، أو "الإجماعية القائمة على الحب والتغيير الديني للمخلوق" ولهذا كان رأي برديائيف في الثورة الروسية الاشتراكية، أنها، وإن ردت إلى الإنسان كرامته في جعلها الإنسان سيد عمله وتحريمها استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، فإنها - مع ذلك - تعتبر قاصرة لأنها تعوزها فكرة الشخصية الإنسانية، ورأت في الإنسان كائنا تحدده العوامل الاجتماعية والاقتصادية وحدها، فقضت على الفرد لحساب المجتمع وها هي تنهار في نهاية الأمر في أيامنا هذه بعد نصف قرن من نبوءة برديائيف، فبزوال هذه الثنائية بين الإنسان الفرد والجماعة، زال المعنى الحقيقي للإنسان، وهو الشخصية الإنسانية وما فيها من جانب إلهي روحي.

وعلى هذا فإن برديائيف يسمي فلسفته وجودية أو شخصانية Personalistic ، ولكنه يعتقد أن الشخصانية الحقيقية لا توجد لدى "هيدجر" أو "يسبرز" بل توجد لدى القديس أغسطين، الذي وضع تصور "الذات" أو "الشخص" في مكان الصدارة.