عبدالعزيز التويجري.. من البداوة إلى الحضارة الحديثة

عبدالعزيز التويجري.. من البداوة إلى الحضارة الحديثة
        

توفي الشيخ عبدالعزيز التويجري في أوائل شهر يونيو الماضي، عن خمسة وتسعين عامًا، قضى معظمها في العمل الجاد المتواصل في خدمة القضايا العربية، لم يقتصر نشاطه على المشاركة في العمل العام في بلاده السعودية، ثم في سائر أرجاء الوطن العربي فحسب، بل امتد نشاطه الخصب إلى الميدان الأدبي والفكري.

          كان الشيخ التويجري أديبًا ومفكرًا وصاحب رؤية أصيلة، وقد وضع خبراته وآراءه وعصارة فكره وتجاربه في عدد من الكتب المهمة، التي أصدرها منذ أواخر الثمانينيات حتى أواخر التسعينيات، وربما بعد ذلك، وكانت كتابات التويجري، التي كان يمليها ولا يكتبها بنفسه نموذجًا فريدًا من الإنتاج الثقافي والأدبي، ففي الوقت الذي كان يهتم فيه بأن يكون أسلوبه أقرب ما يكون للأساليب العربية القديمة، كانت آراؤه تعيش في قلب العصر الحديث، بل تتخطاه للتفكير الجريء الشجاع في المستقبل، وهكذا استطاع التويجري أن يرسم ملامح واضحة وقوية وحادة لشخصيته المؤثرة والمثيرة للاهتمام، ويمكن أن نلخص شخصية الشيخ التويجري، فنقول إنه ابن البادية الذي اندفع للخوض بشجاعة في مشاكل العصر الحديث، دون أن يتنكّر لشيء من أصوله وجذوره.

          عرفت الشيخ عبدالعزيز التويجري أول ماعرفته اسمًا على ورق، وكان هذا الورق هو كتاب «في أثر المتنبي»، وهو كتاب وجدته ذات مساء مع باعة الصحف بالإسكندرية في زيارة كنت أقوم بها إلى المدينة، التي أحبها أكثر من أي مدينة في العالم، وخاصة في أيام الشتاء، حيث يكون الهواء نقيًا ونظيفًا، والمدينة مليئة بالهدوء والسكينة، وقد أقبلت على شراء كتاب «في أثر المتنبي» ليس من أجل مؤلفه عبدالعزيز التويجري الذي لم أكن أعرف عنه شيئًا حتى ذلك الحين، ولكن من أجل المتنبي، فأنا واحد من عشّاقه الكثيرين، وعندي شعور قديم يصاحبني على الدوام بأنه شاعر مظلوم، وبأنه صاحب قضية لم يتعاطف معها الناس حق التعاطف حتى اليوم.

          ومنذ الصفحات الأولى لكتاب التويجري، عرفت أن الكاتب سعودي مما زادني حماسًا للكتاب، فقد كنت أحس أن المتنبي لم يلق اهتمامًا أدبيًا وفكريًا كافيًا في السعودية، وأن السعوديين أكثر حماسًا للشعر الجاهلي والشعر في العصر الإسلامي والعصر الأموي، أما المتنبي ومثله أبو العلاء، فلم تكن لهما حظوة في الدراسات الأدبية السعودية في حدود ما اطلعت عليه من هذه الدراسات، وقد وجد المتنبي فرصته الحقيقية في الأدب العربي الحديث مع الباحثين المصريين والباحثين العراقيين، أما أبوالعلاء، فقد وجد فرصته في مصر والشام.

          من هنا كانت فرحتي الأولى بكتاب التويجري عن المتنبي، فهو أول كتاب يقع في يدي من الأدب السعودي المعاصر عن هذا الشاعر العظيم. لقد فرحت للشاعر الفاتح الذي استطاع أخيرًا أن يدخل أرض الجزيرة العربية التي لاأعرف أنه كان له فيها مقام مادي أو أدبي من قبل.

          انتهيت من قراءة كتاب التويجري عن المتنبي في أيام قليلة، ولم أكد أغلق الصفحة الأخيرة من الكتاب، حتى أدركت أنني دخلت الكتاب مع المتنبي وحده، وخرجت منه في صحبة اثنين هما: المتنبي والتويجري، فلم يكن كتاب التويجري عن المتنبي دراسة أدبية تقليدية، ولكنه كان حوارًا ومواجهة، وجلسة مباحثات فكرية وروحية طويلة بين اثنين يفتشان عن الحقيقة بعد أن نفضا أيديهما من المواقف الجزئية ومعارك الحياة الصغيرة. 

مزيج الفكر والعمل

          وبقى التويجري في نفسي بعد قراءة كتابه عن المتنبي روحًا شفّافة، وعقلاً خصبًا، وموهبة أدبية عالية، وتصوّرت أنه رجل عاكف على القراءة والبحث والتأمل، وأنه بعيد تمامًا عن مشاغل الحياة العامة، لكنني عرفت بعد ذلك بوقت طويل أنه يشغل منصبًا رفيعًا في السعودية، وأنه من الرجال الذين لا يفصلون بين الفكر والعمل، ولا يحبون أن يكون الفكر بالنسبة لهم مهنة، أو احترافًا يقومان بفصله عمّا يجري في الدنيا من وقائع وأحداث.

          ثم أتيح لي أن أتعرّف على الشيخ عبدالعزيز التويجري في مهرجان «الجنادرية» عام 1986، واستمعت إليه وتحاورت معه واقتربت منه، فازداد إعجابي به وحبي له. ووجدت فيه إنسانًا ومفكرًا من طراز خاص يلفت النظر، ويثير الكثير من التفكير. فهو ثمرة خالصة ونقية للتربية في الهواء الطلق، وليس ثمرة للبحث والدراسة في الغرف المغلقة، التي يدخلها الضوء على استحياء، وتفصلها عن ضجيج العالم وأحداثه المختلفة جدران سميكة. وقد انعكست تربية الهواء الطلق هذه على كل شيء فيه، حتى على تركيبه الجسماني، فهو طويل رشيق ممدود القامة كالسيف، لم تتسلل إلى جسمه أبدًا مظاهر الخمول والاسترخاء والبقاء الطويل داخل أسوار العالم المصنوع من أدوات الرفاهية في العصر الحديث، كالسيارات وأجهزة التكييف، وغير ذلك مما يخلق في آخر الأمر عزلة كثيفة بين الإنسان ومجتمعه، ويفرض عليه كثيرًا من الصفات المصطنعة في سلوكه وتفكيره وشخصيته. 

عناصر رئيسية

          وقد توقفت في شخصية التويجري، أمام ثلاثة عناصر رئيسية، كان أولها هو أنه أخذ ثقافته بالجهد الذاتي والكدح العقلي الخاص. فلم يدخل جامعة، ولم يحصل على دكتوراه، لا من العالم العربي ولا من خارجه، فهو في هذا المجال يشبه العقاد في كفاحه الخارق من أجل تثقيف نفسه، والارتفاع بعقله وعلمه إلى مستوى أعلى من مستوى كل الشهادات المعروفة في كل جامعات الدنيا، وهو نمط من التثقيف الذاتي كان معروفًا على نطاق واسع في الثقافة العربية القديمة، فقد كان الجهد الذاتي دائمًا هو الأساس في تكوين العقل، واكتساب المعلومات، وذلك قبل أن تظهر كل نظم التعليم المعروفة في العالم الحديث، وإن كانت كل التجارب قد أثبتت أن التعليم المنتظم في المدارس والجامعات لا يكفي لخلق أصحاب الثقافة العالية الرفيعة، فهذه الثقافة لا تتوافر إلا عند أصحاب الإرادات القوية، التي تحب المعرفة، وتتطلع إليها، وتبذل أعظم الجهد في سبيلها.

          والعنصر الثاني في شخصية التويجري، هو أنه يأخذ قضايا الفكر والثقافة بما يمكن أن نسمّيه بشعور «التقوى»، فهو لا يقترب من أي قضية من قضايا الفكر والثقافة، إلا ولديه شعور وجداني عميق، فيه لون من الإخلاص والتصوّف، وهذا العنصر بالتحديد هو ما أعطى لكتابة التويجري طابعًا شعريًا غنائيًا، بل أكاد أقول إنه طابع موسيقي بالغ العذوبة والجمال، فالإخلاص والتقوى يفجّران في النفس على الدوام ينابيع الشعر والموسيقى، بما يترك أثرًا حيًا على كلمات الكاتب وأفكاره، ويؤدي إلى أن تكون الكتابة، حتى لو كانت في الأصل بحثًا ودراسة، نوعًا من الفن الذي يمس الوجدان قبل أن يمس العقل والتفكير.

          والعنصر الثالث في شخصية التويجري، أنه رجل صريح كالصحراء، لا غموض فيه ولا التواء، وقد حافظ التويجري على هذا الجانب في شخصيته، بل أكاد أقول إنه حرص على تنميته وتعميقه، بدلاً من الضغط عليه وكتمه ومحاولة استبعاده ونزعه من جذوره، فالتويجري بدوي واضح، حازم، يصل إلى أهدافه الفكرية والنفسية بالسير في الطرقات المستقيمة، حتى لو كانت هذه الطرقات طويلة ومضنية، وقد ساعده «الطبع البدوي» الذي حرص عليه في سلوكه وكتابته على أن يكون شديد الصراحة، فلا يخفي شيئًا، لأنه ليس بدويًا فقط، بل معتز بهذا الطبع البدوي مدرك لما فيه من قيمة وأصالة، وقد نتج عن هذه الصراحة العالية في كتابته، خاصة تلك التي يحدّثنا فيها عن نفسه وحياته، أنه تخلص نهائيًا من ازدواج الشخصية، فهو شخص واحد، لا يظهر بمظهر، ويخفي وراء الستار مظهرًا آخر، وانعدام الازدواج في الشخصية الفكرية والإنسانية، هو من أكبر عوامل القوة والأصالة، لأن الازدواج يؤدي إلى الكذب والغموض والتلفيق، وكلها أشياء مجافية لانطلاق العقل وحرية الضمير، وصدق النفس، وسلامة التعبير، فالتويجري لا يخشى أبدًا أن يحدث الناس، وخاصة في كتابه «حاطب ليل ضاجر»، عن ماضيه، وما حفل به هذا الماضي من تعب وعذاب وألوان كثيرة من الضنى، فما أكثر ما لبس ثيابًا ممزقة، وما أكثر ما سار حافيًا على رمال الصحراء، وما أكثر لحظات الجوع والعطش التي تعرّض لها، وما أكثر الأيام التي مرت به وهو لا يعرف القراءة والكتابة، مما دفعه بالإرادة القوية والفضول النبيل من أجل الفهم والمعرفة، إلى أن يلتقط التعليم من أستاذ في جامع، أو زميل له هنا أو هناك، مادامت الدراسة المنتطمة قد فاتته بحكم ظروفه الأولى الصعبة، وهكذا لم يرسم لنا التويجري أبدًا لنفسه صورة بطل من الأبطال، ولا صورة مارد جبّار، بل رسم صورة إنسانية صادقة، عرضها علينا بكل ما فيها من أمانة التقوى، التي تعاف في كل الأحوال أن تكذب أو تخدع أو تغري بألوان زاهية، ولكنها غير حقيقية، بل كثيرًا ما نشعر بأن التويجري يحتضن أيام الضنى والعذاب في حياته الأولى بحنان كبير، ونشوة روحية كاملة. فقد كانت هذه الأيام هي مدرسته التي علّمته الرجولة، وأعطته صحة الجسم، وسلامة العقل، ودقة الحكم على الأشياء، ومعرفة جوهر الأمور وراء كل المظاهر الخارجية. 

جذور بدوية

          ولاشك في أن احتفاظ التويجري بجذور الطبع البدوي فيه، قد أعطاه بعد أن تغير موقعه في الحياة، نوعًا كريمًا من الثقة بالنفس، فالذين يكتسبون صفاتهم الفكرية والشخصية بالتقليد لا بالأصالة، لا يمكن أن يملكوا أبدًا ثقة بأنفسهم، لأنهم يعرفون أن شخصياتهم، إنما هي في حقيقتها تقليد لأصل آخر لا علاقة لهم به، ويمكننا أن نستطرد قليلاً في تحليل الشعور بالأصالة، وما يترتب عليه من ثقة بالنفس، لنرى أن هذا الشعور هو دائمًا مصدر الإحساس عند الأمم الحية بالاستقلال، ورفض أي استعمار فكري أو مادي للأرض أو للإنسان، أما الذين يفقدون الشعور بالأصالة، أو يخجلون من جذورهم الحقيقية، فهم غير قادرين على الاستقلال، ولابد أن يظلوا متعلقين بقوى أكبر منهم، فإن تخلت عنهم هذه القوى، ونفضت يدها منهم، لم يستطيعوا هم أن يتحرّروا أبدًا، بل إنهم يظلون مثل العبيد الذين تمكنت منهم طبيعة التابع، فإذا حصلوا على الحرية يومًا شعروا بالضياع والكارثة، وسعوا بكل الوسائل إلى التعلق بالقوة الأكبر، التي تمنحهم المعنى الوحيد لحياتهم، حيث لا معنى للحرية، ولا قيمة لها عند هؤلاء الذين تأصلت فيهم عبوديتهم للآخرين.

          وأذكر هنا أن سعد زغلول زعيم مصر وقائد ثورتها الشهيرة سنة 1919 كان يتصرف دائمًا في باريس ولندن بروح الفلاح العربي المصري، فكان يعتز بأنه فلاح، ويستمد ثقته بنفسه من صفته كفلاح، وخاصة عندما يلاحظ عليه البعض أن لهجته في الحديث أقرب إلى لهجة الفلاحين منها إلى لهجة أهل المدن مما جعله في العمل السياسي والوطني والفكري ندًا خطيرًا لكل مَن كانوا يفاوضونه أو يتعاملون معه من الإنجليز أو الفرنسيين، وذلك على عكس زعماء وسياسيين آخرين مثل عدلي يكن وصدقي وزيور وعبدالخالق ثروت، فقد كان هؤلاء يتصرفون مع الأجانب، وكأنهم أجانب في ثقافتهم وسلوكهم ونظرتهم للأمور، وكانت النتيجة أن استهان بهم الشعب، واستهان بهم الأجانب أنفسهم، وعجزوا هم عن التأثير الحقيقي في مجرى الأحداث والتاريخ، وبقيت الكلمة العليا في الوطنية لسعد زغلول، وقد كان سعد يقول عن هؤلاء السياسيين المصريين عندما يتفاوضون مع الإنجليز: إن جورج الخامس يفاوض جورج الخامس!

          لا شيء يعطي الإنسان قوته الحقيقية ويمنحه الثقة العميقة بنفسه، إلا أن يتمسك بأصالته، ليتخلص من أن يكون ضعيفًا عاجزًا في التفكير المستقل ومواجهة الآخرين، والرد على أي نوع من التحدي يمكن أن يتعرض له الإنسان. 

ثقافة اليقين

          تبقى النقطة الأساسية التي أريد أن أتحدث عنها في شخصية التويجري، وهي أنه مفكر يدرك تمامًا أنه ابن من أبناء ثقافة تقوم  في الجانب الأكبر منها على «اليقين»، ولا تقوم على «الشك»، وهذا ما يملأ القارئ لكتاباته بفيض من السلام والراحة النفسية والبعد عن التمزقات الوحشية في العقل والنفس والشعور، لقد قامت حضارة الغرب الحديثة على الشك في كل شيء، وكان فلاسفة الغرب يفسرون هذا الشك بأنه طريق وحيد لاكتشاف العالم، وتحقيق التقدم المادي فيه، ومواجهة الأخطار المحيطة بالإنسان، وقد تحقق للغرب بالفعل، ولحضارته القائمة على «الشك» كثير من التقدم المادي الكبير المذهل، ولكن الثابت باعتراف الغربيين أنفسهم أن هذا التقدم لم يحقق للإنسان سعادته واستقراره الروحي، بل لقد انتشرت مع التقدم المادي الكبير حالة من التمزق الروحي تعبّر عنها سائر ألوان الفنون والآداب الغربية المعاصرة، من روايات ومسرحيات وأفلام وقصائد شعرية، ويكفي أن نشير إلى أحد أشهر قصائد الشعر الأوربي المعاصر، وهي قصيدة «الأرض الخراب»، للشاعر الإنجليزي الأمريكي الأصل «ت.س.أليوت»، وهي قصيدة مليئة بالتشاؤم، وتقوم في جوهرها على الإحساس بأن الحضارة الحديثة لم تقدم للإنسان سعادة، ولا سلامًا، ولم تخلصه من أحزان نفسه وتمزقات روحه وخوفه الدائم مما تخفيه الأيام.

          وكثير من الأعمال الفنية الأخرى، التي ظهرت في عصر التقدم الأوربي، تصوّر هذا التمزق الروحي الذي يعانيه الإنسان في الغرب، بالرغم من كل ما حققه من تقدم مادي عظيم، وهذا معناه أن الحضارة التي قامت على «الشك»، والتي دفعها هذا الشك إلى الجرأة في اقتحام مجالات الحياة المختلفة، وتحقيق إنجازات مادية بالغة الأهمية والقيمة. هذه الحضارة القائمة على الشك، لم تستطع تحقيق سلام نفسي للإنسان، ولم تستطع أن تخلص روحه من التمزّق، ولم تستطع أن تبقي على شيء من الدفء داخل العلاقات الإنسانية في الغرب، أما علاقة الغرب بالشعوب الأخرى، التي لم تحقق تطورًا ماديًا مماثلاً، فهي علاقة تقوم على النفور والصراع والتوتر والإحساس لدى الجميع، وخاصة في العالم الثالث، بأن الغرب ما هو إلا مصاص دماء، وسارق خيرات، وعدو لسعادة غيره من البشر.

          فحضارة الشك إذن لم تثمر أهدافًا روحية رفيعة، حتى بالنسبة إلى أصحابها. وقد أصبح هذا الوضع فرصة فكرية وروحية عميقة للمفكرين الذين ينتسبون إلى حضارات وثقافات أخرى تقوم على «اليقين»، ولا تقوم على الشك، ومن بين هذه الحضارات، بل وفي مقدمتها الحضارة العربية الإسلامية. ولست أشك في أن عبدالعزيز التويجري قد أدرك هذا الأمر بفطرته النبيلة الخصبة، وأنه انطلق في كتاباته كلها من هذه البداية... بداية اليقين، وأنه فعل ذلك عن فهم ووعي وقصد واختيار، فكتاباته كلها قائمة على الإيمان بأن الحياة لها معنى، وأن الخير أقوى من الشر، وأن الكون لم يقم على الصدفة العابثة، وأن الإنسان له رسالة في الأرض. ولم يظهر الإنسان في هذه الدنيا على يد الخالق الأعظم سدى، وبلا مبرر أو غاية، وهذا اليقين الذي أقام عليه التويجري أفكاره في كتبه كلها، يجعل من كتاباته قوة حية دافعة من قوى النهضة في الوطن العربي، لأن هذه الكتابات تحمل الكثير من الإيمان بقدرة الإنسان على الإنجاز، وتحمل الكثير من التفاؤل بأهداف البشر والغايات، التي يسعون إلى تحقيقها، كما أنها تحمل دعوة قوية صادقة إلى التماسك الروحي في مواجهة المشاكل والمصاعب، ولا تقول أبدًا «بأن الكل باطل وقبض الريح». 

الإنسان هو الهدف

          وقد يتصور البعض عندما نتحدث عن ثقافة اليقين، أن ذلك يعني «الرضا بالواقع» كما هو، حتى لو كان واقعًا مليئًا بالأخطاء، ومحاطًا بالمخاطر، بل وقد يعني هذا اليقين عند البعض رفضًا لكل التقدم العصري المبني على الجرأة العقلية، والعلم، والتجربة المادية المستمرة، القائمة على الرغبة غير المحدودة في الاكتشاف والمعرفة. ومثل هذا التفسير الخاطئ لثقافة اليقين في كتابات التويجري، ليس له علاقة بحقيقة هذه الكتابات.

          إن اليقين عند التويجري، يعني التركيز على أن الإنسان هو الهدف لكل تقدم مادي، وأن أي تقدم مادي لن تكون له قيمة حقيقية إذا ما فقد الإنسان - مع هذا التقدم - سعادته وسلامه النفسي، كما أن «اليقين» يدعونا إلى عدم «الجزع» مما أصابنا من تخلف أمام الحضارة الحديثة، فالجزع لا يجدي ولا يحل شيئًا، بل إنه يؤدي إلى نتيجة واحدة، وهي عدم القدرة على ملاحقة التقدم المادي من ناحية، وفقدان الثقة بالنفس من ناحية أخرى، وهذا كله لا يعطينا أي فرصة لمواجهة العصر إلا في صورة إنسان مرتعش لايعرف أين الخطأ وأين الصواب، ولا يعرف شيئًا عن نفسه أو عن العالم المحيط به. إن كثيرين من المفكرين العرب المعاصرين الذين دعوا إلى النهضة وملاحقة العصر، قد بدأوا من نقطة انطلاق خاطئة، وهي التشكيك المر في كل ما يتصل بالشخصية العربية من قيم وتراث ومبادئ إنسانية، ودور ملحوظ في تطوير الحضارة، ومثل هذا التشكيك لم يكن له من نتائج إلا ارتعاش اليد العربية وهي تمارس أي شيء في حياتها، من بناء المصانع إلى كتابة الأدب والفن، إلى التعامل مع الآخرين، وإقامة سائر مؤسسات الحياة الحديثة.

          إن اهتزاز الثقة بالنفس وفقدان العلاقة مع الجذور الأصيلة، وانعدام وجود أرضية صلبة للحركة، كل ذلك يؤدي إلى كثرة التغيير والتبديل، وإعادة النظر، وعدم القدرة على المواصلة والاستمرار، وهذه الصفات لاتقيم بناء ولا تؤسس حضارة. التويجري يبدأ وينطلق من «اليقين» الذي يؤكد أن الشخصية العربية قادرة على الإنجاز، وليس في طبيعتها ما يعوقها عن النهوض والتقدم، وأن الأصالة العربية في كل صورها لا يجوز أن تكون مصدرًا للخجل أمام الحضارة الحديثة، بل على العكس، فإنها تبعث إلى النفس العربية بكثير من الثقة بالذات، وليس هناك طريق للنهوض بغير هذه الثقة، كما أن ما تحمله الحضارة العربية الإسلامية للإنسانية من القيم الأصيلة في احترام العقل والاجتهاد والإرادة الحرة، هذه القيم كلها يجب الحرص عليها، فهي وحدها التي تخلّصنا من الإحساس بالعجز أو الخوف من العصر الحديث، كما أنها تفتح أبوابها واسعة لاقتحام الحياة الحديثة بجرأة وشجاعة وعزم أكيد على المشاركة الإيجابية في التقدم السريع الذي تحققه الإنسانية الآن. 

بعيدًا عن الجزع

          وهاهو التويجري البدوي العربي الأصيل، يواجه الحضارة الحديثة في كتابته بنفسية بعيدة عن «الجزع»، ولا يخشى أبدًا أن يحمل سيفه ويركب جواده، ويسير في خضم هذا العصر المضطرب ويواجهه بشجاعة، ما دام يعتمد على أرضية صلبة من ثقافة اليقين، التي آن لها أن تزدهر وتنتصر وتثق بنفسها وتعود إلى سيرتها الأولى، وتنشر التفاؤل وحب الخير بين الناس، وتثبت للدنيا أن حضارة اليقين هذه يمكن أن تحقق ما يبدو في حضارة الشك صعبًا ومستحيلاً، ألا وهو الجمع بين التقدم المادي وسعادة النفس الإنسانية، وبعدها عن التمزق والاضطراب، وفقدان الإيمان حتى بجدوى الحياة نفسها. إن التويجري لا يقول أبدًا مثلما يقول بعض المفكرين من أبناء هذه الأمة «إن العرب ظاهرة  صوتية»، ولا يحاول أبدًا أن يفعل كما فعل عدد آخر من المفكرين المعاصرين الذين يبذلون جهدهم من أجل نفي «عروبة مصر»، ونفي «عروبة لبنان»، ونفي العروبة من عدد آخر من أقطار هذا الوطن، وذلك لمجرد إثبات أن هذه الأقطار قادرة على أن تكون جزءًا من الغرب وحضارته الحديثة، وأنها لن تفلح أبدًا مادامت بقيت مرتبطة بالشرق والعروبة.

          لم يفعل التويجري شيئًا من هذا كله، ذلك أنه أقام بناء أفكاره على اليقين والثقة بالنفس والإيمان بالأصول الحضارية الحقيقية، التي ينتمي إليها، ولا يخجل منها، لأنه يفهمها ويعرف قيمتها وقدرتها على تجديد نفسها ومواجهة العصر وتطوراته الكبيرة المتلاحقة.

 

رجاء النقاش