غواية السلطان

غواية السلطان
        

عندما تولى يزيد بن عبد الملك الخلافة، كان شابا متقشفًا، خجولاً، وعلى وجهه مسحة من الحزن، وتساءل المحيطون به من بني أمية، هل هذا الشاب النحيل قادر على مواجهة غوايات الحكم؟

الغواية الأولى:

          في اليوم الأول دخل إلى قاعة الحكم وتوقف مدهوشًا، تأمل العرش الذهبي اللون الذي يتصدر القاعة، كان برّاقًا ومغريًا كأنه امرأة مستكينة، تنظر إليه في صمت، قال:

          - أنا لست كسرى ولا قيصر، أحضروا لي مقعد ابن عمي عمر بن عبد العزيز.

          قال أخوه هشام بن عبد الملك:

          - ولكنك لن تؤثر في قلوب العامة والأعراب إلا بهذا العرش.

          ولكن الخليفة هز رأسه نافيًا ومصرّا على رفضه، تبادل رجال الحكم من بني أمية نظرات قلقة، هاهو خليفة متقشف آخر يقبض على زمام الحكم ويوشك أن يقبض على رقابهم، كأن لم كافيا مافعل الخليفة الأسبق حين حاسبهم حسابًا عسيرًا وجرأ العامة عليهم وصادر أملاكهم بحجة أنه مال المسلمين، وجعلهم يسيرون على الحق كأنه سيف جارح، كانوا يحسبون أن هذا الخليفة الجديد سيتيح لأهله ـ من بني أمية على الاقل ـ أن ينعموا بالغنائم التي تنهال عليهم من فتوحات البلاد التي لا تتوقف.

          لم تكن بداية مشجعة، خاصة بعد ماحدث في المسجد الكبير، حيث كان الشيخ «ابن مكحول» يلقي أحد دروس العلم، وفوجئ الجميع بيزيد وهو يقبل عليهم، فردًا وحيدًا في ملابسه العادية دون شيء من أبهة الإمارة، ولكن الجميع كانوا يعرفون أنه أخو الخليفة الحالي سليمان بن عبد الملك، وأنه الخليفة القادم، أسرعوا يوسعون له مكانًا في صدر المجلس، ولكن «ابن مكحول»، أشار للجميع أن يبقى كل في مكانه، وأشار للأمير أن يجلس حيث هو في نهاية الصف، وربع يزيد ساقيه، وجلس دون أن ينطق بكلمة، واستمع للدرس حتى نهايته ثم تناول نعليه وانصرف.

          كانوا يعرفون ذلك ولكنهم كانوا موقنين أنه سوف يتغير، فللحكم طباع أخرى، وكان لابد من توالي الغوايات.

الغواية الثانية:

          جاء والي المدينة عبد الرحمن بن الضحاك يجر خلفه جمعًا من العصاة والخارجين عن السلطان، كان قد سجنهم وعذبهم، وجعلهم يقرون بكل ما فعلوه ومالم يفعلوه، وهاهو يسوقهم هدية للخليفة بمناسبة عهده الجديد، ولكن يزيد تأمل وجوههم، استطاع أن يتعرف على عدد منهم رغم التعذيب والإنهاك والتشويه كانوا من أشراف مكة والمدينة، قال:

          - من هؤلاء؟

          قال ابن الضحاك متفاخرًا: إنهم أعداؤك العلويون والمتمردون والمطالبون بالخلافة، وقد نصرنا الله عليهم .

          كان بنو أمية قد قتلوا الكثيرين منهم، ولكن كلما قتل إمام ولد من بطن الغيب إمام خفي، وكلما قمعوا فتنة اشتعلت أخرى، وحتى عندماحاصرهم الحجاج بن يوسف الثقفي داخل الكعبة ورماها بالمنجنيق، لم تنه هذه الفعلة البشعة الصراع، قال الخليفة:

          ـ فكوا قيدهم وأجلسوهم أمامنا لنراهم ويرونا، ونكلمهم ويكلموننا. قال ابن الضحاك مدهوشًا ومستنكرًا:

          - ولكن هذا سيجرئ أعداءنا علينا.

          وأشار له الخليفة أن ينصرف من مجلسه على الفور، وسرعان ماعزله، كان حلم يزيد أن يعم السلام هذه البقعة من الأرض التي لم تهدأ منذ أن اغتيل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، كان يريد ولاته أن يكفوا عن مطاردة العلويين وتعذيب الأحياء، ونبش قبور الموتى، وأدرك الجميع لحظتها أن هذا الخليفة لن يتغير، سيظل ذلك الرمح الصلب الذي لا ينحني، يصحو مع الفجر، يصلي بالناس، ثم يغشى الأسواق، ويتفقد السجون، ويرسل الرسائل لولاة الأمصار، ثم يفتح بابه للمظاليم وطلاب الحوائج، وكان لابد من البحث عن نقطة ضعف له، تنفذ منها كل الأهواء والرغبات لعله يلين. 

الغواية الثالثة:

          كان الخليفة جالسا مع زوجته «سعدة»، الأثيرة إلى نفسه، كانت هي خائفة من تزمته، تحمل في داخلها كل مخاوف أهلها من بني أمية، قالت له:

          - يا أمير المؤمنين ـ يا زوجي وابن عمي ـ هل بقي لك شيء من الدنيا تتمناه.

          تأملها في شرود، في تلك اللحظة لم يكن يريد شيئًا، ولكنه قبل أن يجلس على هذا العرش الصعب، كانت له أمنيات ورغبات، أراد ذات مرة أن يمتلك ذلك الصدى الهائم في الصحراء «حبابة»، كان ذاهبًا إلى الحج، واستضافه أحد تجار مكة الموسرين، وفي بيته سمع صوتها الذي مازال يرن في أذنه حتى هذه اللحظة، قويًا ورائقًا ورنانًا، لا يصاحبه إلا إيقاعات من وتر شاحب، وعندما رآها اكتشف أنها لا تقل جمالاً عن صوتها، كأنها ريح الصحراء قد شظفتها من كل وجه فتحولت إلى كائن رهيف، عيون واسعة مليئة، متألقة وحزينة، وشعر أسود منسدل، ورقبة رفيعة، حين تشدو تبدو العروق الزرقاء الشاحبة من خلف جلدها الرقيق، أوتار من السماء، كان اسمها «حبابة»، ولكن الجميع كانوا يطلقون عليها لقب العالية، لأنها كانت الأعلى قيمة بين كل المغنيات والمحظيات، وأصر مالكها على ألا يبيعها إلا بأربعة آلاف دينار كاملة، ولم يشفع له أن الشاري هو شقيق الخليفة.

          ومن فرط الشغف دفع يزيد كل ما معه من مال، واستدان من بعض أصدقائه، وأرسل مكتوبًا عاجلاً إلى أخيه سليمان بن عبد الملك يطلب منه مددًا من المال، ولكن الخليفة فزع عندما عرف المبلغ المهول الذي دفع في جارية واحدة، فأرسل إليه مهددًا:

          - أيها الأرعن، تخلص منها فورًا وإلا قمت بالحجْر عليك ونحيتك عن ولاية العهد.

          لم تكن للخليفة العين الذي يرى بها حبابة، ولا الأذن التي يستمع بها إلى شدوها، كان فقط يملك قوة الأمر والحسم، وهكذا بروح منكسرة طرح يزيد حبابة للبيع مرة أخرى، وعرف الجميع ذلك فساوموه عليها وبخسوا سعرها، لم ينس نظرة اللوم والعتاب، التي ألقتها عليه حبابة وهي تمضي إلى مصر مع مالكها الجديد، كانت حلمًا جميلاً لم يستطع الحفاظ عليه وبيع بنصف ثمنه، تركت حياته خالية بلا شدو ولا جمال، وظل هذا الأمر يحز في نفس يزيد حتى بعد أن امتلك ذلك العالم الواسع، ظلت حبابة هي الأمنية التي عجز عن تحقيقها، لذا رفع رأسة وتأمل زوجته بنظرة شاردة، وقال بصوت حالم :

          - حبابة.

          كان الأمر أكثر من مجرد غيرة زوجة تريد أن تستأثر بزوجها، كان يخص كل بني أمية ومصالحهم المهددة، وكانت «حبابة» هي مفتاح اللغز الذي يبحث له الجميع عن حل، انطلقت الرسل بسرعة إلى كل مكان في مصر تبحث عن التاجر الذي اشتراها، خصصت سيدة الخلافة المال اللازم لشرائها، وتفرغ الوالي الأموي في مصر للبحث عن حبابة واستخلاصها، وتمت الصفقة في أسرع وقت، وحملت الفتاة على الخيل السريعة إلى الشام، لم يكن هناك وقت لأن تحمل داخل هودج مريح فوق ظهر جمل، كان يجب أن تصل إلى دمشق قبل أن يندم الخليفة على نقطة ضعفه التي كشفها.

          وقفت حبابة، مجهدة ومرعوبة ومغطاة بالرمل أمام زوجة الخليفة، تأملتها سعدة، كانت أصغر وأجمل، ولكنها كانت رهيفة بحيث لا تثير العداء، أمرت جواريها بأن يحمموها ويعطروها، وأن يلبسوها أفخر الثياب، وانتظر الجميع.

          في المساء، عندما جلست سعدة إلى الخليفة الذي كان يبدو حزينًا وشارًدا أعادت عليه السؤال نفسه مرة أخرى:

          - يا أمير المؤمنيين ـ يازوجي وابن عمي ـ هل بقي لك شيء من الدنيا تتمناه؟

          قال: لقد أخبرتك من قبل.

          وصفقت سعدة بيدها، فانزاح الستر وبدت حبابة من خلفه، منهكة وبهية ومندهشة، لؤلؤة أخرجت لتوها من البحر، وتأملها يزيد وهو غير قادر على الكلام، وتركتهما «سعدة»، ولكنها لم تبتعد كثيًرا، وقفت تتنصت خارج الباب، وقد بدأت الغيرة تدب في قلبها، لم تكن قد رأت في وجه زوجها مثل هذه العلامات من اللهفة والفرح من قبل، لا لها ولا لغيرها، لم تسمع شيئًا، لا أصوات حديث، ولا أنغام غناء، ولا تأوهات الحب، ماذا يحدث بالضبط؟

          لم تطق سعدة صبرًا، دفعها فضولها للدخول مرة أخرى بالرغم من أنها كانت تجازف بإغضاب الخليفة، كان لايزال جالسا في مكانه، وحبابة في مكانها، ولكن هناك سترًا منسدلاً بينهما، كل منهما يشعر بوجود الآخر، ولكنهما منفصلان، وقفت سعدة مذهولة وهي تقول:

          - مابالك يامولاي، هذه «حبابة» التي ابتغيتها طويلا.

          نظر إليها يزيد بعيون غائبة وهو يقول:

          - بلى، ولكني أخاف الله. 

الغواية الرابعة:

          في الصباح فوجئ الخليفة، بمشايخ دمشق وعلمائها وهم يطلبون الدخول إليه، كان من الواضح أن هناك أمرًا جللاً يحتمل الانتظار، كانوا أربعين شيخًا، أشكالهم مهيبة، ولحاهم بيضاء ومسترسلة، يلبسون العباءات الواسعة، ويضعون على رءوسهم العمائم الضخمة وفي أيديهم كتب ومسابح ومصاحف، جلس مبهوتًا وهو يقلب نظره فيهم، تقدم إمام المسجد الكبير وهو يقول :

          - جئنا يامولاي من أجل خيرك وخير الناس، فأنت تأخذ نفسك بالشدة، وتبالغ في التقشف، وتحرم نفسك من كل متع الدنيا وملذاتها.

          قال الخليفة وهو مازال مدهوشًا: إنما أخاف الله، وأبغي مرضاته.

          كان جسده قد غدا نحيفًا، ومازال يستيقظ مبكرًا، فيصلي بالناس، ويطوف بالأسواق والسجون، وأحس بنو أمية بالخطر الحقيقي عندما أخذ يفرج عمن في سجون الدولة من سجناء، خاصة أعداء الدولة من العلويين، كان من المهم أن ينام الخليفة متأخرًا، حتى لا يستيقظ مبكرًا إلى هذا الحد ويحدث كل هذا القدر من المتاعب.

          وبادر الشيخ الإمام ففرد أمامه رقعة كبيرة من الجلد مكتوبًا عليها آيات كثيرة وأحاديث أكثر وهو يقول :

          - ها قد جمعنا كل ماقيل في أحكام السلطان من فتاوى وأحاديث، وكلها تجمع على شيء واحد ومؤكد، ليس على الخلفاء والسلاطين حساب ولا عقاب في الآخرة.

          هتف الخليفة مدهوشًا: أتقول الحق؟

          تقدم أكثر من شيخ وإمام، أقسموا على ذلك، أمسكوا لحاهم البيضاء في تأكيد، وهزوا عمائمهم الضخمة في ثقة، وفتحوا كتبهم وهم يتصايحون، وعاد الشيخ يقول :

          - كلنا متفقون في هذا الرأي، فالسلطان القوام لا يحاسب، والخليفة القادر لا يعاقب، وما يتحمله في الدنيا من أعباء الحكم يكفيه ويجعله بريئًا وطاهرًا أمام رب العالمين.

          ونهض الخليفة واقفًا وهو يصرخ: يا صاحب الشرطة.

          ودب الرعب في قلوب كل المشايخ، أدركوا أنها النهاية، ظلوا يترقبون مقدم صاحب الشرطة بقلوب واجفة، ولكن عندما دخل بادره الخليفة قائلا:

          - من الآن فصاعدًا سوف تصلي أنت بالناس.

          وأحنى صاحب الشرطة رأسه وهو يخفي ابتسامته، وتنفس شيوخ دمشق الصعداء.

          أخيرًا انطلق صوت حبابة بالغناء:

          كفى حزنا بالهائم الصب

          أن يرى منازل من يهوى معطلة قفرا.

          حانت لحظتها أخيرًا، تفرغ لها الخليفة، استيقظت في داخله كل الرغبات القديمة، وسمعت الزوجة في الليل صوت ضحكاتهما وأحاديثهما، أخذ القصر كله يتجسس عليهما ويحرص على سماع أصواتهما، كانوا جميعًا يريدون الاطمئنان أن الخليفة لن يفلت بعد الآن من فخ الغواية المغري.

          أصبح يزيد بن عبد الملك منتشيًا على الدوام، سكران معظم الوقت، وبعد أن كانوا يخشون خروجه إلى الناس حتى لا يكشف كل شيء، أصبحوا لايريدون خروجه حتى لا يكشف الناس عن حالته، وأحست حبابة أيضًا أنها مراقبة من الجميع، وأن زوجة الخليفة قد بدأت بالتحرش بها، واتفقت هي ويزيد أن عليهما أن يغادرا هذا المكان.

          وجاءت اللحظة التي انتظرها بنو أمية، حين جمعهم وقال لهم:

          - لقد قررت أن أعتزلكم، سأذهب أنا وحبابة وحدنا إلى قصر الغوطة.

          وهكذا خرج الخليفة من مركز الحكم إلى أطراف عاصمته، كانت المسافة قليلة، ولكنه خرج من مركز العالم كله دون أن يدري، ترك عرشه خاليًا يتنازعه الجميع، كانت الغوطة باردة الهواء كثيفة الأشجار، نضرة الفواكه، ولكنها لم تكن العالم الحقيقي، فرش القصر بالبسط والنعم، وملأه بالجواري وعازفي الموسيقى ومقطري الخمر، ولم يقبل أن يدخل عليه قاض أو رسول، تفرغ لحبابة بكل طاقته وكامل وقته.

          ولكن المتعة حلم عابر كما يقولون، كانا جالسين معا وبينهما طبق من أعناب الغوطة، كانت تقذف له حبة فيلتقطها بفمه، ويقذف لها أخرى فتلتقطها بفمها ويقبلان بعضهما ثم يعاودان الكرة، ولكنه فوجئ بها وهي تشرق وتسعل بشدة، ضحك منها ومن عنقها النحيل، وحسب أنها سوف تلفظ حبة العنب أو تبتلعها، ولكنها لم تستطع، تغير وجهها وازرق فجأة، وأصبحت عاجزة عن التنفس، كانت الحبة اللعينة قد توقفت في مجرى قصبتها الهوائية، صرخ الخليفة ينادي من ينقذها، كانت دمشق بعيدة، والأطباء أبعد، وانتفض جسد المختنقة وهي تجاهد عبثًا لتظفر ببعض من الهواء، ثم همد كل شيء. صرخ يزيد يطلب منها أن تستيقظ وأن تغني وأن تعيش الحب معه، وعندما جاءوا سريعًا من دمشق، حاولوا أن يبعدوه عن جثتها، وأن يأخذوها منه ليدفنوها ولكنه صرخ فيهم وظل يحتضنها ويقبلها. مر اليوم الأول، وهو يحاول أن يبعث الحياة في جثتها، كان يعتقد أن حبه لها قادر على ذلك، ظل يحتضنها ويقبلها لعله ينقل إليها بعضا من روحه، ولكن مع توالي الأيام بدأ السيد الموت يفرض رائحته الثقيلة وحضوره الدائم على المكان، ضاع العطر وتبدد الجمال وذرت الروح ولم تبق إلا رائحة العفن، بعد أيام لم يكن أحد قادرًا على الاحتمال، انتزعوا بقايا جسدها منه وهو يبكي، وبعد أن تم دفنها ظل مقيمًا على قبرها، رافضًا أن يذهب إلى أي مكان آخر، كان يدرك أن النهاية قادمة، وعندما تحين اللحظة، لم يكن يريد أن يكون بعيدًا عنها، فقد جسده إرادة الحياة، وأخذته الغواية إلى أبعد مداها، واختصرت دولته الواسعة ـ التي كانت تمتد من حدود الصين إلى هضاب الأندلس ـ إلى تلك البقعة الصغيرة من الأرض، وكان آخر الملوك الذين ماتوا عشقًا.

لشعثاءَ التي قدْ تيمتهُ فليسَ لقلبهِ منها شفاءُ
كَأنّ سَبِيئَة ً مِنْ بَيْتِ رَأسٍ يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ
عَلى أنْيَابهَا، أوْ طَعْمَ غَضٍّ منَ التفاحِ هصرهُ الجناءُ


حسان بن ثابت

 

محمد المنسي قنديل