قـراءة نقدية في كتاب (فيضان قلب)

قـراءة نقدية في كتاب (فيضان قلب)

تكتسب المجموعة الجديدة للأديب العربي من الإمارات محمد المر, أهمية مضاعفة من كونها تصدر بعد مرور عدة سنوات منذ إصدار آخر مجموعة من مجموعاته الثلاث عشرة التي شكّلت حتى صدور هذه المجموعة الجديدة إجمالي ما قدمه المرّ من إبداع في قالب القصة القصيرة.

هذا التوقف, أو الانقطاع, الإبداعي, كان وليد انشغال حقيقي بالهموم العامة, وهي في الإمارات مثلما في العديد من أرجاء العالم عدة, وبعضها لا ينقصه الخطورة الشديدة ولا التعقيد, ومتابعتها لم تعن توقف المر كلية عن الكتابة خلال السنوات التي شهدت احتجاب مساهماته الغزيرة في قالب القصة القصيرة.

هكذا فإن سنوات الانشغال المكثف بالهموم العامة هذه شهدت صدور ثلاثة كتب للأديب المر, أولها يحمل عنواناً شديد الدلالة هو (آمال وطنية), في عام 1997 ولعله أكثر الكتب التي صدرت في منطقة الخليج بأسرها جرأة في تناول مشكلات طال تجاهلها إلى أن أصبحت أقرب إلى قنابل زمنية لا يجدى المرء دس أصبعيه في أذنيه لإسكات دقاتها لأن انفجارها أصبح قضية وقت أكثر منها أي شيء آخر.

وفي هذا الكتاب يقدم المر بالأرقام والإحصاءات والوقائع ملامح قضايا بالغة الخطورة, ليس في الإمارات فحسب, وإنما على امتداد منطقة الخليج, وفي مقدمتها التركيبة السكانية, وفقدان الهوية, ولا يكتفي بإلقاء الضوء على مدى خطورة هذه المشكلات وتعقيدها, وإنما هو يشير إلى حلول مقترحة في ضوء تجارب شهدتها مناطق أخرى من العالم في مقدمتها سنغافورة.

خلال هذه الفترة أيضاً, قدم الأديب المر كتابين ينتميان إلى أدب الرحلات هما (عجائب الدنيا: مقالات في الثقافة والحياة والمؤانسة) عام 1997 وكتاب (حول العالم في 22 يوماً) عام 1998.

غير أن مناط اهتمامنا هنا هو مجموعة المر الجديدة (فيضان قلب) ذلك أن هذه المجموعة جاءت, بالنسبة لي, لتهمس بأن أمنية قديمة قد آن أوان تحقيقها, فلطالما تمنيت أن أتناول بعداً محدداً في قصص المر, وهو بعد المكان.

بعد المكان

تضرب هذه الأمنية بجذورها في حقيقة محددة, وهي أن الكثيرين ممن كتبوا عن المكان عند المر, وكما يبين من واقع ما كتبوه:

أ- شكلت الأرضية النظرية التي حملها النقاد الذين تصدوا للكتابة عن الأديب المر زاداً فكرياً لتطبيقها على أعمال المر ارتحالاً طويلاً في تقاليد الكتابة عن (جماليات المكان) كما برزت في كتاب جاستون باشلار الذي يحمل هذا العنوان نفسه. وعلى الرغم من أنه قيل في معرض تقويم هذا الكتاب إنه أحدث ثورة في علم الجمال, فإنه يضرب جذوره في تقليد واحد ضمن تقاليد أخرى عدة في تناول هذا الموضوع.

ب - على الرغم من الاجتهاد وحسن النوايا في الكتابة عن بعد المكان في عالم محمد المر القصصي, فإن المرء قد يجد نفسه أمام خلط يثير الحيرة حقاً لدى مَن أنجزوا هذه الكتابة بين المكان بالمعنى الفيزيقي, أي المعنى الأكثر التصاقاً بحياة البشر, أي المكان وقد تحدد على مستوى الملاحظة في الحياة اليومية, المكان الذي هو وليد الاحداثيات الأساسية التي تحدد الأشياء الفيزيقية, وبين المكان الفني, أي المكان كما يتراءى لنا من خلال عمود القص, إذا شئنا استعارة هذا التعبير من عالم الشعر.

إذا كان الأمر كذلك, فإنني أفضل الاشتغال على دراسة المكان من خلال تقليد مختلف تماماً عن ذلك الذي ينتمي إليه باشلار, ومع كل التقدير للثورة التي أحدثها في علم الجمال.

التقليد الذي أتحدث عنه هنا مرتبط بدراسات أ. مول وإي رومير عن العلاقة بين الإنسان والمكان, ومتصل أيضاً بمشكلة المكان الفني كما يناقشها يوري لوتمان, وبصفة خاصة في كتابيه (بناء العمل الفني) و(تحليل العمل الشعري). ولست أريد الإطالة في هذه الأرضية النظرية, ولكني أتمنى على القارئ أن يسمح لي بإلقاء بعض الضوء عليها, قبل أن نبادر إلى الانتقال إلى تحديد هذا البعد في (فيضان قلب).

فلنبدأ من البداية ذاتها, كما يقولون, من البديهيات ذاتها, فالإنسان يعيش في جسده وبه, ويموت إذا أصيب هذا الجسد, ولكن بالقدر نفسه من الوضوح هناك مساحة تجاوز جسد الإنسان, ولكنها لا تقل أهمية بالنسبة لحياته, سمها مجاله الحيوي إذا شئت, على الرغم من الصيت السيء لهذا التعبير, وهذه المساحة تتسع منها, في صورة دوائر ذات مركز واحد, هو الفرد نفسه, تتسع من حيز ممارسة الفرد لحياته اليومية إلى حيز الجماعة المباشرة, فالحيز القومي, لتنتهي أخيراً بالحيّز الكوني.

أنواع الأمكنة

يلفت مول وروميتر نظرنا إلى أن المكان, بصفة عامة, يكون ملكاً لأحد يمارس فيه سلطته, وهما في إطار تقسيمهما للأماكن يميزان بين أربعة أنواع منها:

- عندي: وهو المكان الخاص, المكان الذي أمارس أنا ذاتي سلطتي فيه, والذي يتسم بالضرورة بأنه مكان أليف وحميم.

- عند الآخرين: وهو مكان يتسم بالعديد من الخواص المماثلة للمكان الأول, ولكن الخلاف الكبير يكمن في أنني في هذا المكان أخضع لسلطة الغير, في الوقت الذي من البديهي أنني أرفض الاعتراف بهذه السلطة, لكنني مرغم على الإقرار بها.

- المكان العام: وهو في الواقع ليس مكاناً لأحد بعينه, وإنما هو ملك للسلطة العامة, سلطة الدولة في أبرز التجليات النابعة من الجماعة, وعلى الرغم من هذه العمومية, فإنني في هذا المكان أظل خاضعاً لسلطة أحد, فأنا لست حرّاً فيه, ولكنني (عند) أحد يتحكم في المكان, ويمد سلطته بالتالي علي.

- المكان اللامتناهي : هذا المكان شديد الأهمية في مجتمع كالمجتمع الخليجي, فهو مكان خال من الناس, الأرض فيه ليست خاضعة لسلطة أحد, بل وقد يكون بعيداً عن سلطة الدولة, كالصحراء النائية على سبيل المثال, من هنا, فإن هذا المكان يغدو مرادفاً للمغامرة والحرية والانطلاق والاكتشاف وابتكار الجديد والغريب.

أيّاً كان تصنيف هذه الأمكنة, فإنها تهمني لأن المكان لصيق بمفهوم الحرية, والحرية في شكلها الخام هي حرية الحركة, هكذا فإن العلاقة بين الإنسان والمكان لا يمكن أن تظهر إلا بوصفها علاقة جدلية بين المكان والحرية, وهنا يمكن تعريف الحرية في أحد أبعادها بأنها مجمل الأفعال التي يمكن للإنسان أن يقوم بها من دون الاصطدام بحواجز أو عقبات, أو إن شئت الدقة فقل من دون أن يصطدم بقوى ناتجة عن الوسط الخارجي لا سبيل أمامه إلى قهرها أو تجاوزها.

يهمّني أن أوضح أيضاً أن يوري لوتمان يثري رؤيتنا للمكان بطرحه لمفهوم الحد, فالنص عنده, أي نص, ليس استمرارية متناغمة, وإنما هو ينقسم إلى أحياز تفصل بينها حدود, والحد مأساته معنا أو مأساتنا معه أنه لا يُخترق. ففي الحكايات الروسية, مثلاً, ينقسم المكان إلى دار وغابة تفصل بينهما حافة الغابة, وأنت عندما تحاول اختراق الحد فأنت تغامر بتقويض دعائم عالمك بأسره, وهذه الحالة أساسية وبسيطة للغاية, ولكنها تعكس وجود أنماط معقدة ومتنافرة من أشتات المكان, ومن هنا لا يتردد لوتمان في الحديث عن (بوليفونية المكان).

المكان ورحابته

إذا شئت الرحيل عبر بعد المكان في القصص التسع التي تضمها مجموعة (فيضان قلب) للكاتب الأديب محمد المر, فإنك ستفاجأ بالثراء الكبير للحصيلة التي تخرج بها, فالمر هو ابن مكان واضح وصريح ومحدد, وله امتداداته الرحبة سواء في الصحراء أو البحر, فكيف يتبدى المكان عنده من خلال المنظور الذي حاولنا أن نلمح إلى آفاقه قبل قليل?

من المؤكد, ابتداء, أنه من المستحيل أن تمتد رحلتنا في دراسة المكان - بهذا المنظور - عبر القصص التسع جميعها التي تضمها مجموعة (فيضان قلب) فربما كان ذلك بحاجة إلى أضعاف المساحة المتاحة لنا هنا.

فلنحاول , إذن, أن نحقق هذه القراءة من خلال القصص الأولى في المجموعة, آملين أن يكون المنهاج الذي سنتبعه هنا من الوضوح وتحدد المعالم وسهولة التطبيق بحيث يبادر القارئ نفسه, وكأنما هو في غمار حديث مع صديق بصوت عال, إلى محاولة إكمال تطبيقه على باقي قصص المجموعة.

في صدر المجموعة, ومع قصة (كتب متأخرة) سنجد أنفسنا في مكان عام, والقاص محمد المر يحرص على تأكيد هذا الطابع العام والتشديد عليه, لأن في هذا إضاءة وتجسيداً للساحة الرحبة التي ستكون الخشبة التي يبرز عليها التوتر الذي يمنح القصة حيويتها وقدرتها الفائقة على اجتذابنا.

إننا في مكتبة (عامة) نتابع موظفة جديدة تعهد إليها زميلتها بالاتصال هاتفياً بالمستعيرين, الذين تأخروا في إرجاع الكتب, ومنذ البداية ذاتها سنلاحظ التوتر في مواجهة المكان العام والرفض الضمني للسلطة العامة التي يفرضها, وليس من قبيل الصدفة أن تبادر الموظفة الجديدة في مواجهة هذه المهمة إلى القول: (أعوذ بالله, أنا أكره شيء عندي هو الكلام في التليفون), هكذا يبدو بوضوح رفض اكتمال دائرة الانصياع لسطوة المكان العام, والتحفظ إزاء إمكان أن يصل الإرغام في ظل هذا المكان العام إلى المضي إلى (عند الآخرين).

في الاشتباك الأول ستصطدم الموظفة الجديدة مع أم أحد المستعيرين, والتي تدافع عن ابنها بمرارة تحلق إلى آفاق العدوانية, فلا تملك الموظفة الجديدة إلا أن تدمدم: (عجوز مخرفة وثرثارة, شكت لي من ابنها, ولم يكن ناقصاً إلا أن تجعلني خاطبة له).

في الاشتباك الثاني ستحرص الموظفة الجديدة على أن ترفع في مواجهة محدثها (المغازلجي) آلية الاحتماء بالمكان العام, فلا تتردد في أن تصرخ فيه: (اسمع نحن نكلمك من المكتبة العامة!), هذا الرفض للانجرار إلى (عند الآخرين) هو نفسه الذي يجعلها تلقي السماعة وكأنها (تتخلص من حشرة لزجة ومزعجة).

في الاشتباك الثالث, ستكتشف الموظفة أنها تتكلم مع مجنون, فلا تملك إلا أن تقول لزميلتها مشتكية: (ولا مكالمة ناجحة, أصبحت أتكلم مع المجانين!).

في الاشتباك الرابع تصطدم الموظفة الجديدة مع امرأة غيور إلى حد الهلاك, وينتهي الاشتباك بالانسحاب إلى المكان العام ومنه إلى المكان الذاتي, (عندي) للاحتماء فيه من ضراوة المكان العام.

هذه الصدامات المتوالية إلى أين تقودنا? هل سيتضاعف شعور الموظفة الجديدة بضراوة هذا السلب المستمر للحرية الذي يوشك أن يجردها من إنسانيته? إنها تبادرنا بالرفض المطلق والحرص على الدفاع عن حيزها الإنساني مهما ضاق نطاقه, فهاهي تقول: (سأصنف الكتب وأرتّبها وأجمعها وأوزّعها وأنسق الجرايد والمجلات, وأقلم الأشجار في الحديقة, ولكنني لن أتصل بأصحاب الكتب المتأخرة).

لو أن الأديب محمد المر أنهى قصته عند هذا الحد, وأحسب أنه كان يمكن أن يفعل ذلك لو أنه كان يكتب إحدى القصص التي تضمها مجموعاته الأولى, لكان من حقنا أن نتساءل عن عنصر المفاجأة في إبداعه الذي حدّثنا عن المستعرب روجر الين, الأستاذ بجامعة بنسلفانيا في مقال مطوّل عن أدب المر نشر في عدد ربيع 1986 من مجلة (ورلد لتراتشر توداي) المتخصصة في الأدب العالمي والصادرة عن جامعة أوكلاهوما.

ربما لهذا, بالضبط, فإن المر سيضع اللمسة الختامية في صورة أقرب إلى النبوءة الراعدة, عندما تقف الموظفة إياها أمام قارئ يسأل عن كتب السحر, فلا نملك إلا أن نحلق عالياً ونحن نتساءل عما إذا كان المر يجرنا إلى تساؤل مترع بالقلق عما إذا كانت هذه الموظفة ستنتهي رحلتها, التي رأينا ملامح منها, إلى الانطلاق بعيداًً, إلى المكان اللامتناهي, الذي يرتبط بالسحر في أحد أبعاده.

قيمة التواصل

القصة التالية في مجموعة المر التي سنناقشها الآن, وهي الثالثة من حيث ترتيب الإدراج في المجموعة وتحمل عنوان (عشاء على ضوء الشموع) ستسمح لنا بأن نلاحظ أن محمد المر في بداياته المبكرة قد أهدى إحدى مجموعاته إلى (الأهل والأحباب).

ليس هذا الإهداء بالمصادفة ولا الشيء الذي جاء اتفاقاً, وإنما هو يوضح أن التواصل مع الأهل والأحباب هؤلاء يتحول عند المر إلى هدف, إلى قيمة, ولذلك فإنه يختار اختياراً واعياً, وعلى مهاد من الوضوح التام, القالب الذي يقدم فيه قصصه, القالب الذي يقترب من قصص موباسان ببساطتها وجاذبيتها وإمكاناتها الفاتنة, القالب الذي يعيد أصداء القص الدائري العبقري في الأدب العربي, الذي يحمل بساطة القصة التي تفضي إلى غيرها في فتنة آسرة.

هكذا فإن الرجل الأكثر قدرة في الإمارات على الكتابة والحديث عن الحداثة ومتابعة أحدث تجليّاتها وأعمق تقاليدها هو نفسه الذي سيختار هذا القالب الواضح والقريب من القلب, وسيحصد ثمرة هذا الاختيار في صورة الاقبال الكبير من القرّاء على قراءة كل حرف يكتبه.

نَص المر هو نََص استدراجي بطبيعته, إنه يبدو لمن يطل عليه لأول وهلة كأنه مدينة مفتوحة, إنه يغريك بأن تمضي في هذا الميدان, وأن تنعطف عند هذه النافورة, وتنطلق في تلك الجادة, وتلتقط أنفاسك تحت تلك القبة الشرقية البديعة, أو تمضي متجوّلاً على مهل, متفيئاً ظلال هذه البوائك, أو متأملاً روعة إبداع هذه المقرنصات.

لكنك لن توغل في المسير طويلاً إلا وقد اكتشفت أنك بحاجة إلى خارطة تقود خطاك وتستطيع بالاستعانة بها أن تدلف عبر هذه البوابة ومن خلال هذا التقاطع من دون أن تضل الطريق في نهاية المطاف.

فلنحمل خارطتنا, إذن, ولننطلق إلى (عشاء على ضوء الشموع) فمنذ البداية سنلاحظ رفض البطل للمكان العام وعناده في مواجهة مطلب زوجته أن يصحبها لتناول العشاء على ضوء الشموع في أحد المطاعم, وهذا الرفض سيشمل المكان العام على إطلاقه سواء أكان مركزاً تجارياً أو سوقاً شعبية, فهو بحكم عمله في إحدى الدوائر الرسمية التي تتعامل يومياً مع الجمهور يخشى أن يرصده معارفه هناك مع زوجته, ولكن هذه الأخيرة ترد عليه بالقول: (يا حبيبي من يعرف فطوم في سوق الغزل!).

هنا سنلحظ أن المر لا يتردد في أن يشير إلى أماكن عدة في مدينة دبي, هكذا نلتقي بالأماكن في بعدها الفيزيقي, حيث المطعم الصيني في فندق المتروبوليتان ومطعم الأسماك الجديد في الفورتي جراند ومطعم الأطباق البولينزية في الهوليداي إن والمطعم الإيطالي في فندق الخليج.

لكن هذا ليس ما نريده, ذلك أن خارطتنا عن المكان هي التي تقودنا إلى ما نريده, ستمضي بنا إلى الصفحة السادسة والثلاثين من المجموعة, حيث نلحظ التفرقة المهمة بين المكان الفيزيقي والمكان الفني, والمدهش حقاً أن المر يستخدم هنا تعبير (الحد) بالمعنى ذاته الذي حدّثنا عنه يوري لوتمان, فالزوج في القصة يتحدث عن عالم الرجال وعالم النساء, الذي لابد لكل منهما أن يكون حيّزاً منفصلاً عن الآخر.

نماذج بشرية

ونحن ننطلق مع الزوج في محاولة سؤال أصدقائه عمّا يفعلونه في مواجهة مطالب من نوعية مطلب زوجته, وسنجد أننا أمام النماذج التالية:

- نموذج الرفض: حيث يرفض الزوج اصطحاب زوجته إلى المكان العام, بينما ينطلق هو مع أخريات في أماكن مماثلة خلال السياحة في جنوب شرق آسيا, فيكون الجزاء من جنس العمل.

- نموذج الاقتسام: حيث الازدواجية وأنصاف الحلول.

- نموذج التناقض: حيث يؤكد الأزواج الرفض, لكنهم في واقع الأمر ينفذون (تعليمات) الزوجات حرفياً.

أيّاً كان الأمر, فإن صاحبنا الزوج العتيد إياه يذعن, في نهاية المطاف لطلب زوجته, بعد أن مرض وسهرت على تمريضه, فيمضيان إلى المطعم الدوّار في فندق حياة ريجنسي.

لكن لماذا هذا المكان على وجه الدقة? إنه مكان عام, نعم, ولكن إطلالته تتسم بالتغير والغموض, ثم إنه يتسم بالضيق وبالحضور الضاغط لإدارة الفندق, فهل يخرج الزوجان منه وقد أضاف إلى قيودهما مزيداً من القيود? أول ما سيلفت نظرنا هو تفتت المكان العام, وهو مكان ضاغط وقابض وعدائي بامتياز, إلى جزر خاصة, تحفل بالارتياح والحميمية, وفي جزيرة صاحبنا سوف يتم انسحاب يوشك أن يكون مطلقاً من المكان العام إلى المكان الخاص.

ربما لهذا, بالضبط, نقف طويلاً عند الحوار الختامي بين الجرسونين اللذين يقول أحدهما بعد انصراف الزوجين: (هل رأيت كيف غاب الزوجان على الطاولة رقم ثلاثة عن الوجود, لقد نسيا الناس والوقت وكل شيء? فيرد زميله: (لا, مستحيل أن يكونا زوجين, لابد أنهما عاشقان).

هكذا أصبحت الحركة في المكان من العام إلى الخاص بُعد تحرر, ومؤشر انعتاق, ومرادف تحقق للإنسانية ومفارقة للاغتراب.

في قصة (فيضان قلب) التي منحت المجموعة عنوانها سيخيل للقارئ, لأول وهلة, أن بعد المكان لا يشكّل خطاً قوياً, ولا يجري التشديد عليه.

ولكن هل الأمور كذلك حقاً? صحيح أن القصة تأخذ شكل مونولوج هاتفي لا يتدخل الطرف الآخر فيه إلا عبر أسطر النهاية القلائل, ولكن مع ذلك فإن المكان يفرض حضوره عبر تضاعيف قصة الحب, وكأنه يشارك في صياغة مفاصلها رغماً عن بطليها.

تأمل حديث البطل عن المكان الذي يصفه هو نفسه بأنه (مكان غريب).

إنه يجلس كما لو كان منفياً في ركن ناء من شارع الرقة بمنطقة ديرة ليتابع سيارة المرأة التي يحب, وهي سيارة كاديلاك صفراء لا تخطئها العين, وينعكس الانكسار في العلاقة بينهما في وجوده في هذا المكان الغريب, الذي لا يفتأ المارة يستعجبون وقوفه فيه بسيارته, وكأنما البطل نفي من نعيم المكان الخاص إلى جحيم المكان العام, حيث القوة التي تتساءل وتحاسب.

والحد الفاصل بين المكانين سيبرز كأقوى ما يكون في تلك الحميمية, وارفة الظلال, التي تقترن بحيز المكان الخاص في غرفة البطل في فندق تاج محل في بومباي, وهنا لا نملك إلا أن نلاحظ كيف أن هذا المكان البعيد جداً سيغدو قريباً جداً, لأن البعد الذي يحكم عليه هو بعد الحرية وبعد التحقق الإنساني, وليس أي معيار آخر.

هذا الفهم للمكان الإنساني باعتباره المكان الذي تعلو فيه أمواج الحرية, سيتاح لنا من حديث البطل عن قيامه والمرأة التي يحب بحجز قسم العائلات في مطعم صيني, فيتذكر البطل في مونولوجه الهاتفي: كيف كانت أضواء الشموع والفضيات تنعكس على وجهك, على وجنتيك, كيف كانت تبتسم عيناك, لن أنسى عينيك في تلك الليلة الفردوسية حتى ألفظ آخر أنفاسي).

الصمت والانفصال

هذا البعد, بعد الحرية, الذي يعطي للمكان إنسانيته هو نفسه الذي سيحدثنا عنه البطل: (أردت أن أكون حبيبك لا عبدك, الحب الحقيقي يحررنا ولا يستعبدنا, الحب المريض هو الذي يكون فيه سيد وعبد, الحب الصادق هو الذي لا يكون فيه إلا الأحرار, أريد لكلينا الحرية والكرامة).

من المهم هنا أن نلاحظ الربط بين الصمت والانفصال, الصمت والتباعد, الصمت والانغلاق داخل أحياز لا سبيل إلى اختراقها, وهذا الصمت يصل إلى عنفوانه المطلق حيث نعلم أن هذا المونولوج كله لم ينصب في نهاية المطاف في أذني الحبيبة, وإنما في سمع امرأة أخرى, هكذا تكتمل دائرة الصمت, هكذا يكتمل الانغلاق داخل الأحياز مستحيلة الاختراق.

ويظل نص الأديب العربي من الإمارات محمد المر, كما تصافحنا به مجموعته الجديدة (فيضان قلب) نصّاً شديد الجاذبية والثراء, نصّاً استدراجياً, يدعوك إلى قراءة حتى الساعات الباكرة من فجر اليوم التالي, إنه مدينة مفتوحة حقّاً, لكنك أنت وحدك الذي ترسم الخارطة التي تحول دون أن تضل فيه الطريق.

 

محمد المر







القاص الاماراتي محمد المر





كتابان للقاص محمد المر في القصة والمقالات النقدية





كتابان للقاص محمد المر في القصة والمقالات النقدية





وكتابان عن رحلات في دول العالم





وكتابان عن رحلات في دول العالم