عن احتراق بـعـض الـتـفـاصيـل

مشاعر تحت العدسات تلفزيون الـحقيقة.. أم البلاهة

أنت مراقب. تنام وتأكل وتفكر وتحلم تحت عدسات التصوير. كل الميزات والخطايا الصغيرة. سوف تجدها مجسدة على الشاشة وتحت أنظار ملايين المشاهدين.. هذه هي فكرة البرنامج الذي غزا كل التلفزيونات الأوربية.

الغرب السئم يتفرج على سأمه. بذلك يمكن اختصار ما يحدث اليوم تلفزيونياً في فرنسا (وقبلها في هولندا وألمانيا والسويد) مع برنامج (لوفت ستوري) loft story الذي يمكن ترجمته بـ (قصة عِلِّيِة) أو (قصة مستودع) والذي أثار جدالا حادا وواسعا في كل الأوساط الفكرية والتربوية والاجتماعية والإعلامية, ولامس مستوى الفضيحة أحياناً لدى بعض الأطراف التي رفضته على نحو صارم وراديكالي.

ما هي قضية (لوفت ستوري)?
(لوفت ستوري) هذا الذي يُعرض اليوم في أسماء مختلفة وأشكال متعددة, إنما متقاربة, على العديد من الشاشات الغربية, وحديثاً على شاشة M6 الفرنسية, تقضي (لعبته) بجمع أحد عشر رجلاً وامرأة تتراوح أعمارهم بين 22 و28 سنة ولا تجمعهم معرفة سابقة, في مكان فسيح (حديقة, حوض, سباحة, إلخ), طوال عشرة أسابيع, تحت رقابة ستّ وعشرين آلة تصوير, وآلات تنصّت سمعية, ترصد حركاتهم ليل نهار, على مدار الساعة, وتطاردهم في كل مكان وتحصي عليهم أنفاسهم... أي إنه, في اختصار, العيش المكشوف تحت رقابة الكاميرات. ويستبعد المشاركون تباعاً ليبقى في النهاية ثنائي, رجل وامرأة, يربح جائزة ضخمة هي عبارة عن منزل فخم ثمنه ثلاثة ملايين فرنك فرنسي... شرط أن يتقاسما العيش فيه ستة أشهر متتالية.

إنها لعبة التلصص بامتياز, ملايين المتفرجين المتحلقين أمام شاشات التلفزيون يتلذذون بالنظر إلى حميميات أولئك الأشخاص الذين يحيون تحت رقابة الكاميرا, أربعاً وعشرين ساعة على أربعة وعشرين, كأننا في صلب كوابيس جورج أورويل في روايته الشهيرة (1984) (واسم البرنامج مأخوذ منها على أي حال) حيث لا قيمة للإنسان الفرد وهو مجرّد وسيلة وسلعة, وحيث توظيف كل شيء وكل القيم (الثقافة, الفكر, الأخلاق, التكنولوجيا) للاستهلاك. الإنسان في (لعبة) كهذه يشبه فأر المختبر الموضوع في متاهة تحت أنظار العاملين في المختبر بغية رصد ردود فعله وتصرّفاته.فبم يختلف المشاركون في (لوفت ستوري) عن فئران المختبر حين يوضعون (أو يضعون أنفسهم اختياريا, وهذا وجه الاختلاف الوحيد), في المكان المغلق كالسجن وتروح الكاميرات ترصد ردود أفعالهم وأحوالهم النفسية في تلك العزلة المقفلة, وإن المؤقتة.

تلصّص, ساديّة, بل وثنية جديدة تستدعي وثنية العصور الرومانية وحفلات المصارعين Gladiators الذين يصارعون النمور والأسود حتى الموت, والناس في المدرجات يتفرجون على اللعبة الوحشية المميتة والقاتلة. هنا, في الوثنية المعاصرة, يوضع (المصارعون) الجدد في حلبة العزلة ويقاتلون بعضهم البعض عوضا عن الأسود والنمور, لأن ضغط العزلة وطولها الزمني لا بدّ من أن يفضيا إلى توترات نفسية وتشنّجات عصبية تؤدي بدورها إلى نزاعات ومواجهات حادة بين أفراد المجموعة المشاركة.

ما أحدثه (لوفت ستوري) في فرنسا يوصف بالجنون الجماعي أوالحمّى الهستيرية. ملايين المشاهدين يتابعون البرنامج في شكل مستمرّ, وأضحى له مائة وخمسون موقعا على الإنترنت, والعديد من المشاركين فيه باتوا اليوم نجوماً, كالنجوم السينمائيين تماماً, ويحتلّون أغلفة المجلات وتنهال عليهم العروض من كل نوع. رغم أن تحولا نفسياً شديداً يصيب هؤلاء (اضطرابات, اختلالات...) قبل أن يتمكنوا من استئناف حياتهم الطبيعية!

حمى, (لوفتمانيا) حقيقية ما يحصل في فرنسا اليوم, واقتحم البرنامج البيوت والمدارس... والعقول. والآراء شديدة الانقسام حوله, ويسعنا أن نرصد من تلك الآراء:

ـ البرنامج إيجابي لأنه خلق جدالاً بين الصح والخطأ.
ـ إنه (قمة اللاشيء) و(قمة اللامعنى).
ـ ترفيه عصري, ظريف ولطيف للغاية.
ـ كأنه مشهد من الحياة, يسعك التماهي فيه.
ـ ... وما الجدوى من التماهي وتمضية الوقت في النظر إلى حياة الآخرين?
ـ لعبة مضجرة, فضائحية ومحزنة.
ـ إذا كانت ثمة فضيحة ففي خبث اللعبة, لكن الخبث مثل السخف لا يقتل.
ـ حياتنا مثل (لوفت ستوري) تدور في سجن. هنا, على الأقل, ثم كاميرات تنظر إلينا. في الحياة العادية لا أحد ينظر.
ـ ماذا يضيف البرنامج إلى المشهد السمعي ـ البصري المحكوم بالابتذال وبديكتاتورية وسائل الإعلام.
ـ تمظهر للبلاهة المعاصرة.

ثلثا المشاهدين في فرنسا يحتقرون البرنامج, ومع ذلك يتابعونه. يصفونه بالبرنامج الغبي ثم يجلسون أمامه... فضولاً ربما.

فهذا أب, مثلاً, يحذّر أولاده من أنهم سيضحون أغبياء كالمشاركين في البرنامج... ثم يروح يسألهم: ماذا حصل?! يخشى البعض الجهر برفضه للبرنامج خشية اتهامه بالأمية والتخلف. علماً أن تظاهرات عديدة سارت ضدّ البرنامج وقام المشاركون في إحدى تلك التظاهرات برمي النفايات على مدخل محطة M6 التلفزيونية في سان دوني, باريس.

ترفيه جماعي يخاطب الغرائز وليس سوى انعكاس للفراغ القيمي الذي يعيشه الغرب اليوم, موظفا كل القيم الإنسانية للاستهلاك من أجل المال والربح. بربرية جديدة, في قول والتر بنجامان, وثقافة في خطر, في تعبير يشهد مجرّد زمن متغير. كل شيء آني. الوقائع فقدت تسلسلها وحوّرت ولم يبق التاريخ متواصلاً. يتحدث ريجيس دوبريه في (حياة للصورة وموتها) عن الأمريكيين الأكثر استهلاكا لصورة, ورغم ذلك هم الأكثر جهلاً بما يحدث في العالم! إنه عصر البلاهة والتسطيح التلفزيوني, عصر سلطة الصورة.
لكن أي صورة?!

نماذج ثلاثة في (تلفزيون ــ الحقيقة)

امرأة وأربعة رجال,يقفل عليهم في منزل يقيّدون بعضهم إلى بعض, ويراقبون بالكاميرا أربعاً وعشرين ساعة على أربع وعشرين!

إنها إحدى آخر (اللقيات) لـ (تلفزيون ـ الحقيقة), هذا النوع التلفزيوني الذي ينتشر بكثرة في العالم منذ عقد في السنين, مانحاً بشراً مجهولين فرصة أن يغدوا أبطال الشاشة الصغيرة الجدد.

النجاح الأسطوري الذي شهده برنامج Big Brother عام 2000 في هولندا واستعيد في نحو عشرين بلدا) ((لوفت ستوري) هو اقتباسه الفرنسي) جنّن أوساط المنتجين الذين لم يكفّوا مذ ذاك عن ابتكار الصيغ المختلفة له لجني الأرباح وجذب ملايين المشاهدين.

الأمريكيون بدورهم ابتكروا الشبيه Survivor اللعبة سويدية الأصل التي تقوم على مبدأ عزل أشخاص مجهولين فوق جزيرة مهجورة حيث يتعرضون لأخطار شتى ويقتاتون على الديدان والجرذان!

وتابع البرنامج نحو اثنين وخمسين مليون مشاهد لدى بدء عرضه في أغسطس 2000 على شاشة CBS. وثمة نسخة جديدة تعدّ حاليا يشارك فيها أناس مشهورون مكان المجهولين. كما ينتظر الأمريكيون هذه السنة أيضا برنامجا آخر عنوانه Temptation Island يرسل فيه ثمانية أزواج إلى جزيرة بيليز حيث ينتظرهم العدد نفسه من العازبين الذين يفترض بهم إغراء الوافدين وزرع الفوضى والخيانة بين الرجال والنساء.

هنا بعض نماذج تلك البرامج بين هولندا والولايات المتحدة الأمريكية:

الاستيهام العسكري

إلى جانب Temptation Island أنتجت شركة فوكس الأمريكية (لعبة) أخرى في هذا النوع تحت عنوان Boot Camp (مخيّم إصلاحيّ) يصوّر في مخيم تدريب للكوماندوس ويجمع فيه نحو عشرة شبّان وفتيات يخضعون لأقسى التدريبات العسكرية, وعليهم تحمّل صراخ المدربين وصياحهم في وجوههم, مجيبين عن ذلك بـ (نعم سيدي القومندان), مهما يكن السؤال. الطاعة بلا مناقشة أو اعتراض. ويحرم المشاركون النوم طوال سبع وأربعين ساعة.

يقع المخيم في منطقة منعزلة في إحدى الولايات الجنوبية. والمشاركون الخاضعون لاخـتبارات جسدية وضغوط نفسية مطالبون كذلك باجتياز امتحانات (ذهنية), كأن يحفظوا مثلا أقوالاً لكينيدي.

هذا البرنامج لا يترك كبعض البرامج الأخرى على التحرشات الجنسية, بل على العذاب الجسدي والاستيهام العسكري.

ويخضع المشاركون للإقصاء تباعا, بحسب العلامات التي ينالونها في كل اختبار, من دون أن يتدخل المشاهدون. ويخـــــرج الثنـــــائي الأخير الفائز منتصراً, ناجياً في الاختبار الجـسدي, مرهقاً ذهنياً.

خفض وزن البدينين

يعرض Big Diet حالياً على شاشة التلفزيوني الهولندي التجاري SBS6. وتقضي فكرته بأن يُجمع طوال ثلاثة عشر أسبوعاً اثنا عشر بديناً, من الرجال والنساء, في قصر ليمبورغ, جنوب هولندا, وفرض نظام حمية قاس عليهم. وكل أسبوع يُقصى الذي خسر وزناً أقلّ. ولمضاعفة القسوة, يتعرّض المشاركون للأطباق الشهية, خاصة البيتزا. وفي النهاية يفوز الذي خسر أكبرعدد من الكيلوغرامات بما يعادله ذهباً. ويدفع المبلغ على دفعتين: نصفه في نهاية البرنامج, والنصف الآخر بعد أشهر لمعرفة ما إذا حافظ الفائز على وزنه المنخفض.

تعرّض هذا البرنامج لانتقادات شديدة. الاختصاصيون في الغذاء أشاروا إلى خطورة هذا النوع في خفض الوزن, الأمر الذي نفاه منتجو البرنامج الذين أكدوا أنهم يستشيرون اختصاصيي نظام حمية ومدربين رياضيين وطبيباً نفسياً, وأنه ما خلا أيام الآحاد يحضّر طاه وحبات الطعام.

نحو مليون هولندي يتابعون يومياً أولئك المشاركين في البرنـــامج الذين يظهرون ثلاث مرات يومياً على الشاشة لمدة نصف ساعة كل مرة.

سادّية ـ مازوشية مضبوطة

هذا البرنامج تنتجه في الولايات المتحدة الأمريكية شبكة (يونايتد بارامونت) الموجهة إلى الجمهور الشاب, ويشارك فيه شابان وفتاتان مقيدون بسلاسل في معاصمهم وأرجلهم, ويقودهم مشترك خامس, أو مشتركة. ولا يحرّرون من السلاسل إلاّ لقضاء حاجاتهم والاستحمام, وهم معظم الوقت يرتدون لباس البحر أو لباساً صيفياً خفيفاً. يتناولون وجبات الطعام مقيّدين, وينامون معاً في سرير عرضه خمسة أمتار, ويذهبون إلى السينما مقيدين أيضاً.

ويقصي قائدهم المشاركين واحداً خلف الآخر تبعاً لتقويمه الذاتي.

البرنــــامــج ذو الطابـــع الساديّ ـ المازوشـــيّ لا يتجاوز الحدود المقبولة لدى تلك المجتمعات, فلا يتصرف المشاركون على الشاشـة على نحو غير أخلاقي أو صادم. والذي يســـتمرّ حتى النهاية لا يُعدّ بالضرورة رابحاً إلا إذا أرضى تماماً مزاج (القــائد), والجائزة بضـعــة ألوف الدولارات!

 

جورج كعدي







عزيز الفرنسي من أصل عربي أصبح نجما بعد مشاركته في البرنامج





مشاركون في (لوفت ستوري) يقلدون أحد الأفلام





أطفال فرنسيون يشاهدون البرنامج





لقطة من البرنامج الأمريكي





البرنامج الهولندي (خفض الوزن)