مساحة ود

مساحة ود
        

رجل أصيل

          عندما سألته ما الذي يربطك بها، أجابني: يا حبيبتي قلت لك مرارًا أنا رجل أصيل، والأصيل لا يرمي الحجارة في البئر التي شرب منها، ولا يخون البيت الذي شارك أهله الطعام والشراب. قلت له: لكنك ارتبطت معي بالحب أيضًا، وشاركتني ماء القلب وملحه. أنت دخلت بيت قلبي، وانزرعت في كل ركن منه ذكرى منك وهمسة ووعد. ردّ عليّ بحدّة وجفاء: أعرف أني أحبك، ولكني لا أقوى على خيانة الخبز والملح، افهمي أنا أصيل، أصيييييييييل... عندها تمنيت لو أن الأرض تخسف بي إلى سابعها، وتصهرني نيرانها لأني أدركت متأخرًا جدًا أني لم أقع في حب رجل أصيل، بل هو أشعب أصيل، لا يقوى على خيانة طعامه ومعدته، ويتباهى بخيانة أحاسيسه وقلبه.

          هو رجل يخاف من حبنا، يخاف من وجوده معي، يخاف من الأيام، يخاف من وعوده، ويخاف، ويخاف حتى من نفسه، وأعذاره دائمًا جبانة، لهذا أردت أن أعرف مَن يكون، وطلبت إليه أن يحدّثني عن أكثر أمر أثّر به في حياته، عدل وضعية جلوسه، شمخ برأسه وأنفه ثم قال: أنا سليل رجال أبطال، وأم تستحق أن تكون الجنة تحت قدميها. أبي وجدّي حاربا الاستعمار، وكانا من أبطال الثورة، أمضيا معظم حياتهما في الدفاع عن شرف العروبة وعن قضية آمنا بها. أما أمي، فقد كانت تعمل على إيصال المؤن للثوار وتضميد جراحهم. لا أخفيكم، تملكتني سعادة عارمة، شعرت بفخر، قلت له أكمل. ثبّت نظراته على الأفق البعيد، وتابع: تصوّري أن أبي وجدي - وبعد خروج المستعمر من بلدي - ذهبا إلى البلد المجاور لنا وحاربا مع ثواره من أجل الحرية، أنا سليل رجال أبطال. تصوّري أن شهامتهما ونخوة الرجولة لم تسمح لهما بقبول المكافأة، التي كانت تلك البلد قد منحتها لهما نظير تضحيتهما واستبسالهما في سبيلها. وأكثر من ذلك، أذكر أن وصية جدي لأبي قبل وفاته كانت ألا يضعف أمام إغراء المادة، ويبيع تضحيتهما واستبسالهما بأي ثمن. اغرورقت عيناي بالدموع، وهمست في أذنه: أحمد الله أنك حبيبي، وتابعت مازحة: يا جبان، آباؤك تحمّلوا الموت من أجل حبهم لقضيتهم، وصانوا بلادهم، وأنت تخاف حتى أن تعلن حبّنا وتصونه؟!!!! أجابني بجدية ساخرة: هيه، غبية، أنا قلت لك جدي كان رجلاً وأبي كان رجلاً أيضًا، لكني أبدًا لم أقل لك إنني مثلهما.

          باختصار أقول: كلها دروب مشى عليها موكب جنازته إلى قلبي.

 

ريم ياسين