اللغة حياة

 اللغة حياة
        

التطوّر اللغويّ المركّب

          من الكلمات العربيّة ما يمرّ بمراحل متعدّدة: مرحلة النشوء والتطوّر داخل اللغة نفسها، ومرحلة الانتقال إلى لغة أخرى، ومرحلة الرجوع إلى العربيّة من طريق التعريب. ومن هذا القبيل   كلمات مشهورة ذكرها الدارسون مثل كلمة «كَبْل» câble, cable ويظنّ بعضهم أنّ أصلها عربيّ هو الحبْل، وقد أخذتها بعض اللغات الأجنبيّة بمعناها العربيّ نفسه لكنّها جعلت لفظها مختلفاً، ثم طوّرت معناها ومحضتها دلالات جديدة، منها السلك الكهربائيّ الضخم، فاستعملها العرب بلفظها الأجنبيّ وبتلك الدلالة الأجنبيّة الجديدة أيضاً. ومثل كلمة «أميرال» وأصلها عربيّ هو أمير البحر، اقترضته بعض اللغات الأجنبيّة بمعناه العربيّ، ثم استخدمت بعض الجيوش العربيّة اللفظ الأجنبيّ دون العربيّ، وبعدها استعاضت منه بمصطلحات عربيّة أخرى. ومثل كلمة «الصُوفة» sofa أو «الصوفيّة»، وهي مأخوذة من  - الصُفّة التي تعني في العربيّة المَقعد المحشو، لكنّ العرب يستعملون اليوم، ولاسيّما في العاميّة أو في اللغة القصصيّة، اللفظة والمعنى الأعجميين، أي الصوفة التي تعني مَقعداً مرتفعاً له مسند ومتَّكآن، ويتسع لعدّة أشخاص، ويمكن أن يُتّخذ سريراً للنوم. ومنها الكلمة المصرفيّة «شيك»، التي يقدّر بعضهم أنّ أصلها عربيّ هو الصَكّ، لكنّ العرب اليوم يستعملون اللفظ الأجنبيّ لأنّ له معنى جديداً هو المستند الذي يأمر به صاحبه المصرف بدفع مبلغ من حسابه، لنفسه أو لغيره. ومثل «الموسلين» الذي أصله الثوب المَوْصِليّ، ويعني في الأجنبيّة ضربًا من القماش الناعم الخفيف من قطن أو حرير أو صوف، وهو مستعمل اليوم عند العرب بهذا المعنى وباللفظ الأجنبيّ. صحيح أنّ أكثر تلك الألفاظ عاميّة أو مهنيّة، لكن لو أراد قاصّ أو صحافيّ، مثلاً، أن ينقل حديثًا أو وصفًا يتّصل بها، فلا بدّ له من استعمالها، لأنّ من الصعب جدّاً أن يعود إلى أصولها العربيّة، بسبب تطوّر المعنى.

          ونتوقّف هنيهة عند واحدة من تلك الألفاظ، هي لفظة «السرايا» أو «السراي»، بمعنى القصر، التي يختلف الإعلاميّون في أمرها؛ فبعضهم يذكّرها، وبعضهم يؤنّثها بوصفها جمعًا لغير العاقلين، والحقيقة أنّ لكلا الرأيين ما يؤيّده:

          فالذين يذكّرون الكلمة يعاملونها بوصفها معرّبة عن كلمة serail الأوربيّة التي تؤكّد يعض المعاجم أنّها من أصل إيطاليّ يعود إلى القرن الخامس عشر هو serraglio وأنّ الأتراك أدخلوها في لغتهم بلفظ «سَراي»، وتعني قصر السلطان؛ حتّى إنّ من يذكّرها يكتبها، أحيانًا، باللفظ الأخير. لكنّ هناك من يؤكّد العكس وهو أنّ الإيطاليّين هم الذين أخذوا اللفظ عن الكلمة التركية: سراي، وأن الكلمة في اللغة الفارسية أيضاً، وهنا يبرز احتمال أن يكون الترك أو الفرس أخذوها من العربيّة.

          والذين يؤنّثونها يردّونها إلى أصل عربيّ هو: سرايا، جمع سَريّة، لزعم بعضهم أنّ مبنى السرايا في بيروت كان ثكنة عسكريّة. ونحن نستبعد ذلك الربط بين الثكنة والسرايا لأنّ الكلمة مستعملة بمعنى قصر في كثير من البلاد العربيّة، وذلك بتأثير من الأتراك، وبيروت لا تحتكر «السرايات»، بل في لبنان عدد منها، ويقال إنّ أحد المتصرّفين بنى في كل بلدة لبنانية كبيرة سرايا؛ واليوم ما زالت بعض الأبنية الحكوميّة الكبيرة أو قصور العدل في لبنان تسمى سرايا أو سراي؛ وكان المصريّون يسمّون «قصر عابدين»، مثلاً، وهو قصر الملك، بسرايا عابدين؛ وظلّ ذلك القصر يسمى سرايا حتّى بعد أن غدا قصرًا جمهوريًا، وكانوا يسمّون أيّ قصر من قصور الباشاوات بالسرايا أيضاً، حتّى إنّهم استعملوا الكلمة بمعنى البيت الفخم؛ وشبّه اللبنانيّون البيت الواسع بالسرايا.

          والحقّ أنّ الموضوع محيّر، وذلك للأسباب الآتية:

          أوّلاً: صحيح أنّ من طريقة العرب أن يضمّنوا بعض الكلمات معاني قد تخالف أجناسها وأعدادها، وهو ما يمكن أن يدخل في ما يسميه اللغويّون «الحمْل على المعنى»، ومن هذا القبيل تذكيرهم لكلمتي «البِقاع» و«الأغاني»  إذا أرادوا سهل أو وادي البقاع في لبنان، وكتاب الأغاني للأصفهاني، مع أنّ الكلمتين جمع لغير العاقلين؛ ومنه إفرادهم للرياض إذا أرادوا مدينة «الرياض» في المملكة السعوديّة، وهكذا. فإذا افترضنا أنّ «سرايا» جمع تكسير أمكن قياسها على ذلك لأنّ المراد بها معنى القصر. ذلك صحيح، لكنّ وزن «فعالى» من الأوزان التي لا يمكن أن توحي غير الجمع، على حين أنّ وزن «فِعال» يمكن أن يدلّ على مفرد مذكّر، وأنّ وزنًا قريبًا من «أفاعِل» هو «أُفاعِل» يكون للاسم والصفة المفردين المذكّرين.

          ثانياً: لكنّ الاستعمال لا يدلّ على أنّ «سرايا» جمع لأنّهم جمعوها على «سرايات» فأطلقوا على منطقة في القاهرة اسم «بين السرايات» وسمّوا أقسام «قصر المنيل» في القاهرة نفسها سرايات، وكُتب في محاضر الجلسات الحكوميّة كلمة «السرايات»، إلخ. وذلك يعني أّنهم لم يريدوا بسرايا جمع سَرِيّة لأنّ جمع (فعيلة) على (فعالى) لا يصبح في جمع الجمع (فعالات) فلا يقال، مثلاً: ضحيّة ضحايا ضحايات، بل هم يريدون، على الأرجح شيئاً آخر.

          ثالثاً: وذلك الشيء هو جمع كلمة «سراي»؛ وقد ورد في معجم «تاج العروس» عند شرح معنى «سرقسطة»، التي في خوارزم قول الزبيديّ: «ولعلّ هذا الأخير سراي قسطة، بإضافة السراي إلى قسطة؛ وقسطة اسم رجل، نُسب إليه السراي». واستعمال الزبيديّ  لهذه الصيغة قرينة قوية على أنّ الكلمة مذكّرة ولا تنتهي بألف. إلاّ أنّ ما يدعو إلى التحفّظ، هنا، هو أنّ الاسم الذي يكون على وزن «فَعال» وينتهي بياء، تقلب ياؤه همزة، مثل بناي، الذي يصبح بناء.

          رابعًا: لأنّ تعريب الكلمة بزيادة هاء (تاء مربوطة) عليها، كما ورد في بعض المعاجم، فيكون جمعها «سرايات»، لا يحلّ المشكلة، لأنّ لام وزن «فَعالة» لا تكون ياء، مثل: عَماية وعَباية، إلاّ إذا كان الفعل الماضي منتهياً بياء أو همزة: عميَ وعَبأ، وفعل سَرى ينتهي بألف مقصورة.  والنتيجة أنّ أمامنا حلاًّ  من اثنين: أن نضمّن كلمة «سرايا» معنى القصر، فنذكّرها على الرغم  مما يوحيه تذكيرها من عجمة، ولاسيّما في قولنا: «السرايا الكبير»، أو أن نعدّها كلمة أعجميّة دخيلة بلفظ «سراي» ونعاملها كاسم قرضاي وباي (باي تونس)، وما أشبه ذلك من الأسماء الأعجميّة. ولا يحسن بنا اعتبارها جمعاً، ونحن نعلم أنّ جمعها سرايات، وأنّ المفرد سَراية لا يستقيم في الميزان الصرفي. والمفضّل، على كل حال، أن يقال القصر الحكوميّ أو الجمهوريّ أو الملكيّ أو قصر العدل أو ما أشبهه، فذلك أبسط وأوضح، ويجنّب الإعلاميّين الجدل اللغويّ.

 

مصطفى الجوزو