جمال العربية

  جمال العربية
        

نازك الملائكة زنابق صوفية للرسول

          برحيل نازك الملائكة، تطوى صفحة أكبر شاعرة عربية في القرن العشرين، بل لعلها أكبر شاعرة في تاريخ الشعر العربي كله. وقد احتلت نازك مكانها ومكانتها في موقع الريادة من الحركة الشعرية الحديثة، التي سُمّيت بالشعر الجديد والشعر الحر وشعر التفعيلة. ولم تكتف بالمشاركة الإبداعية في تيار هذه الحركة، بل شاركت بوعيها النقدي وشاعريتها المتمكنة، وثقافتها الأدبية والفنية واللغوية والموسيقية في التأسيس لهذه الحركة بكتابها المبكر «قضايا الشعر المعاصر» الذي تقول عنه: «وقد درستُ فيه الشعر الحر دراسة خاصة مفصّلة، ووضعت له عروضًا كاملاً اعتمادًا على معرفتي بالعروض، وعلى قوة سمعي الشعري، وعلى كثرة قراءة لشعر الزملاء من الشعراء». كما شاركت بوعيها وحسّها النقدي في دراسة تطبيقية فريدة تكتبها شاعرة عن الشاعر علي محمود طه، وهي الدراسة التي كانت في الأصل مجموعة محاضرات ألقتها على طلبة معهد الدراسات العربية العالية بالقاهرة - وهو الشاعر الذي تأثرت بشعره في مطالع صباها هو ومحمود حسن إسماعيل من مصر، وبشارة الخوري وبدوي الجبل وعمر أبو ريشة وأمجد الطرابلسي من لبنان وسورية - وقد نُشر الكتاب في طبعته الأولى القاهرية باسم «شعر علي محمود طه»، وفي الطبعة الثانية البيروتية باسم «الصومعة والشرفة الحمراء».

          ولقد بدأت رحلة نازك الملائكة مع الشعر من خلال مجموعتيها اللتين تُعدّان مطوّلة واحدة عنواناها: مأساة حياة وأغنية الإنسان، لم تُنشرا إلا في مستهل السبعينيات (1970) بعد نشر عدد من مجموعاتها الشعرية، التي حققت لها شهرتها ومكانتها الرائدة وهي: عاشقة الليل، وشظايا ورماد، وقرارة الموجة وشجرة القمر، واختتمت هذه الرحلة بدواوينها الثلاثة الأخيرة: للصلاة والثورة، يغيّر ألوانه البحر، الوردة الحمراء.

          ومن عالم الذات ودائرتها الضيقة المغلقة، المسكونة بالظنون والهواجس والقلق والشك إلى عالم الانفتاح الوطني والقومي، إلى الدائرة الإنسانية الأرحب والأعمق، اغتنى شعر نازك بثمار حياتها الممتلئة، وفيض تجاربها وخبراتها المتراكمة، وأسفارها وتجوالها وتأملها في عواصم الشرق والغرب، وبخاصة سنوات الدراسة في أمريكا (ابتداء من عام 1954 والإعداد للماجستير في الأدب المقارن، والتنقل بين إنجلترا وإيطاليا وجنوب فرنسا، والإقامة في بيروت (1959 - 1960) والزيارات المستمرة للقاهرة، التي اختارتها دارًا للإقامة طوال سنواتها الأخيرة، التي شهدت صراعها مع المرض الأخير، قبيل رحيلها في يونيو الماضي.

          لكن برْقًا كاشفًا أومض في الأعمال الشعرية الأخيرة لنازك، وبخاصة ديوانها: «للصلاة والثورة»، و«يغير ألوانه البحر»، حيث بدأ التوتر الروحي في وجدانها يعزف باقة من أعذب الأوراد والتراتيل، هائمة في آفاق الحب الإلهي حينًا، وفي جلوات الأفق المحمدّي حينًا آخر. وتتأكد إضافة نازك - في هذا اللون - من خلال حرصها على عصرية التناول، والبعد عن تكرار المألوف والمعهود من إبداعات القدماء في شعر الوجد الإلهي والمدائح النبوية، وبزوغ صوتها المتفرّد، المثقل بعذابات العصر ونوعية همومه وثقل مطالبه وتوجهاته، الأمر الذي انعكس على لغة نازك ومعجمها الشعري وعالمها المزدحم بالصور في صيغة جديدة على شعر نازك، أولاً، وعلى الشعر الروحي في ديوان الشعر العربي ثانيًا.

          تقول في قصيدتها «الهجرة إلى الله» من ديوانها: «للصلاة والثورة»:

عرفتُكَ في ذهول تهجدي، وقرنفلي أكداسْ
عرفتك في اخضرار الآسْ
عرفتك في يقين الموت والأرماس
عرفتك عند فلاح يُبعثر في الثرى الأغراس
وتُزهر في يديْه الفاس
عرفتُك عند طفلٍ أسود العينيْن
وشيخٍ ذابل الخَدّيْن
عرفتك عند صوفيٍّ ثرىّ القلب والإحساس
عرفتك في تعبّد راهبٍ في خشْعة القُدّاس
عرفتك ملء موج البحر يركض حافيَ القدميْن
وأهداب العيون الزرق واستغراقة الشفتينْ
عرفتُكَ في صدى الأجراس
عرفتُك ملء ليلٍ يُمطر الدنيا
خيوط رُؤى وعطْرَ نُعاس

          وصولاً إلى قولها في صيغة الابتهال العصري:

مليكي، أنت طعم الضيف في عُمْري
وأنت تألّق الأقمار
هواك كواكبٌ وبحار
طموحُ المدِّ أنت، وأنت سرٌّ تحرِّق الجُزِر
وأنت خُصوبةُ الأشعار
وأنت عذوبةُ الواحات في قفْري
وأنت تبلّجُ الأسرار
وأنت تدفّقي، أنت انبثاقُ الضوءِ والعطْرِ
نثرْتُ الخصْبَ واللؤلؤ فوق شواطئ الخُضْرِ
وفي روحي سكبْتَ النار
لك الأوراد والصلواتُ أنثُرها
فدى عينيْك يا ملكي، يواقيتي أكسّرها
وبين يديك أوراقي وأعوامي أُبعثرها

          وفي قصيدتها «زنابق صوفية للرسول»، تبدأ نازك من نقطة جديدة مغايرة لكل ما قيل من شعر المدائح النبوية - قديمه وحديثه - وتفصح هي عمّا تنتويه بقولها توطئة للقصيدة: «قصيدة حب للرسول الكريم في صيغة معاصرة». الوعي بهذه المعاصَرة، وبالصيغة المواكبة لها هو الهمّ الشعري الذي جعل نازك الملائكة تتجاوز فضاء شاعريتها المعهود إلى مدى أوسع وأرحب، لقد جاءها الرسول في صورة طائر جميل حطّ قربها، وامتلك قلبها، ودار بينهما حوار شعري لا يشبه أيّ حوار آخر، والصورة الشعرية تتسع وتتسع، والأفق المجدول من عناصر ومفردات وتخوم نورانية، يشرق كلّه باسْم أحمد، وبأريج الإسراء، وبطعم القرآن.

          تقول نازك:

البحرُ إغماء لحن حُبٍّ، البحُر زُرْقه
البحرُ طفلٌ مُسترسلُ الشَّعْرِ،
للضحى فوق مقلتيْه انكسارةٌ،
رفّةٌ، وشهقة
البحر تلهو عرائسُ الماءِ في تراميه أَلْفَ جوْقة
يلبسْنَ غيْمًا، ينشرن أجنحةً من ضباب
عرائسُ البحر ضيّعتْني
زورقَ شوقٍ هيمان في فضّة العُبابْ
وصيّرتْني
فراشةَ الرّغْو والسّحاب
وملء رُوحي وجهُ حبيبي
تسبيحةٌ عذبةٌ ونجمة
وبْردُ نسمة
وجهُ حبيبي أكبرُ من لا نهاية البحر من مداه
يسدُّ أقطاره الزُّرْقَ،
يطوى طيورَهُ، موجَهُ، رؤاهُ
وجه حبيبي: زنابقٌ، أكؤسٌ، مياهُ
وجهُ حبيبي، واللانهاياتُ عالمٌ واحدُ
ليس يُشْطرُ أو يتجزّأ
يا بحرُ قُلْ: أين ينتهي ذلك الوجه؟
قلْ أين أنت تبدأ؟
وجهٌ بحارٌْ أضيعُ فيها، وينطفي ضوءُ كُلٍّ مرفأ
ومقلتاهُ
أين تُرى تنتهي؟ وفي أي نقطةٍ تبدأ البراءة؟
وما حدودُ الألوانِ فيها؟
وكيف يمتصُّ منهما البحرُ ليْله؟
كيف يستعيدُ الضحى ضياءه؟
وجه حبيبي، يا بِرْكة الصحو الوضاءة
وجه حبيبي كَسَّرهُ الموجُ واقتناهُ
أشعّةً، زورقًا، شراعا
يحضنُ أفْقًا مُلوّثًا، يرتدي سماءه
وكان قلبي، وكان قلبي
يسبحُ عبَرَ استغراقةٍ خصْبة المرايا
في موج غيبوبةٍ وتيه، في حُلْمِ حُبٍّ
مُضيّعٍ في مُروج هُدْب
يجوبُ لُجَّ البحور بحْثًا،
عن لؤلؤِ ناصعٍ فيهما في قلب حبيبي
من ألق السرِّ، من عطورٍ، ومن خفايا
من نغمٍ دافئِ الهبوبِ
يتمتمُ النبْعُ فيه، وتنساب ريحُ الجَنوبِ
كنتُ على البحر، أُترعُ البحْرَ من مُنايا
وجاءني طائرٌ جميلٌ وحطَّ قُرْبي
وامتصّ قلبي
صبَّ على لهفتي السّكينة
ورشّ هُدْبي
براءةً، رقةً، لُيونة
وقلتُ: يا طائري، يا زَبرْجد
من أين أقبلْتَ؟ أيُّ نجمٍ أعطاكَ لينه؟
يا نكهةَ البرتقال، يا عطر ياسمينة
وما اسْمكَ الحلو؟
قال: أحمدْ
وامتلأَ الجوُّ من أريج الإسراءِ،
طعْم القرآن،
وامتدّ فوق إغماءة البحرِ ضوءٌ،
من اسْمِ أحمد
وقلتُ في لهفة أتوسّلُ: أحمدُ، أحمد!
ناشدْتُكَ الله، لا تتساقطْ غُبار نجمٍ مُفتّتْ
حُلْمَ عابدةٍُ في الدُّجى يتبدّدُ
عيْناكَ ليلة قدْري وريشك شمعٌ ومعبدْ
واسْمُكَ يا طائري أَعذبُ اسْمٍ: أحمد، أحمد
أحمدُكانت عيْناهُ بحْرًا
تسْعَى يباب الوجود، كانت تنشرُ عطرا
تنبت في الصخر مْرج شذًى وأقحوانِ
تسيلُ نهرا
من زعفرانِ
أحمدُ قد كان يانعًا تنتمي الدوالي إلى جبينه
وفي عُيونه
نكهةُ أرضي، وطعم نهري، وعطرُ طينه
أحمد قد لاذ بي، ونمّى أهدابَ لحْني
في وَلهٍ راعشِ الحنانِ
أحمد من ضوئه سقاني
أحمد كان البخور والشمْعَ في رمضاني
أحمد كان انبلاج فجرٍ، وكان صوفية الأغاني
وأحمد في مروج تسبيحةٍ رماني
كلا جناحيْه بعثراني
كلا جناحيْه لملماني
من أَبدِ الضوءِ جاء أحمدْ
من غابة العطر والعصافير هلَّ أحمد
عبر عطور القرآنِ، عبْر الترتيل والصومِ شَعَّ أحمد
من عُمْق أعماق ذكرياتي
من سنواتي المُخْتبئاتِ
في شجر السَّرْدِ، من عطور الخشخاشِ واللّوْزِ
وجهُ أحمد
يا طائر الفجر،
يا جناح الزنابق البيض،
يا حياتي
يا بُعدي الرابعَ المُوسَّدْ
في أُغنياتي
يا طلْعةَ المشمشِ المُورّدْ
في زمني، عبْرَ نهر عمري، في كلماتي
أحمدُ، أحمد!
يا لونُ، يا عُمقُ، يا وجْنَة السرِّ، يا انفلاتي
من جسدي
من سلاسلي
من ثلوج ذاتي
من كلِّ أقفالِ أُمنياتي
يا طائر الصمت، والغموض الجميل، يا شمعدان معبد
أنت المدى والصعودُ،
أنت الجمالُ والخِضْبُ
أنت أحمد
يا رمضاني، يا سكْرةَ الوجد في صلاتي
يا وردتي، يا حصاد عُمري، يا كُلَّ ماضٍ، يا كُلَّ آتِ
ويا جناحي نحو سمائي ونحو ربي
يا قطرة الله في شفاه الوجود، يا ظُلّتي، وعُشْبي
انقرْ تسابيح صوفيةً من على شفتيّا
بَعثرْ قَرائِن بيضًا وخُضْرًا في صحْن قلبي
يا سُبُحاتي،
يا صوم أُغنيتي،
ويا سُنبلاً طريّا
إني أنا حُرقة المتصوّف في غَسقِ الفجْرِ
أحمدُ، أحمدُ
هل أنت إلا طائرُ ربي
يا ثلْجَ صيفي، يا لينَ سُحْبي
يا ضوء وجهٍ يطلعُ لي من كُلِّ جهاتي:
شرقي وغربي
ومن شمالي ومن جنوبي، من كلّ تعريشةٍ ودَرْب
يطلع أحمد، يطلع أحمد، وجها نبيّا
مُلفّعا بالغناءِ، والأنجم الشمالية المُحيّا

          ثم تقول نازك الملائكة في قصيدتها الطويلة النَّفَس:

أحمد يا توْقَ مُقلتيْنِ
مُضيئَتيْنِ
خاشعتيْنِ،
بالسرِّ والعمقِ مملوءَتيْنِ
يا وتْرًا من قيثارة الله، يا وِرْدُ، يا بَحَّةَ المُؤذّنِ
يا أثراً للسجود ندّى جبينَ مُؤمنٍ
أنا: وأحمد
أنا وأحمد
سكون ليلٍ ورجْعُ تسبيحةٍ تتنهّدْ
يحبّنا البحرُ والهديرُ
تعشقنا موجةٌ وتُغازلُ أُغْنيتنَا
عرائسُ الماءِ، والصخورُ
نحنُ قرابينُ في المُصلّى، نحن نذُورُ
أنا وأحمد
نشوةُ قِدِّيسةٍ تتعبد
سطورُ حُبٍّ ممحوّةٌ خلْفَها سطورُ
نهرٌ مديدٌ ولا عُبورُ!

***

          ولقد استطاعت نازك أن تعبُرَ النهر، وأن تعود بصيْدٍ وفير من شعرها الروحيِّ، ونَفَسِها المُحَمّديّ، على غير مثالٍ سابق، تشقُّ طريقًا جديدةً وتُعبِّدها وتُطلق طيور قصائدها المحلّقة في كلّ اتجاه، إعلانًا عن شاعرية كبيرة، وريادةٍ مُتجدّدةٍ، ومكانةٍ باسقة.

 

فاروق شوشة