الفنان التشكيلي شفيق عبّود ربيع مبكِّر.. فاطمة الحاج

الفنان التشكيلي شفيق عبّود ربيع مبكِّر.. فاطمة الحاج

حساسية لونية متناهية الدقة/شفافية متناهية العمق/بساطة متناهية السمو/تقترب من اللوحة تتمتع/تبتعد عنها فتحلق. شفيق عبود فنان تشكيلي، عاش حياة ظروفها صعبة: إن كان على صعيد الوطن أو على الصعيد الشخصي، عاش حياة مليئة بتناقضات صاغت عناصر أساسية في لوحته.

طفولة حالمة، قصص الجدة الحكواتية، رحلات مع العائلة داخل لبنان وفي سورية، كل ذلك ترك أثرًا كبيرًا في حياته الفنية والعائلية.

أعمال لشفيق عبود في معهد العالم العربي في باريس في معرض استعادي لمجمل وأهم تجربة هذا الفنان اللبناني، هذا المعرض كان مقررًا في حياة الفنان الذي توفي في أبريل 2004م، وبعد عمل مضن ومعقد وفي صاحب غاليري كلود ليماند Claude Lemand، ولكن بعد سبع سنوات أي في عام 2011م، كان قد سبقه إصدار كتاب باللغتين الفرنسية والإنجليزية عن Editions CLEA Galerie Claude Lemand في سنة 2006م.

كما أنه أقيم له معرض استعادي ثان، في بيروت في شهري مايو ويونيو من هذه السنة، تنظيم غاليراهات:

أجيال وجانين ربيز, حيث يصف كلود ليمان أعمال الفنان بأنها أدخلت الفرح إلى الغاليري.

أعاد إليّ شفيق عبود من خلال أعماله، الحلم الذي يحلم به كل مواطن يحب أن يعمل لبلده، صالحني مع لبنان، بعد الفترة العصيبة التي مررت بها هناك.

كما أن أعماله جعلتني أدندن الأغاني اللبنانية، ومصادفة أن الناطور أخبرني بأن عبود كان يغني أثناء تلوينه.

يضيف كلود ليمان أن شفيق عبود عاد إلى بيروت سنة 1994 بمعرض شخصي، بعد انقطاع دام 16 عاما. في غاليري جانين ربيز، هذا المعرض كان بمنزلة عودته إلى الحرية من جديد، فأحيا أيام الطفولة، حيث زار أماكن عدة، يزورها مع أهله، من البقاع إلى صيدنايا ومعلولة وحلب، وكان يسجل انطباعاته بأعمال غزيرة ومنطلقة.

ذكريات ميشيل

ومع صديقته ميشيل روديار Michele Rodiere ندور في المعرض الاستعادي، حيث شريط ذكرياتها يمتد امتداد سنين مرافقته من سنة 1969 حتى وفاة الفنان.

نمر من أمام كل لوحة، تقف وتتذكر وبعض الأحيان تدمع:

  • هذه من وحي لقاءاتنا صباح الأحد. Dimanches croises.
  • وهذه أثناء وجودنا في منطقة Loire حيث أقمنا قرب أوتيل مهجور، شبابيكه وأبوابه خضراء، وتدمع عند لوحة Vive la banlieue Sud.
  • أمضينا أجمل لحظات معًا، وهذه اللوحة نفذتُ من خلالها سجادة، وقد تعلمت معه الحياكة، فقد كان يحاول دائمًا أن ينوّع في المواد ليغني مادته التعبيرية.

أمام هذه اللوحة تتنهد Michele، وتقول: كان يمر شفيق هنا بمرحلة صعبة جدًا.

لم نتعب من الوقوف أمام كل لوحة وبعض الأحيان نعود مرات عدة لنربط الأحداث ببعضها.

تستطرد Michele: كنا بعض الأحيان نذهب لمشاهدة عمل مسرحي إفريقي أو نتمشى سويًا في سوق St Pierre، تدهشه ألوان الأقمشة المعروضة هناك.

وبعض الأحيان يتمشى بمفرده في حديقة Parc Montsouris لساعات ويعود صامتًا، فلا أكلمه، أعلم أن شيئًا ما يتحضر في الداخل.

غنائية فنان

إن غنائية عبود هي فعل تراكم، وهي أيضًا وليدة اقتناص اللحظة البصرية. أما اللعب بمعناه الفلسفي، والحرية المرادفة والمؤسسة لهذا اللعب، فهو في صلب تكوين اللوحة.

حتى أنه كان يحب اللعب مع ابنته كريستين، فهي تتذكر كيف أن والدها كان يجسّد بعض الأدوار في مسرحيات يركبها مع ابنته الطفلة، كما لعب دور الحكواتي، صانعًا لها صندوق فرجة، يعمل بواسطة شريط قصصي يلفه ويضعه داخل الصندوق، ويبرمه بشكل تتسلسل منه مشاهد الحكاية، كما أن الفنان أمين الباشا عمل لها شريطًا مماثلاً أسماه: «الشيخ وابنه الصياد»، وأضاف كلمة «قصة حقيقية» تحتفظ بهما كريستين وكانت تعرضهما لابنتها مايا عندما كانت صغيرة وقد تعامل مع حفيدته كما ابنته وبعض الأحيان كان يذهب لإحضارها من المدرسة ويأتي بها إلى بيته.

تستذكر كريستين: كنا نخلق سويًا حكايات، وكأنها امتداد لحكايات جدته الحكواتية التي كان يعشقها، وتركت أثرًا كبيرًا في حياته.

طفولتي كانت استدعاء لطفولته الجميلة غير المعقدة، حتى أنني أعتقد أنه كان يحب اصطحابي إلى المحترف ويعطيني ألوانًا ويقعد يتأملني. كأن التعبير الطفولي كان حافزًا للتعبيرية العفوية عنده روائح الألوان لا تفارقني.

رافقته إلى لبنان وإلى بلجيكا حيث نفذ مجموعة أعمال ليتوغرافية (حفر على الحجر).

كان الأب المدلل، ولكنه في بعض الأحيان كان يجمع لي أخطائي، فينفجر دفعة واحدة، ولكن لا يفتكر أحد أن حياة والدي كانت سهلة وبسيطة وملؤها الفرح فقط، فهو قد مر بظروف صعبة ومعقدة إن من الناحية المادية أو الاجتماعية أو العائلية وحتى الغربة القسرية أثرت به، شخصية والدي كانت مركبة من أشياء متناقضة.

حالات واقع وخيال

لوحات عبود مستوحاة من حالات كان يعيشها واقعيًا أو بالخيال، يسجل: فتأتي الحالة الأولى، الحالة البكر. وعندما تأتي التالية، تأتي مختلفة، ولكنها هي، الأصالة. 91 لوحة لونية جمعها Gerd et Renate Lange في لوحة واحدة، لوّنت بالحس الأول، وأحيانًا كثيرة لحنين أول: من البيدر، إلى الخيمة، إلى مشاهداته لقريبات له عاريات، لقناطر وعناق، لتأمل واسترخاء.

كانت هذه الخواطر الأولى تتطور في الذهن، لتصبح أكثر تركيبًا وانصهارًا، تأخذ البعد الفلسفي اللوني، لتصبح عبود الآتي من لبنان إلى أحضان باريس وتناقضاتها، التي كانت تعج بكل تجليات الفن الحديث، وهي أيضًا باريس التي كانت في الوقت ذاته تمسح وتداوي جروح الحرب العالمية الثانية.

وشفيق عبود الآتي من لبنان، الرافض لدراسة الهندسة المدنية التي بدأها في لبنان ولم تعجبه، أصر على التحدي في أن يصبح فنانًا تشكيليًا.

وصل إلى باريس وصور «أبونا» و«صندوق الفرجة» و«عائلة كردية»، في ذاكرته، ولكن باريس التي تضج بالمدارس الفنية، والتسابق في البحث عن جديد، أثرت فيه.

لم يتأخر شفيق عبود في أخذ مكانه، فكانت أولى لوحاته التجريدية الهندسية في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي. ومن الواضح أن جذور هذه اللوحات الهندسية الهوى، موجودة في لوحات «المجانين» و«جدي» وغيرهما، حيث أشكال المستطيل والمربع واضحة في تأليفاته، مع البقاء على مجموعاته اللونية الرمادية الفنية، إنها بداية لمرحلة التفتيش خارج إطار التجسيد (Figuratif).

مقارنة هاتين اللوحتين تبرز علاقة لونية متلازمة، ولكنها منفلتة من حالة التجسيد الموجودة في اللوحة الأولى، مجموعة رمادية أخاذة.

ولكن مع نهاية الخمسينيات بدأت مرحلة اقتحام شفيق عبود لكل الألوان، حارة وباردة، ولكن جديدها هو انفتاح المساحات على بعضها، وانفلاتها من الحالة الهندسية والتجسيدية معًا.

استقر شفيق عبود في Rue de Parc 2 Montsouris، منذ سنة 1949، المكان الذي أثر كثيرًا في لونية الفنان.

كنت أعجب بألوانه الحارة وكيفية دمجها في لوحة واحدة (الترابي المحمّر مع الترابي المصفر) وعند مجيئي إلى باريس، كنت أزور هذه الحديقة دائمًا. وفي هذه السنة أيضًا ككل مرة، وكأن عبود مازال حيًا. لأنه هو بالفعل كذلك في داخلنا.

وككل مرة، يكبر الذهول بجمال المجموعة اللونية الخريفية في هذه الحديقة وكأنني لم أرها من قبل.

ولكن لم تكن الألوان الخريفية وحدها التي تتدفق إلى لوحاته، فشتاؤها حاضر كما ربيعها وصيفها، كما العرائس اللاتي يأتين بفساتين العرس لأخذ الصور هناك.

أما الأخضر الآتي من ربيع هذه الحديقة، فهو لون يميز عبود، لون يميل إلى الاصفرار، ففي لوحة Tendo، كان اللون الأمغر وكأنه المؤسس، يجمع ما تبقى من ألوان، وتأتي حالة هذا الأخضر المصفر لتضفي حالة من الشفافية وكأن حديثه مع باقي الألوان الموجودة في اللوحة متناغم وحالم. هذا الأخضر المميز عنده يتشارك مع الفنان Pierre Bonnard في استعماله الذي يعتبره عبود أباه الروحي في الحالة اللونية والغنائية التعبيرية.

أما اشتقاقات الرمادي، إن كان من Sepia أو من الأسود وتدرجاته، فكانت متناهية الروعة، تأخذك لوحته إلى عالم من البهجة، حتى الذكرى الأليمة تتحول إلى جمالية تشكيلية، لا تملّ من التأمل في مفرداتها المكتنزة فتدخل معه إلى عالمه الباطني واللاوعي، وحتى عندما يُقفل المساحة بواسطة مشحفة الواثق. في هذه اللوحة، تدخل المشحف لإغلاق بعض الذكريات التي بدت واضحة في أعلى اللوحة، ربما لأن أمه لم تمت إلا جسدًا.

ذكريات تفتتت ألوانًا، كما يشير عنوان هذه اللوحة Un pays, un matin, un cafe بلد، صباح، قهوة.

لوحة ألوانها لون واحد، لون الطحالب التي تعلق على الصخور، عند قهوة داوود على البحر التي كان يرتادها شفيق عبود.

يقول كلود ليمان إن هذه اللوحة هي من تداعيات ذكرى الحرب الأهلية في لبنان، حيث إن الفنان كان قد اعتاد الذهاب إلى لبنان كل سنة ليدرّس في الجامعة اللبنانية، ويقيم معارض في بيروت.

وكان يحب ارتياد الأماكن الشعبية كقهوة الزجاج في وسط بيروت والسان بلاش (الشاطئ الشعبي غير المدفوع). La ville naufarge Beyrouth

لوحة، تتميز بصراخه من خلال ضربات فرشاته في أول اللوحة وضرباته المتقطعة بين الرمادي والبني المحمر. وفي أعلى اللوحة شختورة طفل تائهة. تألم عبود كثيرًا عندما سقطت بيروت بين أيدي مسلحي أبنائها. بعدها لم يعد شفيق عبود إلى الجامعة اللبنانية، التي أحب، ليدرّس فيها.

وقسمت بيروت وقسمت جامعتها معها، قرر عبود الابتعاد عن القسمة، لأنه لا ينتمي إلا للوحدة التي لم تعد موجودة.

ابتعاد عبود عن وطنه لبنان كما عن الوطن العربي ككل، لم يكن ابتعادًا روحيًا، فأحداث هذه المنطقة كانت تؤلمه. كما أن الفرح كان يسعده إن وجد وخاصة في تلك الفترة بالذات.

إن لوحة (5Juin) خمسة يونيو سنة 1967, والكل يعرف اعتداء إسرائيل على كامل الأراضي العربية من مصر إلى سورية والأردن.

لوحة مقسّمة إلى ثلاثة أجزاء غير متساوية. الجزء الأكبر موجود في الوسط، والذي طبع عليه 5Juin، أما الطرفان فمتساويان، والجامع بين هذه الأجزاء هو المجموعة اللونية السوداء، والتأليف المتميز بخطوط انحنائية، أفق مفتوح في الطرفين ولكن على الأسود، أما الوسط فهو مقفل بخطوط أفقية وحادة.

يعلق كلود ليمان بأنها تذكر بتراجيدية الأيقونة المسيحية المؤلفة أيضًا من ثلاثة أجزاء ومطبوع في الوسط: INRI يسوع الناصري ملك اليهود.

في قلب الحدث

تقول Michele إنه دائم الاستماع إلى موسيقى آتية من الشرق لأم كلثوم وفيروز ويرندح أحيانًا في محترفه، أعتقد أنها آتية من الترانيم الأرثوذكسية.

فشفيق عبود، نحلة تسعى لجمع رحيقها من أزهار شتى.

تضيف Michele أنه لا يذهب إلى أي مكان متعمدًا الرسم من خلال المكان أو الحدث، فهو ذاته لم يكن يعرف ولماذا تبقى بعض الأمور عالقة في مخيلته، وما راكمته الحالة اللاواعية، حتى يتحول بعد ذلك إلى حالة لونية مختلفة عمّا رآه.

لوحة عبود هي مرادفة لحالة الحرية، فهو رفض القيد منذ بداية حياته: قيد الهندسة، وقيد البقاء في بلده في كنف العائلة غير المقتنعة بدراسته للفنون، مع العلم بأن والده كان يصطحبه إلى محترف قيصر الجميل في بكفيا قرب المحيدثة (حيث ولد)، لتعلم فنون الرسم والتلوين وهو في عمر 12. فطلباته كانت تلبى لا لأنه مزاجي، بل لأن صفاء الحدْس كان آخذًا في التجذّر.

أقام عقدًا مع غاليري Raymonde Kazenave، وتولت وضع أعماله في المزادات العلنية، كما كان أول عربي يشارك في بينال في باريس سنة 1959.

ولكنه أنهى العقد مع هذه الغاليري لأنه لا يحب القيد كما تشير Michele.

وسبب تركه لغاليري Protee كان مشابهًا في القيد وليس في السبب. وما تفتيشه عن تقنيات متنوعة ومختلفة إلا ويصب في إطار توسيع دائرة تحركه: عمله في حياكة السجاديات والحفر والصلصال (نفذ عملاً من ثلاثين مترًا مربعًا مؤلفًا من النحاس والصلصال والسيراميك في بلدية باريس)، بالإضافة إلى الخزفيات والليتوغرافيا ومواد مختلفة أخرى.

عرض في غاليريهات عدة ومن ضمنها غاليري بريجيت شحاده وضاح فارس وجانين ربيز إلى غاليريهات عديدة في أوربا سنة 1997، استقر عبود في كلود ليمان في باريس مع العلم بأنه تابع عرضه في غاليري جانين ربيز سنة 1999.

أمور عديدة جمعت شفيق عبود وكلود ليمان: الوطن الواحد والغربة والحنين وحب كلود لفن شفيق عبود.

كان يعمل بصمت، لا يكلم أحدًا أثناء وجوده في المحترف متهيئًا للعمل: يحضر قهوته بيده على الطريقة اللبنانية وينشغل بلف سيجارته وهو سارح عبر تأملات لونية متحضرًا لحدس عمل آت. وما الانكباب على تحضير ألوانه بيده إلا مقدمة للدخول في الحضرة اللونية.

عرفت ذلك عندما كنت تلميذة في صف شفيق في الجامعة اللبنانية، حيث أدخل الصف، بخجل من أستاذ يسبق طلابه: «الوزرة» على الصدر، منكبًا على تحضير ألوان من بودرة الألوان الخام، ليحولها إلى غواش أو تمبرا أو زيت.

وإن احتجنا إلى جواب من خلال طرحنا لسؤال ما، فإن الجواب لا يترك شاردة ولا واردة. الانغماس بالشرح حتى المتعة، يكفي أن يشير ويعمل أمامنا كي تكوّن المفردات، التي لم نتعود عليها من قبل.

هادئ يتأملنا بعمق وصمت، كأنه يريد أن يقرأ ماهية مخزوننا كي يعطي ما يحتاجه كل منا.
-------------------------------
* فنانة وأكاديمية من لبنان.

 

فاطمة الحاج*