تداعيات على مساحة الذاكرة.. ثقافة الحوار في أندلس العرب إبراهيم بيضون

تداعيات على مساحة الذاكرة.. ثقافة الحوار في أندلس العرب

التاريخ ليس مجرد عبرة قاسية على الدوام في رحلة الأندلس المليئة بالأسرار, إذ يصبح نقطة الضوء التي تندلع في فضاء العقل, فنقرأه بوعي الحاضر كمادة محفزة, لا مجرد أمجاد من الزمن الغابر.

كان يوماً مشهوداً لم يغادر قط الذاكرة, إذ تناهى إلى النوم خبرٌ صاعق, نشر الكآبة على الوجوه التي اعتادت الفرح, وكأنها النهاية, اضطربت بها النفوس وقد تراءى هول القادم من الأيام, سقطت حينئذِ طليطلة, فيما الحركة مائجة وراء (البربنيه) تتحفّز لغزو المشرق العربي, من دون أن تكون المصادفة بريئة, أو تكون عاصمة (القوط) القديمة خارج ذلك الصخب وتداعيات المرحلة التي رهطت بما هو أكثر خطورة على مساحة الأندلس في ذلك الحين. لقد قرأ ذلك بعمق الشاعر (ابن العسّال), مكتنهاً معنى السقوط لـ(الثغر الأدنى), قبل (الثغر الأعلى) (سرقسطة), المتاخم لمعاقل الإسبان في الشمال, ومطلقاً إنذاره الشهير بدعوة القوم إلى التأهّب للرحيل.

رموز عملاقة

مرّت قرون ولم تتحقق النبوءة, إلاّ أن الأندلس العربية كانت لاتزال آخذة في الضمور, على الرغم من الدعم الآتي من الضفة الأخرى للبحر, يرفدها بمادة الصمود ويبعث بها الصحوة تلو الصحوة من براثن اليأس. ولكن النبوءة أثبتت صحتها على المدى البعيد, بسقوط غرناطة, آخر المواقع العربية في الفردوس المفقود, فغادره القوم على أنهم عائدون قريباً إليه. والمكان ينأى بعد ذلك, ولكن ليس عن الذاكرة المتوهّجة, مستعيدة بشغف التفاصيل, ومسكونة بالدوي يخترق السجف إلى فضاء تلك الأيام ورجالها القادمين على الصهوات: من طارق وموسى والغافقي والثلاثي الأموي عبدالرحمن, إلى موسى الآخر, عاشق غرناطة, وبقية الرموز المتعملقة في تاريخ عاصف مديد.

ولكن الحزن ليس مادة التذكّر الوحيدة لأولئك الذين غادروا الأندلس وعاشوا على الضفاف يسترجعون الماضي أو يذهبون إليه...فثمة نقيضه ما يُستعاد, تراثاً حضارياً زاهياً, ظلّ يخفق في شرايين الأزمنة ويتحدى محاولات الارتداد عليه. لقد (وجدت اللغة الإسبانية نفسها مضطرة طيلة مرحلة نموها, إلى أن تأخذ من العربية كل ما ينقصها... للتعبير عن المفاهيم الجديدة, لاسيما في مضمار المؤسسات والحياة الخاصة). حسب تعبير المؤرخ الفرنسي ليفي بروفنسال. والشعر ما برح في نبض المسافات, يتألق أقطابه في القصور والمجالس, أو يرودون الأصائل على ضفة (الوادي الكبير), فلا يتورّع الفقهاء عن الخوض فيه, ولا (الملوك) عن التباهي به, فيما الناس العاديون لا تخلو حقائبهم منه. كان الشعر ظاهرة الأندلس, يعبّر عن الفرح, ويعكس البيئة الجميلة, مختزناً الكثير من معالمها ومفرداتها وأيامها الزاهيات, هذا التراث فكراً وأدباً وفناً, وعلوماً متنوعة, لم يسكن في الوعي التاريخي فحسب, بل كان لايزال في الذاكرة متصلاً بشغاف الوجدان, ممتزجاً فيه الأسى بالفخار, والحنين بالمجد, والبكاء على الأطلال بالحكمة والإبداع وألق العقل.

الأبواب السبعة

بداية كان (الفتح) وقد ماج بالأساطير لهالته واندراجه في ما يسُمى التاريخ (المنقلب) في التوصيف الخلدوني, مرتبطاً بقوى غيبية وقفت إلى جانب المنتصرين في (وادي لكّة)... نقرأ ذلك في الرواية الإسبانية, وكأن ما حدث هو عقاب إلهي للملك القوطي (رودريك) المتغطرس, الذي اغتصب السلطة وتحدى التقاليد, بفتحه (الأبواب السبعة) المحظورة في طليطلة, حيث كان آخرها ما ينبئ بشرّ مستطير, جعلوه مطابقاً للهزيمة التي حلّت بهم على يد العرب المسلمين. وتنهال بعد ذلك الأساطير التي ربما كان بينها ما تردّد عن حرق طارق بن زياد للمراكب بعد عبوره إلى الشاطئ الإسباني, واضعاً جنوده أمام خيار القتال حتى الموت, ولم تكن آخرها تلك الرواية التي أسهبت عن كنوز طليطلة المحمولة بعد الفتح إلى الخليفة الوليد, وكانت سبباً في نكبة موسى بن نصير على يد خليفته سليمان في ظلّ ظروف غامضة.

فبدا الأمر وكأنه إحدى المعجزات, إذا توقفنا خصوصاً عند الرواية العربية, وهي ليست مختلفة عن رواية (الأبواب السبعة) السالفة, إذ جاء فيها أن طارقاً التقى عجوزاً في الجزيرة الخضراء, فأسرّت إليه أن زوجها (كان عالماً بالحوادث, وكان يحدّثهم عن أميرٍ يدخل بلدهم فيغلب عليه, وأنّ في كتفه شامة عليها شَعر, فكشف طارق ثوبه فإذا بالشامة كما ذكرت).وسواء كان ذلك كلّه ما يندرج في الأخبار المؤسطرة, أو أن بعضه له من الحقيقة نصيب, فإن المؤرخ يرى فيها أحاديث مما يعقب النصر, لاسيما إذا كان في مثل تلك الهالة التي رافقت سيطرة العرب المسلمين على جزء كبير من شبه الجزيرة الأيبيرية خلال بضع سنين.وهكذا يختلج التاريخ بالأسطورة في هذه البلاد التي فصلها عن دولة الخلافة بحر, فزادها ذلك غموضاً وجعلها تكتسب شخصية ليست مماثلة للأقطار الأخرى فيها. فقد بدت وكأنها شبه مستقلة منذ فتحها, متفرّدة في نسيجها الاجتماعي, مختلفة في نمط حياتها, متميّزة في خطابها الحواري, لاسيما في عهدها الأموي الذي أسّس لمفاهيم على قاعدة التسامح والعيش المشترك, كانت من أبرز عوامل الصمود في بلاد كانت دائماً في مواجهة تحديات داخلية وخارجية عاصفة.

حالة متقدة

لو قُدّر لمؤرخ أن يستشرف المستقبل في ذلك الزمن, بعيداً عن مؤثرات الطبقة الحاكمة التي عاشت عموماً غير مذعنة لهواجس القلق على المصير, لبدت له الصورة قاتمة, وما دار في خلده حينئذ أن الوجود العربي في الأندلس سيظل قائما عبر تلك المسافات الطوال, ولكن هذه لم تؤخذ بالتوقعات والتنبؤات, ولم تذعن لليأس قبل أوانه, إذ كانت لاتزال مستمرة بهدوء القابض على الزمام, والراسخ جذوراً في الأرض, ولعلها مدينة بذلك لإحدى أبرز الحقب وأكثرها جاذبية في تاريخها, وهي الحقبة الأموية التي اتخذت فيها الأندلس شخصيتها الخاصة, المتّصلة جذوراً بالشرق الإسلامي, والمنفتحة اجتماعاً على المحيط المسيحي الذي نشأت فيه, مما أكسبها الثراء والتنوّع والريادة. فقد أسس عبدالرحمن الأول (الداخل) لتلك الحالة التي ظلّت متقّدة عبر خلفائه, فخالطوا الإسبان وصاهروهم, ولكن ثقافتهم ظلّ يموج فيها تراث الشرق, الأنموذج والمثال, يرفدهم بالعلماء والفقهاء والشعراء. وبينما كان المؤسس يلتقط أنفاسه بعد أعوام طويلة من الحرب, لم تبرح الشام الذاكرة المثخنة, فذهب إليها على متان وجده, مستحضراً النخلة الأثيرة و(الرصافة) المقتبسة عن تلك التي أقامها جدّه (هشام) على تخوم العراق. ولم تكن النخلة مما استحضره في موجات الحنين, ولكن اللغة التي كانت من شروط الحكم في تقاليد البيت الأموي, رسخت أيضاً في وعي المجتمع الجديد, كذلك الشعر الذي كان في جعبة الأمير, على غرار أسلافه, وطالما لجأ إليه حين تنهكه المعارك وتعكّر صفوه المؤامرات, باثّاً عبره لواعج أشجانه الساخنة.

كانت حرية المعتقد مما امتازت به الأندلس في ذلك الحين, وقد (راقت - على حد قول المؤرخة الإسبانية مارجريتا جوميز - لأهالي الأقاليم المفتوحة, لاسيما للكثيرين الذين تعرّضوا للملاحقة من قبل الحكم السابق).

فلم يجد أحد في الواقع نفسه مكرهاً على تغيير عقيدته, وعلى الرغم من ذلك فقد تحوّل تلقائياً عدد كبير من الإسبان إلى الإسلام ممن سيعرفون بالمولّدين.

في هذا الوقت, احتفظ الآخرون (المستعربون) بعقيدتهم المسيحية أو اليهودية, وكان لهم من التأثير في المجتمع والإدارة - وربما السلطة في حقبات متأخرة - ما فاق أقرانهم المسلمين الجدد, كما ظلّت لهؤلاء المستعربين هيئاتهم المحلية, يديرون من خلالها شئونهم, من دون أن يحول ذلك دون انخراطهم في النظام, فأتقنوا لغته, واتخذ بعضهم أسماء عربية, ومنهم من تطبّع كليّاً بتقاليده.

ولكن هذا التحوّل أثار قلقاً لدى تيّار في الكنيسة, تأثّر بالموقف على جبهة الشمال أو على الجبهة الأوربية وراء البرينيه, معترضاً على عملية الاندماج السريع للإسبان في المجتمع الأندلسي, ومن هذا المنظور نقرأ حركة المستعربين في قرطبة, متّصلة بما يتعدى العنصر الداخلي, إلى العنصر الخارجي الذي كان له دور بارز في التحريض عليها, لمواجهة حركة الانصهار والحدّ من خطرها. ولم تكن مصادفة أن يتزامن ذلك مع عهد رسخ فيه الاستقرار السياسي وتعمّقت جذور العيش المشترك, كان على رأسه الأمير عبدالرحمن الثاني, الذي بلغ به الانفتاح نحو المستعربين إلى حدّ استعماله أحدهم قائدا لحرسه. وقد اتخذت هذه الحركة طابعها (الاستشهادي) المتعمّد لإرباك الأمير المتنوّر واستدراجه إلى مواجهة مباشرة معها, ولكنه تصرّف بهدوء ورباطة جأش, وقدرة فائقة على احتواء الاستفزاز الذي مارسته ضد العقيدة الإسلامية في جوٍّ عاصف محموم. فكان الحوار سبيله إلى معالجة هذه الأزمة, حيث انعقد (مجمع مقدّس) برئاسة اسقف أشبيلية, تمثّل فيه الأمير بأحد كبار الموظفين في إدارته من المستعربين (جومس بن أنطونيان).

وقد أسفر عن إدانة للحركة واعتبارها خارجة على الكنيسة, محذّرا تلك الفئة من الجنوح إلى التطرّف.

ولعل النزعة إلى الحوار تتعدى المزاج الخاص للأمير, لتصبح من ضرورات السياسة المتكيفة مع البيئة, والتي شكّلت أحد أبرز عناصر الاستمرار للوجود العربي - الإسلامي في الأندلس. وهي سياسة ربما كان الأمراء أكثر اكتناهاً لها من الفقهاء الذين جنح بعضهم في المقابل إلى التطرف, مخالفين موقف السلطة في هذا المجال.فما برحت هذه ترى إلى الأندلس وحدة اجتماعية, يتساوى في ظلها الجميع حقوقا وواجبات, وتتوافر فيها حرية المعتقد التي اكتسبت مضمونها الفعلي وليس النظري فقط. ولقد تقبّل العرب المسلمون هذا الواقع واندرجوا فيه, متخلّين عن عصبياتهم التي انتهت إلى الاستكانة مع نشوء الإمارة الأموية, لتصبح العقيدة محوراً في التفاعل الاجتماعي والسياسي والثقافي, في مواجهة التحديات بما يلائم الأمر الواقع وخصوصياته.

اللجوء السياسي

ولم يكن المجتمع الإسباني في المقابل مغلقاً أمام المؤثرات العربية - الإسلامية, التي كانت تصله عبر قنوات مختلفة, سواء عن طريق الأسرى, أو البعثات (الديبلوماسية), أو مفاوضات الصلح, مما كان يسهم أحياناً في ركود الحالة العدائية على جبهة افتقدت الوحدة السياسية لفترة طويلة من الزمن. وكان التواصل, من جانب الإسبان, يزداد اقترابا من الحكم الأموي خلال فترات قوته, لاسيما في عهد الخليفة عبدالرحمن الثالث (الناصر), حيث وفدت على قرطبة ملكة (نافار) طالبة المؤازرة لاسترداد ملك حفيدها في (ليون). كما وفد على العاصمة ممثلون لملوك إسبان, يسعون إلى معاهدة سلام, أو التزوّد بالمساعدات من دولة أكثر تفوّقا في مجالات العلوم والاقتصاد والعمران.

ومن الظاهرات اللافتة في تلك المرحلة, ظاهرة ما يسمى اليوم باللجوء السياسي, معبّرة عن تطور مفهوم العلاقات الدولية بما يوائم المصالح الحيوية للمجتمع الأندلسي المفتوح على الأخطار. وإذا كان خيار الجهاد مافرضته طبيعة الموقع على سياسات الأمراء والخلفاء الأمويين, وهم ما انفكوا يقودون أو يوجّهون الحملات الدورية إلى الشمال الإسباني, فإنهم لم يدعوا فرصة دون الإفادة منها لاختراق جبهات الأعداء وتوظيف تناقضاتها خارج نطاق الحرب, سواء بالوسائل الدبلوماسية, أو بالتدّخل في الصراعات فيها على الحكم (لجوء شانجه ملك ليون إلى الزهراء بعد أزمة الصراع مع أخيه أردونيو, ومساعدة (الناصر) له على استرجاع ملكه).

ولا بدّ من الاعتراف في هذا السياق, بأن صمود المجتمع الأندلسي أمام الأعاصير خلال تلك القرون, لم يكن نتيجة التفوق العسكري فحسب, بل كان للتفوق الحضاري تأثيره الواضح في هذا المجال. فقد مكّن ذلك العرب المسلمين من اكتساب هالة معنوية في وعي الإسبان, مما يفسّر هذا التوهّج الدائم في المجتمع الأندلسي المفعم بالتسامح, والذي تجاوز دائرة السلطة إلى أن يصبح في أساس التقاليد والعلاقات الشعبية. ومما يلفت في تلك المرحلة, أن بعض المسلمين, شارك في الأعياد الدينية للإسبان (الميلاد, سان خوان...), فيما وُجد من هؤلاء من تردّد على قبور الأولياء المسلمين, ملتمساً البركات أو مؤدياً النذور, أو مقتبساً من عاداتهم, أو متسميّا بأسمائهم, إلى آخر ذلك من مظاهر التفاعل الاجتماعي والثقافي بين الطرفين.

وليس ثمة شك أن الأندلس لم تعرف الوحدة السياسية الحقيقية إلا في العهد الأموي, الذي كان لا يزال محتفظا بموازين القوى لمصلحته في علاقاته الإسبانية. وفي ضوء ذلك كان الإسبان الأكثر تأثراً بالعرب المتفوقين حضارة, وتماهياً مع سلوكهم وأنماطهم وعلومهم وآدابهم, بينما تراجع هذا التأثّر بعد سقوط الخلافة الأموية وانقسام الأندلس إلى دويلات متصارعة, في الوقت الذي اتجّهت فيه القوى الإسبانية إلى التوحّد بدعمٍ من الغرب الأوربي, ولم تستطع عمليات الإنقاذ التي عبّرت عنها دولتا المرابطين والموحّدين, استعادة ما فقدته الأندلس من المركزية بغياب الحكم الأموي, إذ كانت هذه مجرّد صحوات لا تلبث أن تتلاشى أمام الضغط الإسباني. وكان لجوء القوى الإسلامية حينذاك إلى التطرّف, دفاعاً عن وجودها في هذه البلاد, ما أسهم في اختلال الصيغ التي كانت تشحنها بالصمود والتفوق, وأدى بالتالي إلى خفوت لغة الحوار وارتفاع النبرة العدائية في علاقات المرحلة الصعبة, فضلاً عن أدبياتها المفعمة بالقلق والتوتّر. فقد غابت تدريجيا تلك المجالس التي رعاها بشغف الأمراء والخلفاء والوزراء, وتعملق فيها العلماء والشعراء, وباتت المعاقل والحصون ما يستأثر بالاهتمام في مواجهة الحملة العاتية التي استهدفت الأندلس في قرونها الأخيرة.

أصداء مختلجة

لقد كانت أندلس العرب المسلمين حالة استثنائية في التاريخ, إذ انطوت بداية على مشروع ربما كانت المغامرة واضحة فيه, حيث الفتوح في ذروة اندفاعها, دون أن يكون (حاجز) البرينيه عائقا أمامها في اختراق المدى الأوربي, والمغامرة كانت لا تزال في وعي الذين أصرّوا على البقاء ولم تُثنهم التحديات الكبيرة, عن الشعور بأنهم في وطنهم الأبدي. وإذا أردنا اختزال هذه التجربة, سواء على جبهة التاريخ أو على جبهة الذاكرة المختلجة بأصداء السنين, سنجد أن عناصر أربعة كانت أساساً في التوهّج الذي بدت فيه الأندلس خلال عهدها الأموي:

1 - الحنين الذي لم يقف عند حدود المشاعر فحسب, بل تعدّاها إلى التماهي تراثا مع الشرق الإسلامي, والمثابرة على الاتصال بينابيع الثقافة فيه.

2 - التفوّق الحضاري الذي جعل من الأندلس حينذاك واحة في عالمها ومركز إشعاع في محيطها.

3 - الفكر الحواري المنفتح على الآخر, والمتكيّف مع البيئة, والمتجدّد دائماً بما يوائم طبيعة المجتمع المتنوّع والتناقضات فيه.

4 - الصمود خياراً ثابتاً في بلاد تضطرب بالتحديات الداخلية والخارجية, دون أن يحول ذلك أمام النظرة بثقة إلى المستقبل.

ولكن رأيا آخر كان للشعراء الذين يستشرفون, وذلك في قراءتهم المستقبل غير منفصل عن الماضي المرهق بالتداعيات الصعبة, والمثخن بجراحات الأزمنة. فالسقوط, أو ما رهص به في محطّات القلق على المصير, ربما كان نتيجة لفتح ظلّ منقطعا عن سياقاته وجانحا عن المركز الذي انفصل مبكّرا عنه, فخرج مبكراً أيضا من هواجس الأخير, لتواجه الأندلس منفردة تحدياتها العاصفة في المكان البعيد, من دون أن تهدأ فيها آلة الحرب. ولكن المؤرخ لم تخنه القراءة اللمّاحة, إذ رأى من قبل بقلق شديد تداعيات السقوط منذ إعلان انتهاء الخلافة تحت وطأة العصبيات المتجددة فيما سُمي بـ (الطوائف), مدركاً البداية الفعلية للانهيار. فقد (نودي - حينئذ - في الأسواق والأرباض, لا يبقى بقرطبة أحد من بني أمية ولا يكنفهم أحد) - حسب مروية ابن خلدون - وذلك بأمر من أحد رؤساء هذه الطوائف, انطلاقاً من هذه الحاضرة, رمز وحدة الأندلس وصمودها خلال نيف وثلاثة قرون.

هذه المدينة العظيمة التي نافست بغداد في تألقها الحضاري, تبقى الأكثر استفزازاً للذاكرة, والأثر اختلاجاً في (حسرات) العربي ينفثها بين أبهاء مسجدها الكبير, حيث يتصادى التاريخ في نبض الحاضر, وينهال التراث وبلاً على صفحة المكان.

وحديث الأندلس لا يتوقف في الذاكرة العربية على مدى التاريخ, مكتسباً فرادية في هذا التطابق المثير بين المصدرين, فلا نجد صعوبة من خلال هذه المعادلة في الذهاب إلى تفاصيله, والإبحار في عالمه الساطع, فكراً إنسانياً مبدعاً, وثقافة حوارية رائدة.

 

إبراهيم بيضون

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات