أدب المقاومة في قصص (دراما الحواس) عبداللطيف الأرناؤوط

أدب المقاومة في قصص (دراما الحواس)

تناولت المجموعة القصصية (دراما الحواس) للكاتبة الكويتية (منى الشافعي) الاجتياح العراقي لبلدها الكويت, ونددت به ضمن أدب المقاومة, ولكن هذا النوع من الأدب يختلف عن مفهومه في التراث العربي القديم والمعاصر.

إن مفهوم أدب المقاومة كان ومازال يتغذى من عدوان خارجي أجنبي على الوطن, وما فتئت تتكرّر أصداؤه في الشعر العربي القديم من خلال مواجهات الأمة للغزاة عبر التاريخ الطويل, ومحنها المتلاحقة مع الفرس في يوم ذي قار, والروم البيزنطيين عبر قصائد المتنبي وأبي تمام مرورًا بالغزو الصليبي الفرنجي, وقصائد الشعراء في ذلك العصر, والغزو الصهيوني المعاصر.

على أن الأدب الكويتي الذي أفرزه الاجتياح العراقي يفترق عن أدب المقاومة, لأنه يمثل لونًا من المواجهة بين الأهل والعشير, وقد عرف الأدب العربي صوره من قبل بملامحه قديمًا لدى (البحتري) حين عبّر عن القتال بين بطون عشيرة أخواله بني ربيعة, ومن قبله لدى زهير بن أبي سلمى في حرب داحس والغبراء. والصراع بين الأقارب أشد وقعًا وإيلامًا على نفس الأديب العربي إذ رأى فيه دائمًا حالا شاذة تخالف المنطق والحياة, فالصراع بين الأهل لا نصر فيه ولا فخر, بل هو خسائر ومآس يجنيها القوم, ولا يحصدون من تأريثها إلا الفُرقة والضعف.

ومن المؤلم أن تقع مثل هذه الصراعات في العصر الحديث بعد أن استكملت سبل وعي الأمة القومي, وإن كان لها في الماضي ما يشفع لها بسبب الحميّة القبليّة. فليس لها في عصرنا ما يسوّغها خاصة في ظل ظروف قاسية تمر بها الأمة العربية في مواجهات أعدائها في الخارج.

إن ما وقع قد وقع, وما أفرزه الاجتياح من أدب يُعدّ تعبيرًا عن رفض طبيعي للعدوان الداخلي, ويظل عبرة للأمة تتخذ منه درسًا لمستقبلها.

كان للأدب النسائي في الكويت إسهام فيه, فشكّل نتاج الأديبات جانبًا بارزًا منه لأن معاناة المرأة الكويتية لم تكن تقل عن معاناة الرجل في فترة الاجتياح, فهي تمثّل الأم والزوج والأخت والحبيبة, ولها مكانتها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية.

صدق الواقع

إن أدق ما يمكن أن توصف به قصص (منى الشافعي) في مجموعتها (دراما الحواس) أنها لوحات واقعية تعبّر عن مشاهد حياتية منتزعة من الواقع, تجمع بين النزعتين التسجيليّة والانطباعيّة في وصف مظاهر الاجتياح, وتعتمد على دقة التصوير وقوّة الملاحظة والبراعة في انتزاع المواقف الإنسانية المؤثرة.

تصوير الواقع بصدق هو المبدأ الذي يسود القصص, فليس ثمّة مبالغات أو تهويل أو محاولة لاجتراح البطولات الخارقة التي تعتمد على الخيال. وليس ثمة مبالغات مفرطة في القسوة خلال تصوير سلوك المهاجم وتصرّفاته, إن الواقعية الموضوعية تحكم قصص المجموعة وتحيلها إلى لوحات يتقابل فيها دائمًا في إطار الموقف الإنساني الغالب والمغلوب عبر تصرّفات إنسانيّة تنسجم واللحظة الراهنة. الغالب بغطرسته وغروره, والمغلوب بمداراته وصبره واحتماله, دون إغفال للجانب الإنساني والقومي لدى المقاتلين الغزاة, الذين فرضت عليهم هذه الحرب, وهم في أعماقهم لا يؤمنون بها, كذلك الحارس العراقي الذي أطلق عليه قائده النار لأنه توانى في أداء مهمته, وقد سيق إلى تنفيذها مرغمًا. وذلك العالم العراقي الذي يعاني في سجون العراق ما يعانيه ابن الكويت من سلطة الاحتلال المستبدّة. الإنسان عامة والمرأة خاصة هما الضحية في هذا الاجتياح لدى الكاتبة (منى الشافعي) فهي لدورها الأمومي أكثر تعرّضًا لقسوة الاجتياح, تدافع عن جوع أطفالها وقد شحّت المواد الغذائية حتى فجّرت فيها المحنة مشاعر إنسانيّة لم تكن تعرفها, فبطلة قصة عنوانها (جوع) تحاول أن تخترق الدبابات في منطقة (الشويخ) لتحمل إلى طفلها علبة من الحليب, وقد أصبحت تدرك قسوة الجوع حتى على الكائنات الأخرى, وتحسّ بالسعادة وهي ترى فأر المنزل يقاسم طفلها قطعة الجبن, وتأسى لوقوعه في المصيدة... في هذا الإسقاط الإنساني بُعدٌ عميق لأنه يفجّر إنسانية الإنسان من الأعماق, ويجعله يعطف على كل كائن جائع أو محاصر.

ترسم الكاتبة (منى) لوحات للمواقف الإنسانية, فتجمّد الزمن لتنتزع منه ما يمكن أن نسمّيه (اللحظة العابرة), لكنها لحظة مثقلة بالمشاعر, قوية التأثير تحسن اختيارها من مسيرة الزمن, وكثيرًا ما تنفذ منها إلى الماضي في محاولة منها لرسم المفارقات الإنسانية بين زمن الاجتياح وما قبله وما ستحلم به بعده, ففي قصة (لحظة ولحظة) تقارن الكاتبة بين زمنين: الزمن الراهن في ظل العدوان, والزمن الآتي عبر حلم التحرير. أما الزمن الماضي الجميل فيبدو من خلال بوح بطلة القصة ومناجاة حبيبها.

قبل الاجتياح بنت وإياه حياتهما عبر سبعة شهور عجاف, لكنها لا تفقد الأمل, فلابدّ أن تضحك لها الأيام لتسترد ما فات وتنسى معاناتها... وليس الجوع وحده الذي عانته المرأة الكويتية, فهناك ما هو أقسى منه.. معاكسات بعض جنود الاحتلال, وامتهان كرامة المرأة, وابتذال اللغة التي توجّه إليها عند نقاط التفتيش.

ثنائية الرجل والمرأة

يشكل الرجل والمرأة في إطار قصص (منى) ثنائيًا متلازمًا تربط بينهما علاقة حب, تعزّزها محنة الاجتياح, فيلتقيان معًا في إطار حب الوطن, والإصرار على تجاوز المحنة, والدفاع عن الأرض, والصمود, لكن يظل لكل منهما دوره في المواجهة, فالرجل يحمل السلاح, والمرأة تدافع عن دورها في الحياة من خلال تلاؤمها مع الواقع وصبرها, واحتضانها أولادها في ظل ظروف قاسية لم تألفها من قبل.. وحكمتها في التعامل مع الواقع الجديد الذي ترسم الكاتبة بعض مظاهر قسوته في خمس لوحات بعنوان: (سيطرات) وتتنوع الألوان من السيطرة في كل لوحة مندّدة بالممارسات غير الإنسانية لجنود الاجتياح, لكنها ممارسات واقعية تخلو من المبالغات والتهويل.. وتقترب جدًا من التقرير الصحفي الواقعي, مستفيدة من عملها في الصحافة.. ولتجسيد هذه الواقعية تنقل الكاتبة الحوارات باللهجة العراقية المعبّرة.

إلا أن هذه الواقعية التسجيلية الناقدة لدى الكاتبة, تقترن في بعض قصصها بتقنيات فنية تستند إلى اهتماماتها بالفن التشكيلي, وترقى بالقصة إلى آفاق من التميز الفني. ومن أبرز ما يمثّل هذا الاتجاه لديها قصتها الطويلة وعنوانها (دراما الحواس). ففي هذه القصة نلمس براعة الكاتبة في بناء القصة وفق تقنية فنية متطورة, فبطلها فنان يلتحق بالمقاومة قبل أن يكمل لوحته التي يرسم فيها الوطن, وزوجته, التي تتأمل اللوحة بعد غيابه, تتأمل اللوحة كل يوم فيخيل إليها أنها تتجدد وتكتمل مع كل لحظة من لحظات الاجتياح (كانت اللوحة توازي النور بريقًا... وعادت العتمة إلى عينيها, وتراقصت ألوان الوطن وسط خليط من الدم الأحمر والقار الأسود والرماد..) كان زوجها قد أوصاها أن تكمل اللوحة (إنها حلم زوجك.. احمدي الله أنه مازال أسيرًا..) فتنهض متثاقلة تقاوم عوامل الانهيار والإحباط. (وقد اعتزمت أن تؤسس أسلوبًا جديدًا لأحلامها القادمة, حتى يبقى لحياتها معنى ولوجودها الإنساني هدف.. ومع الابتسامة والفرشاة والرتوش الأخيرة للوحة الوطن.. ومع الفراشات الملونة التي بدأت تنطلق مرفرفة من خلف الوجع أحست برعشة كادت تطيح الفرشاة من يدها).

جمال القصة يرتكز على الرمز الذي أجادت الكاتبة اختياره, فلوحة الوطن ترتسم لا على الورق, وإنما على الأرض ومن خلال المقاومة, والرجل والمرأة يتعاونان على إبداعها طلبًا للتحرير.. والمعادل الموضوعي للوحة الوطن.. تلك اللوحة المرسومة على الورق التي تضافر الزوج والزوجة على إكمالها.

مخاض الكتابة

المقاومة تصبح لدى الكاتبة (منى) مخاضًا وإبداعًا وخلقًا.. والمشاعر التي تعكس اللوحة على الورق هي تعبير عن تاريخ طويل يجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل, بين الحقيقة والحلم.. في لون من المبادلات الرمزية بين الحواس والمشاعر, وتستفيد الكاتبة من موهبتها في الرسم التشكيلي لتمنح قصتها تمييزًا فنيًا معترفًا به.

والقصة التي توضح قدرة الكاتبة على استقراء جذور العنف هي بعنوان (الآتي من الشمال), إذ تبرز قدرتها على استغلال الأسطورة وتكثيف تاريخ العنف المتجذّر لدى المعتدين, بطلها عالم عراقي يقبع في سجون الغزاة, كان أستاذًا جامعيًا, يدرّس العلوم السياسية والاقتصاد في جامعات بغداد, وقد مرّ عليه عشر سنوات في المعتقل, حتى أصبح يفضّل السجن على العمل الفكري في ظل مصادرة حرية الفكر..

العالم يقرأ الكتب في سجنه.. ويموت والكتاب مفتوح بيده على صفحة بعنوان (محاكمة جلجامش) تلخص تاريخ العنف وطموح هذا البطل الأسطوري إلى حياة تخلو من العنف ويحكمها السلام:

(ناري تتأجج تحت ثراكم
يمكن أن تحرق حاضركم, ومستقبلكم
والأمر يعود إليكم أنتم:
أن أرجع كي أحكم بدويّ الطبل
وأجعل منكم جيش السخرة والذل
أو أزرع زهرة أمل
ونقيم معًا بيت الحرية والعدل).

وقد بدا ذلك العالم صدى للبطل الأسطوري القديم, يريد أن يحرر العراق من نزعة التسلط, ويفتح لمستقبلها نوافذ الحرية والسلام.. ولو دفع حياته ثمنًا لهذه الحرية, ومع أن القصة لا علاقة لها بالاجتياح مباشرة, فإنها تنفذ إلى دواعيه وجذوره البعيدة في ماضي الأمة الاستبدادي الذي كان الغزو ثمرة من ثماره, وبهذا تتجاوز الكاتبة (منى الشافعي) رسم المواقف المؤسية إلى التماس جوهر المشكلة الكامنة في تكوين الإنسان العربي وسبل معالجتها. وأن للتاريخ ذاكرة لا تمحى, فعسى أن يكون في هذه الصور الأدبية درسٌ للأجيال ولنا لنتعظ, وما أكثر الدروس التي مرت بنا ولم نتعظ منها.

 

عبداللطيف الأرناؤوط

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات