باريس في الأدب العربي الحديث جابر عصفور

باريس في الأدب العربي الحديث

ارتبطت باريس دومًا بجيل الليبراليين الكبار من الكتاب العرب, وتحوّلت هذه المدينة الساحرة, لدى الأجيال اللاحقة, إلى أسطورة ورمز لكل ما يقترن بالحضارة والثقافة والرقي.

كتاب خليل الشيخ (باريس في الأدب العربي الحديث) من الكتب الحديثة التي جذبتني إليها, وحرصت على قراءتها والاستمتاع بها. وقد أقبلت على الكتاب لسببين: أولهما سابق معرفتي بالمؤلف الذي عهدت فيه الجدية والحرص على الإنجاز المتميز في عمله الجامعي الذي برز فيه, فأصبح واحدا من المتفوقين بين أبناء جيله. وثانيهما موضوع الكتاب الذي يدور حول (باريس) مدينة النور و(فترينة الدنيا) كما وصفها عشّاقها, والذين تعلموا فيها, وتأثروا بمناخاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية, ابتداء من فرنسيس فتح الله المرّاش, مرورا بمحمد حسين هيكل وطه حسين وعلي عبدالرازق وتوفيق الحكيم, وليس انتهاء بكتابات الصاوي محمد وأقرانه.

ولذلك كان من الطبيعي أن يخصص خليل الشيخ كتابه عن تجليات باريس أو تمثيلاتها في كتابات الكتّاب الذين عاشوا فيها, وتمتعوا بمباهجها الحضارية, وظلوا متعلقين بها, معبرين عن هذا التعلّق في الكتابات التي ظلت تحوم حول باريس التي أصبحت مهوى لأفئدة أجيال عدة, ويتتبع خليل الشيخ تمثيلات باريس في كتابات روّاد النهضة الأدبية إلى الحرب العالمية الأولى, ابتداء من كتاب رفاعة الطهطاوي (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) أو (الديوان النفيس بإيوان باريس) الصادر سنة 1834, وهو الكتاب الذي يعد البداية الأدبية لتجليات باريس التي يصفها الطهطاوي بأنها (أحكم سائر بلاد الدنيا وديار العلوم البرانية وأثينة الفرنساوية). ووصف الطهطاوي لباريس بأنها (أثينا) الفرنسيين يومئ إلى المكانة المركزية التي تخيلها الطهطاوي, والتي جعل بسببها باريس حاضرة الثقافة الأوربية كما كانت روما حاضرة الثقافة الرومانية. ولذلك يصفها بأنها (أعظم بلاد الإفرنج بناء وعمارة) وأنها من (أعمر مدائن الدنيا) بل هي (أعظم مدن الإفرنج التي يرحل إليها الغرباء لتعلم العلوم), وقد كان كتاب الطهطاوي البداية الجذرية التي ألهمت الملاحقين ودفعتهم في الاتجاه نفسه, فصاغوا انطباعاتهم وأفكارهم عن باريس في كتابة سردية تجمع ما بين خصائص فن الرحلة والسيرة الذاتية وكتابة التأملات الوصفية والدراسة الحضارية المقارنة, فضلا عن الترجمة التي اجتهد الطهطاوي فيها, وأصبح من أعلامها. ويشهد (تخليص الإبريز) ترجمة الطهطاوي للدستور الفرنسي, ولكثير من القوانين التي تنظم حياة الباريسيين, ويتوقف عند الثورة الفرنسية وتحطيم (الباستيل) رمز الظلم في الثورة التي أكدت مبادئ الحرية والمساواة.

تمرّد على النفي

ولم يكن من قبيل المصادفة - والأمر كذلك - أن يتسبب كتاب رفاعة الطهطاوي بما حواه من ترجمة وأفكار ثورية في نفي رفاعة الطهطاوي بعد وفاة محمد علي وابنه إبراهيم باشا وتولي عباس الأول سدة الحكم الخديوي. وكان عباس معروفا برجعيته وعدائه للأفكار المستنيرة, فأغلق الكثير من المدارس التي فتحها والده, ونفى رفاعة الطهطاوي إلى السودان. لكن رفاعة لم يقبل الظلم, وتمرّد على المنفى بطريقته, فترجم رواية فينلون الشهيرة (مغامرات تليماك) بعنوان (مواقع الأفلاك في أخبار تليماك). وفينلون (فرانسوا دي ساليناك 1651-1715) هو رجل دين فرنسي وأديب, كانت له آراء تحررية في السياسة والتعليم, تركت أثرا كبيرا في الثقافة الفرنسية, وتولى تعليم لويس دوق برجوفى, حفيد ووريث لويس التاسع عشر. وقد صاغ مادته التعليمية للأمير في قالب القص على سبيل التشويق والإقناع والتمثيل في الوقت نفسه. وكانت النتيجة روايته التعليمية الشهيرة (مغامرات تليماك) التي صدرت سنة 1699, والتي تبدأ من الأسطورة اليونانية الخاصة برحلة تليماكوس, بحثا عن أبيه أوليسيوس, ولا تنتهي إلا بعد أن تتم عملية التمثيل الإقناعي بالأفكار المتحررة التي أراد فينلون إقناع الأمير بها. وكما فعل رجل الدين الفرنسي المستنير, فعل رفاعة الطهطاوي فجعل من الترجمة قناعا لأفكاره الإصلاحية التي تعلمها في باريس, وتحدث طويلا عن الحاكم العادل, وعن أشكال العدل التي لابد أن يمارسها الحاكم. وأضاف رفاعة من عنده ما جعل من الترجمة عملا من أعمال المقاومة بالكتابة. وكان محتوى الكتابة قرين ما خبره رفاعة في باريس التي أصبحت منذ أن كتب كتابه منطقة جذب للكتابة.

المدينة الأخف ظلا

وقد كتب أحمد فارس الشدياق (1805-1887) عن باريس هو الآخر, ورأى فيها ما لم يره في وطنه الذي عانى فيه الاضطهاد الديني, وأنواع الظلم الاجتماعي والسياسي ما دفعه إلى الارتحال عنه, والتنقل في أرجاء الأقطار العديدة بحثًا عن أمان في الحياة وتقدم في المعرفة. وقد زار الشدياق - تحت تأثير الصورة الإيجابية لباريس (لما شاع عند الناس من أن هواء باريس أصح من هواء لندن, وأن المعيشة فيها أرخص, والحظ أوفر, وأن الفرنسيين أبشّ بالغريب من الإنجليز وأبرّ, وأن لغة العرب عندهم أكثر نفعا وأشهر). وقد تحدث الشدياق عن باريس - أول ما تحدث - في كتابه (الساق على الساق فيما هو الفارياق) الذي طبع في باريس نفسها على نفقة أحد أثرياء العرب المقيمين هناك, وهو رافائيل كحلا الدمشقي سنة 1855 ميلادية (1270 هجرية). وتحدث الشدياق بعد ذلك عن باريس في كتابه (كشف المخبّا عن فنون أوربا) الذي نشر في تونس سنة 1867, وأعاد الشدياق طبعه في مطبعة الجوائب بالأستانة سنة 1881.

ويأتي فرنسيس فتح الله المرّاش (1826-1874) بعد الشدياق في الحديث عن باريس, وذلك في كتابين: (رحلة باريس) المطبوع في المطبعة الشرقية بالمطبعة الكلية في 1867, و(مشهد الأحوال) المطبوع بالمطبعة الكلية في بيروت 1883. وقد عرفت (رحلة باريس) وقرأتها ضمن ما قرأت من أعمال فرنسيس فتح الله المرّاش, ذلك العبقري الذي لم يمهله المرض للبقاء طويلا, فمات في زهرة شبابه بعد أن خلف لنا ما جعله بحق رائدا من رواد الاستنارة, ورائد الفن القصصي الذي استهله بروايته (غابة الحق) التي قمت بإعدادها للنشر مع دراسة مطولة, وطبعت أكثر من مرة ما بين مصر ودمشق, ولم أكن قد اطلعت على كتاب (مشهد الأحوال) الذي اطلع عليه خليل الشيخ, في جهده الدءوب لجمع مادة بحثه واستقصائها. ولذلك كان له فضل تعريفي - ومن ثم تعريف القرّاء - بما لم أكن أعرف.

ويؤكد خليل الشيخ ما سبق أن لاحظته عن (رحلة باريس) من إعجاب المرّاش بها, والنظر إليها بوصفها (المقام الأعلى والبلد النفيس). ويمضي قائلا إن الصورة التي يرسمها كتاب المرّاش عن باريس هي صورة الجنة, وفي الجنة تتلاشى كل التناقضات بين الإنسان والعالم. ولكن الوقوف عند صورة الجنة لن يكون مفهوما إلا إذا عرفنا معاناة المرّاش في الوصول إليها, خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار المشكلات التي كان عليه أن يواجهها في موطنه حلب, والتي جرت عليه الكثير من الصعاب التي دفعته إلى الذهاب إلى باريس, خلاصا من المشكلات وبحثا عن العلم في مركزه.

هل هي المدينة الفاضلة?

والحق أن كتابات الطهطاوي وعلي مبارك والشدياق والمرّاش عن باريس كانت الأصل الأول الذي انبنت عليه الكتابات اللاحقة, وانطلقت منه لتضيف إليه في الاتجاه نفسه الذي أرسى قواعده هؤلاء الرواد الأربعة حسب تعاقب كتاباتهم. ولذلك لن يدهش القارئ لكتاب خليل الشيخ بأن ما كتبه محمد المويلحي (1858-1930) عن باريس في (حديث عيسى بن هشام) وما كتبه أحمد شوقي (1868-1932) عن باريس في قصائده الوصفية, فضلا عن ما كتبه وفيق البكري (1870-1932) الذي زار باريس في أواخر سنة 1893, وأخيرا أحمد زكي باشا (1867-1934) الملقب بشيخ العروبة, لا يخرج - في نهاية الأمر - عن ما كتبه الرواد الأربعة الذين حددوا الاتجاه, وضبطوا بوصلة الحركة, فدفعوا اللاحقين عليهم إلى المضي في الطريق الذي رسموه, تاركين لهم حرية الإضافات الكمية لا الكيفية التي لا تقلب الصورة أو تؤسس لمنظور جديد. ومن هذه الإضافات الكمية ما كتبه المويلحي عن بارس بوصفها (المدينة الفاضلة, أم المدينة الكاملة, مهبط العمران والحضارة ومظهر الزينة والنضارة, وموطن العز والمجد). وما كتبه شوقي عن باريس في قصيدتين شهيرتين من قصائده الوصفية الأولى عن باريس نفسها. والثانية عن غابة بولون, لا يخرج عن ذلك, فشوقي ينطلق بإبداعه في الحدود العقلانية الكلاسيكية لرواد النهضة والاستنارة. ولذلك لا يفوته أن يترك وصف باريس دون أن يدافع عنها, ويرد على الذين وصفوها بأنها مدينة الخلاعة, مؤكدا أنها هي التي فاضت على الأجيال حكمة شعرهم, وأنها مهد العلم الذي يحج الطالبون إليه.

ومن المؤكد - في تقديري على الأقل - أن كتابات السابقين جميعًا تنتسب إلى تيار فكري واحد له تنوعاته وتميزاته الداخلية أو الذاتية, لكنه تيار يختلف - في مجمله بالقطع - عن التيار الذي تمثل في كتابات مصطفى عبدالرازق (1885-1947) ومحمد تيمور (1892-1921) ومحمد حسين هيكل (1888-1956) وطه حسين (1889-1973) وتوفيق الحكيم (1898-1987). وأضيف إلى هؤلاء منصور فهمي ومحمد صبري السربوني وأحمد ضيف الذي ذهب إلى باريس قبل طه حسين, وسبقه إلى المناداة بمناهج النقد الأدبي الذي تعلمه في فرنسا, كما سبقه إلى الكتابة الروائية, ولكنه لم ينل حظ طه حسين من الشهرة لأسباب عدة, بعضها ذاتي يرجع إلى شخصيته, وبعضها موضوعي يرجع إلى الأسباب التي وضعت طه حسين في طليعة المجددين, وجعلت منه رأس حربة لمذهب المحدثين. ويمكن أن نقول الأمر نفسه عن منصور فهمي الذي حصل على درجة الدكتوراه من الجامعات الفرنسية عن المرأة في الإسلام, وأثارت أطروحته ثائرة المحافظين في الجامعة, فطردوه منها, وصادروا أطروحته, وظل الرجل مطاردا إلى أن تاب وأناب ورجع عن توجهاته, وتزلف إلى رجال الحكم فأعادوه إلى الجامعة. وقريب منه في الأثر الباريسي محمد صبري السربوني الذي استهل عهدا جديدا من الدرس التاريخي, وأسهم في الأدب بكتابه المهم عن (الشوقيات المجهولة), وآخر هؤلاء أحمد الصاوي محمد الذي ولد في مطلع القرن العشرين.

وتنطبق صفة الليبرالية السياسية على الأسماء السابقة جميعها, كما تنطبق عليها صفة الرومانسية بالمعنى الأدبي أو الإبداعي بوجه عام, وتنطبق عليها, أخيرا, وبأكثر من معنى, صفة (اللاتين) التي ألح عليها طه حسين في معركته الشهيرة مع العقاد في الثلاثينيات وهي المعركة التي أخذت عنوان اللاتين والسكسون, وكانت كلمة اللاتين تشير إلى المتحيزين للثقافة الفرنسية, والذين يعرفون العالم بواسطتها, وينظرون إلى المعارف المختلفة من منظورها, وذلك مقابل السكسون الذي تحمسوا للثقافة الإنجليزية التي عرفوها عن طريق إتقان لغتها, وتبنّي قيمها, ورأوا أنها - ثقافة وحضارة وسياسة - هي النموذج الأصح للتقدم. ولذلك ترجم أحمد فتحي زغلول (1862-1914) كتاب إدمون ديمولان عن (سر تقدم الإنجليز السكسونيين) وصدّره بمقدمة مستفيضة عن سر تخلف المصريين. وقد طبع الكتاب في مطبعة المعارف بالقاهرة سنة 1899, وذلك في سياق البحث عن سبيل إلى التقدم باتّباع النموذج الإنجليزي السكسوني. وقد ترجم أحمد فتحي زغلول ما ترجم عن سر تقدم الإنجليز على نحو جعله يبدو كما لو كان يصوغ للمصريين سر التقدم بوجه عام.

التيار اللاتيني

وكان هذا التيار السكسوني يقابله تيار لاتيني, رأى في فرنسا على وجه العموم, وفي عاصمتها باريس على وجه الخصوص, نموذج التقدم المنشود. وكان هذا التيار اللاتيني هو الأسبق في الوجود بحكم الاحتلال الفرنسي لمصر, وبسبب استمرار العلاقات الثقافية بين فرنسا ومصر التي وجّهت أغلب بعثاتها في الإنسانيات والفنون إلى فرنسا بالدرجة الأولى. ولذلك نلاحظ غلبة الثقافة الفرنسية على أجيال الرواد. وهي غلبة اقترنت بالسياق الذي برز فيه طه حسين بكل المؤثرات الفرنسية التي أسهمت في تكوينه, وفي تحديد ملامح تحيزه لثقافة اللاتين. وكان ذلك منذ أن أنهى طه حسين رسالته المكتوبة - بالفرنسية - عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعية - بقوله سنة 1917: (إني أعتقد بمنتهى اليقين أن تأثير أوربا, وفي مقدمتها فرنسا, سيعيد إلى الذهن المصري كل قوته وخصبه). ولذلك ظل (صوت باريس) هو الصوت الأقوى في وعي طه حسين, كما ظلت رحلته الصيفية إلى فرنسا في كل عام رحلة استجمام وتجدد وتعلم للجديد الواعد في الوقت نفسه.

وبالطبع كانت تجمع بين أنصار اللاتين القيم الليبرالية عن الحرية السياسية والفكرية والاجتماعية, والإلحاح على الفرد بوصفه الطاقة الخلاّقة القادرة على صنع التاريخ وصياغة المستقبل المشرق, ذلك المستقبل الذي لا يتحقق إلا بواسطة (الأبطال) الذين هم أفراد استثنائيون يرون أبعد ما يرى غيرهم, ويمتلكون قدرة القيادة وبصيرة الزعامة والرؤية الحدسية التي تكشف عن وعود المستقبل الآتي من وراء المغيب. هذه الأفكار كانت تجمع بين الليبراليين اللاتين الذين شملت طليعتهم الذين لمع من بينهم مصطفى كامل وأحمد لطفي السيد على المستوى السياسي, ومحمد تيمور ومحمد حسين هيكل وطه حسين وأحمد ضيف ثم توفيق الحكيم على المستوى الأدبي. وقد كان المستوى الأدبي الوجه الآخر للمستوى الفكري السياسي الاجتماعي, فقد كانت الرومانسية - من حيث هي نزعة إبداعية تحتفي بالفرد الاستثنائي وتنطلق منه لتعود إليه - هي الأصل الأدبي الموازي للأصل السياسي والفكري في تفكير اللاتين الذين أسهموا إسهاما قويا في الحركة الرومانسية العربية.

والحق أنه لا فارق جذريًا بين اللاتين والسكسون في هذا الجانب, فطه حسين لا يختلف عن العقاد جذريا في الفكر السياسي والاجتماعي والأدبي والنقدي, الليبرالي سياسيا, والرومانسي أدبيا, والتعبيري نقديا. وقل الأمر نفسه في المقارنة بين محمد حسين هيكل وإبراهيم المازني, أو بين توفيق الحكيم وعبدالرحمن شكري, فاللاتين والسكسون ينتمون إلى المدرسة السياسية والفكرية والأدبية نفسها والفارق بينهم هو فارق في التحيزات الثانوية التي لا تقضي على وحدة الموقف الجامع بينهم في النهاية, الذي يمايز بينهم وبين السابقين عليهم من فرسان القرن الثامن عشر الذين انطلقوا من فكر الاستنارة الأوربية, وتوقفوا عند حدوده, دون أن يدخلوا في الأفق الليبرالي سياسيًا أو الرومانسي أدبيًا.

ولذلك فالمسافة الواصلة بين محمد تيمور وتوفيق الحكيم - مثلا - هي مسافة قصيرة, لا تشبه بحال المسافة التي تفصل توجهاتهما الإبداعية التي اعتمدت على الخيال الرومانسي المنطلق عن التوجهات الإبداعية للطهطاوي والشدياق والمرّاش التي اعتمدت على الخيال المتعقل. أما التحيزات الثانوية فهي التحيزات إلى المصدر المعرفي الذي تحوّل إلى نموذج محتذى معرفيًا وحضاريًا ووجدانيًا وروحيًا وحضاريًا. وهنا, تبدو باريس بوصفها الرمز الذي يشع - عند اللاتين - بما يكشف الضوء القادم من لندن التي سبق أن زارها علي مبارك والشدياق الذي قارن بينها - اي باريس - وبين لندن, آملا في أن يجد في الثانية ما لم يجده في الأولى.

وتفاصيل تمثيلات باريس عند اللاتين موجودة في كتاب خليل الشيخ, من الممتع للقارئ أن يعود إليها هناك, وأن ينطلق منها إلى الكتابات نفسها, وسيعرف الكثير عن معارك اللاتين والسكسون, وعن الموقف المضاد لأحمد الصاوي محمد - مثلا - من الاتجاه المتعصب للثقافة الإنجليزية. فقد نشر الصاوي كتابه الضخم (باريس) 1933, وهي السنة التي شهدت المعركة بين العقاد وطه حسين تحت عنوان (لاتينيون وسكسونيون) ويؤكد خليل الشيخ أن كتاب الصاوي محمد جاء بمنزلة دعم لتيار اللاتين, خصوصا بعد أن هاجم العقاد مدرستهم وكان ذلك في السياق الذي دفع أنطون الجميل - رئيس تحرير الأهرام في ذلك الوقت, والمثقف ثقافة فرنسية - إلى تأليف كتاب عن أحمد شوقي, وإعلاء شأن تيار الثقافة الفرنسية. وقد تبنّى الجميل مشروع كتاب الصاوي, ودفع الأهرام إلى الترويج له, والكتاب حشد من الاقتباسات المتنوعة لأقوال الفرنسيين والأوربيين عن هذه المدينة, وذلك من المنظور المتحيز الذي لا يرى في بارسي سوى كل ما هو إيجابي.

أسطورة مدينة

وكما ميّزت في كتابات القرن التاسع عشر بين الكتابات التأسيسية والكتابات الإكمالية, داخل المدرسة الفكرية والأدبية نفسها. فإن التمييز نفسه ينطبق على المدرسة الرومانسية الليبرالية التي يبرز فيها اسم محمد تيمور ومحمد حسين هيكل وطه حسين وتوفيق الحكيم على وجه الخصوص, فهؤلاء على وجه التحديد هم الذين مضوا بأسطورة باريس, وصاغوا لها تمثيلاتها الجذرية التي تنبني على دعائم الليبرالية السياسية والفكرية والرومانسية الأدبية والتعبيرية النقدية. أما بقية الأسماء التي كتبت عن باريس في اتجاه هذه المدرسة فهي كثيرة, ولكن تنطبق عليها الصفة الإكمالية, أقصد إلى تلك الصفة التي تمايز بين ما كتبه زكي مبارك مثلا, وما كتبه توفيق الحكيم, ففي التحليل النهائي يبقى الأثر الأقوى لتوفيق الحكيم بوصفه صاحب الكتابة الجذرية التي حفرت صور باريس (فترينة الدنيا) في وجدان وعقول أجيال عدة, وليس في ذلك غرابة على أي حال, ففي المدارس الأدبية تمايز دائما ما بين الأعلام الذين وضعوا الأسس والمبدعين الذين أكملوا الملامح وأتموا التفاصيل.

ولكن لا يعني ذلك أن تمثيلات باريس تقتصر على مدرستين: الأولى الإحيائية التنويرية والثانية الليبرالية الرومانسية. فهناك المدارس اللاحقة, وأخص بالذكر منها: الاتجاه المضاد الذي ذهب إلى باريس ولم يستطع تقبّلها بحكم سطوة انتماءاته المحافظة, فناصبها العداء, وجعلها رمزا للفساد, وذلك مقابل الاتجاه الحداثي الذي بدأ يبرز بعد الحرب العالمية الثانية عرييا, وبعد أن عاش باريس الوجودية والماركسية, ونموذج الاتجاه الأول كتابات المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905-1973) الذي صيغ في مشروع حضاري مضاد, هدف إلى تحقيق هدف مزدوج: أولا التخلص من السيطرة الاستعمارية, ومن الارتباط بثقافات حوض البحر المتوسط, ومن التبعية بوجه عام, وثانيها تأسيس رؤية إسلامية معاصرة للعالم, تعين على التخلص من التبعية الفكرية ومن الاستعمار الفرنسي في الوقت نفسه. والاتجاه المضاد لما كتبه مالك بن نبي يتمثل في النزوع العلماني الذي اصطبغ صبغة وجودية, وظهر على نحو واضح في كتابات أمثال سهيل إدريس عن (الحي اللاتيني) حيث يتحوّل المشهد الباريسي إلى مشهد مختلف بعلامات وإشاعات مضادة, كانت تستحق عناية خاصة.

والواقع أنه في هذه النقطة وحدها يكمن اختلافي مع الصديق خليل الشيخ في كتابه الممتاز, فهو قد بنى الكتاب على التحقيق التاريخي, وجعل الجزء الأول خاصًا بباريس في الأدب العربي الحديث حتى الحرب العالمية الأولى, والجزء الثاني عن صور باريس في الأدب العربي إلى الحرب العالمية الثانية, وجعل القسم الثالث عن باريس في الشعر العربي الحديث. وقد بذل في كل جزء من جهد الجمع والاستقصاء والتحليل ما يدعو إلى الإعجاب ويستلزم التقدير والثناء. ولكني كنت أفضل تصنيفا آخر غير التتابع التاريخي الصرف, تصنيفا يحترم التاريخ, لكن بإبراز التنوع الفكري في المواقف المختلفة من باريس سواء من منظور التعاقب أو منظور التزامن التاريخي. وكان مثل هذا المنظور كفيلا بإبراز أوجه المشابهة في كل نمط من أنماط التمثيلات الباريسية في وعي الكتاب المتقاربين في المنزع والمذهب من ناحية, وإبراز أوجه الاختلاف بين النمط التنويري الذي تميز به (تخليص الإبريز) لرفاعة الطهطاوي مثلا عن نمط التمثيلات الرومانسية التي تجلّت في رواية (عصفور من الشرق) أو (زهرة العمر) لتوفيق الحكيم, والأولى رواية بطلها قناع من أقنعة الحكيم في شبابه الباريسي, والثانية مجموعة الرسائل التي كتبها الحكيم لصديقه الباريسي أندريه, مستعيدا ذكرياته الباريسية. ومن المؤكد أن كلا النمطين التنويري لرفاعة والرومانسي للحكيم يختلفان عن النمط الذي صاغته كتابات مالك بن نبي أو النمط الذي صاغته كتابة سهيل إدريس وأقرانه. ولكن كتاب خليل الشيخ, وإن خلا من التصنيف على أساس من الأنماط الغالبة, فإنه لم يخل من المعلومات التي تشير إلى تنوّع هذه الأنماط. ولحسن الحظ فإن في الكتاب ما يبين عن ذلك في مواضع كثيرة, ولكن صياغة موازية (تتولى التركيز على الأنماط المتباينة لتمثيلات باريس, شعرا ونثرا), كان يمكن أن تسهم في توجيه نظر القارئ أكثر إلى الأصل في اختلاف التمثيلات الباريسية تاريخيا وفكريا.

والمؤكد أن هذا الاختلاف لا يقلل من القيمة الكبيرة لكتاب خليل الشيخ الذي أرجو أن يكون حافزًا لغيره من الدارسين على الكتابة عن تمثيلات (لندن) وغيرها من المدن الأوربية والأمريكية في الكتابات العربية الحديثة والمعاصرة. ويبقى للصديق العزيز حق الشكر على ما فعل, والثناء على صبره ودأبه ودقة وسلامة تحليلاته في أغلب المواضع. وقد صدق أستاذنا إحسان عباس في وصف كتاب تلميذه خليل الشيخ بأنه بحث جاد بمادته وتنظيمه وما يقدمه من فائدة ومتعة للقارئ.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات