استغرقت الرحلة إلى العاصمة التترية أكثر من يوم كامل، فبين الرحلة من
الكويت إلى استانبول، والرحلة من استانبول إلى قازان التي تقع إلى الشرق من مدينة
موسكو، وتبعد عنها 797 كيلومترا أمضينا 15 ساعة انتظارا للطائرة التركية المسافرة
إلى جمهورية تتارستان، إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية.
في رحلة الطائرة التي استمرت ثلاث ساعات ودقائق بدأت أراجع ما جمعته
من معلومات في رحلة القراءة التي تسبق رحلة اكتشاف الواقع. تتوسط تتارستان جمهوريات
الاتحاد الروسي، ويلتقي فيها أكبر نهرين بالاتحاد هما نهرا الفولجا والكاما، وتسكن
عاصمة تتارستان؛ «قازان» دلتا اللقاء بين النهرين. أما أقصى مسافة من شمال تتارستان
إلى جنوبها فتبلغ 290 كيلومترا، بينما تصل المسافة من شرقها إلى غربها 460
كيلومترا.
تتماس حدود تتارستان مع جمهورية شوفاشيا، غربًا، وجمهورية بشكيريا
(بشكورتوستان)،شرقا، وجمهورية ماري إل، في الشمال الغربي، وجمهورية أودمورتيا
ومنطقة كيروفسكايا في الشمال، فيما تحدها جنوبا مناطق أورينبورجسكايا، وسمرسكايا
وأوليانوفسكايا. وبجانب نهريها الرئيسيين؛ الفولجا والكاما، يتدفق في تتارستان 500
نهر، وعدد هائل من الغدران، وتحتفظ تتارستان بمصادر مياهها في كويبيشيفسكوي
ونيزنكامسكوي. وفي الجمهورية نحو 8000 بحيرة. وبجانب مياهها العذبة يحتفظ قلب
تتارستان بعدد من مصادر المياه المعدنية والمالحة قليلا. وتغطي الغابات سدس مساحة
تتارستان. والنفط والغاز هما من مصادر ثروة تتارسان (فلديها احتياطي مليار طن من
النفط وفي كل طن نحو 40 مترا مكعبًا من الغاز)، ويساهم في تنمية اقتصادها كمركز
صناعي وجود مختلف أنواع أحجار البناء، والطمي اللازم لصناعة الطوب، والجبس، والفحم
والنحاس.
بالرغم من أن مساحة تتارستان صغيرة (68 ألف كيلومتر مربع)، فإنها
تنقسم إلى 43 مقاطعة، و20 مدينة، و21 منشأة مدنية، و897 قرية، وفي «قازان» وحدها
سبع مقاطعات، ويبلغ عدد سكانها ثلاثة ملايين وسبعمائة وستين ألف نسمة.
معظم ركاب الطائرة كُنَّ من النساء، يحملن أكياسًا وأكداسًا من
البضائع التركية، (سنكتشف لاحقا أنها أرخص مما يباع في السوق المحلية). وحين وصلنا
المطار الصغير (جدا) وقفنا في طابورين لعبور ختم الجوازات، وهو عبور استغرق أكثر من
ساعة كاملة من التدقيق والتمحيص، خاصة لفريق من الشرق العربي! ثم خرجنا لأخذ
الحقائب، بعد مطابقة دقيقة بين اسم الراكب وملصق الحقيبة، وهي مراجعة لم أجدها في
أي مطار سابق. بعد ذلك كان على كل مسافرة ومسافر إثبات أن ما في الحقائب للاستخدام
الشخصي، ولذلك كانت هناك بوابتان، واحدة لإظهار المشتروات الخاضعة للضرائب، والأخرى
للأغراض الشخصية. بحسبة بسيطة لعدد الواقفات والواقفين، ومعاينة حركة الحقائب
المتكاسلة والطابور البطيء، اكتشفتُ أن الشمس قد تغازل وسط السماء قبل أن يدركنا
الدور.
لكن النجدة جاءت بعد ساعة، حين خرجت موظفة الجمارك ومعظم شرطة المطار
من النساء (أيضا) لتنادي باللغة الروسية (منستري كولتورا)!
كانت تلك المناداة تحمل الكلمين السحريتين اللتين طال إنتظاري لهما،
فهذا يعني أن (وزارة الثقافة) التي نسَّقنا معها قبل السفر كانت حسب الوعد
بانتظارنا عند الفجر، وأن الليل الجمركي الطويل سينجلي، وأن محنة الطابور لن
تطالنا، لقد فعلت الكلمتان مفعول كلمات «افتح يا سمسم» في حكاية علي بابا! وهكذا
فُتحت لنا بين البوابتين المكتظتين بالمسافرات والبضائع بوابة ثالثة، وكأنها ممر
سحري في قصص ألف ليلة وليلة، يلجأ إليها السندباد البحري كبرزخ ينجو من خلاله من
فتك طائر الرخ، وخرجنا من المطار ليستقبلنا صيف المدينة البارد، بدرجة حرارة لا
تزيد عن العشرين!
الطريق إلى «قازان»
مضاءً كان الطريق من المطار إلى قلب المدينة! كانت المسافة تبلغ 20
كيلومترا. وسألت متعجبا: هل جاء الفجر؟ فكانت الإجابة الأكثر عجبًا من مديرة
الثقافة السيدة رئيسة خانوم، على لسان المترجم التتري رينات، إلى الإنجليزية: إن
ذلك هو ليل المدينة، مضيء دائمًا، وكأن الشمس لا تنام في تتارستان، وإنما تغفو بنصف
عين، أو تكاد، وما هي إلا ساعتان حتى بكَّرت الشمس بالخروج إلى عملها. وكأن النهار
موصول بأخواته من النهارات التي تسبقه وتليه.
نقترب من المدينة التي تأسست قبل أكثر من ألف عام. إذ بعد اعتناق
بُلغَار نهر الفولجا الدين الإسلامي في عام 922 ميلادية، بدأت «قازان» تتشكل على
هيئة بيوت بدائية من الخشب، حتى أعلن مولدها في سنة 1005 ميلادية، وليظهر اسمها
للمرة الأولى في الأدبيات المكتوبة سنة 1177 ميلادية. ستنعم المدينة بإسلامها
وسلامها أربعة قرون ونيف، إلى أن تدك بواباتها جحافل جيوش إيفان الرهيب في الثاني
من أكتوبر عام 1552 ميلادية.
حين يقودنا دليلنا ومترجمنا إلى المتحف الوطني سنستعيد آلام التترين
المسلمين وهم يواجهون ببسالة الجيش الفتاك لإيفان الرهيب في لوحة جدارية ضخمة، وهي
مواجهة بدأت فترة زمنية مدتها خمس سنوات من الحرب الاستنزافية لاستعادة «قازان».
وهي المدة التي تحولت فيها لأول مرة في المدينة أساليب بناء البيت من الخشب إلى
الحجر، كما شهدت أيضا بناء جدران حماية جديدة وجاء المعماري إيفان شريعي إلى
«قازان» مع 200 من مساعديه لتعمير «قازان» بالبيوت الحجرية في 1555 ميلادية.
في المتحف الوطني كذلك سنتعرف على تطور تشييد المنازل، من الخشب إلى
الحجر، وحين نذهب إلى قسم التاريخ بجامعة «قازان» (تأسست الجامعة قبل 200 سنة وهي
أكبر جامعات تتارستان وثالث جامعات روسيا الاتحادية)، نرى خريطة تفصيلية بالحروف
العربية لجمهورية تتارستان، ولعاصمتها «قازان»، قبل أن يجبر بيتر الأول أبناء
التتار وسواهم ممن يكتبون بالحروف العربية بالمدارس على استخدام الأبجدية الروسية
في القراءة والكتابة، سنة 1707 ميلادية، وكانت تلك مدارس الخاصَّة من الأثرياء، أما
مدارس العامة فقد افتتحت للمرة الأولى في «قازان» في الثالث عشر من مارس سنة 1766
ميلادية.
اللغة التتارية اليوم في العاصمة ليس لها سوى مدرسة عليا وحيدة، تدرس
موادها العلمية بها، هي «مدرسة المرجاني العليا للتتار». يقول لي راميل، مدرس اللغة
الإنجليزية في ذلك الصرح التعليمي المقاوم لفناء اللغة التترية: «هناك بعض المدارس
المحلية في المناطق البعيدة لا تزال تحتفظ بها، إلا أن التقدم للجامعات لن يكون إلا
بالمناهج الرسمية باللغة الروسية»، كان ذلك صوت شجن تتري يصرخ وسط البهجة
حولنا.
نحن على أبواب «قازان»؛ المدينة التي مرت بها الإمبراطورة كاثرين
الثانية في طريقها إلى نهر الفولجا (1767م)، وزارها الشاعر ألكسندر بوشكين (1833م)،
وعاش بها الروائي مكسيم جوركي (1884 - 1888م)، وشاهدها الثائر فلاديمير ماياكوفسكي
(1927م)، وولد فيها الشاعر القومي للتتار عبد الله طوقاي، ودرس بجامعتها أيام شبابه
فلاديمير لينين حتى استبعد منها بسبب تطرفه(1890م)، واحتفل بضم تراثها إلى اليونسكو
مدير المنظمة الدولية كويتيرو ماتسورا (2003م)، وطرد من جامعتها لسوء سلوكه الروائي
الكبير ليو تلستوي (1828 - 1910م)، بعد أن كتب أولى رواياته في شوارعها، وعرف حبه
الأول بها بين بساتينها!
موعدان مع الوزيرة
نشاط رئيسة خانوم مديرة الثقافة يجعل الأمنيات حقائق، لقاء وزيرة
الثقافة ونائبة رئيس وزراء جمهورية تتارستان السيدة زيلفا فاليفا كان على جدول
اللقاءات التي طلبتها، وقد كان، وفتحت لنا الوزيرة مكتبها وقلبها.
سألتها عن خطة وزارتها في تعريف الجيل الجديد بجمهورية تتارستان على
عاداته وتقاليده وتراثه، فقالت إن طرقا كثيرة تسلكها الوزارة لتمهد إلى هذا الهدف
القومي النبيل، مثل وجود معلمين محترفين في كل مجالات الفنون والآداب، يقومون
بتدريب النشء على الغناء التقليدي، مثلما يتعلم آخرون أساليب تقنية في الصناعات
التقليدية. كما أن هناك مؤسسات عديدة، ليست في الجامعات فقط، وليست في المدن
الكبيرة وحسب، وإنما في القرى أيضا، تقوم بهذا الواجب في توصيل التراث عبر الأجيال
على أكمل وجه.
تريد الوزيرة للشعوب الأخرى أن تتعرف على العادات والتقاليد التترية،
لذا لا تترك مناسبة داخلية إلا ويشاهد المشاركون سواء في مؤتمرات ثقافية أو
اقتصادية عروضا تقليدية، فضلا عن زيارات لفرق تترية إلى الخارج لتقديم عروض مماثلة.
كما تنظم وزارتها احتفاليات ثقافية ضخمة مثل الأعياد الذهبية والمئوية، للمفكرين
والشعراء والموسيقيين من التتار، وشهدت البلاد خلال زيارتنا احتفال جمهورية
تتارستان بأول كتاب مطبوع بها، وكان ذلك منذ 285 عامًا، والاحتفال بعيد ميلاد
الشاعر الأشهر ألكسندر بوشكين!
تضيف فاليفا أن الوزارة تبنت هذا العام مشروع «تراث» من أجل الحفاظ
على المواقع الأثرية بدعم من كبار رجال الأعمال. وتخطط الوزارة لاستقطاب دعم دولي
للمشاركة في جهود الترميم. ولذلك تعد الكثير من المواد الفيلمية والمطبوعات حول هذه
الآثار التي تقاوم الاندثار.
بتفاؤل كبير تتحدث فاليفا عن المستقبل. فقد وقعت اتفاقية تستضيف
بمقتضاها جمهورية تتارستان في العام القادم 2008 أعمالا من العالم الإسلامي تحت
عنوان Louver Hermitage Islamic World 2008 كما أنها تسعد بمشاركة 89 فيلما هذا
العام في المهرجان الثالث لسينما العالم الإسلامي (مهرجان المنبر الذهبي)، في سعي
دءوب لترسيخ الهوية الإسلامية للجمهورية المنفتحة ثقافيا.
ليس ذلك هو أول الأحداث، ولن يكون آخرها، فقد نظمت «قازان» في 2004
ميلادية معرضا مهمًا عن الإسلام والثقافة الروحانية، تناول في المؤتمر المرافق له
الثقافة الإسلامية في منطقة البلغار والأورال، التي تظهر على الخريطة النادرة
بالحروف العربية.
لم يكن ذلك الموعد الأول مع الوزيرة هو الأخير، حين يحضر وفد «العربي»
افتتاح السيدة فاليفا للأسبوع الثقافي للمملكة العربية السعودية في جمهورية
تتارستان، بعروض لزفاف تقليدي ورقصات شعبية، وأوركسترا سعودية، على مسرح الهرم
الزجاجي والحجري؛ الذي استلهمه رئيس الجمهورية من أهرامات مصر، وأصبح شاهدًا على
انفتاح الجمهورية التترية في السنوات الأخيرة على ثقافات العالم، ليس فقط لقبولها
لأنماط معمارية مغايرة، وإنما لاستضافتها لأحداث ثقافية من المشرق والمغرب، فقبيل
ذلك الأسبوع الثقافي رأينا على مسرح المدينة الذي يقف أمامه تمثال كبير لفلاديمير
لينين أوبرا صينية راقصة غنائية سكبت ألوان نهر اليانجستي وقوميات الصين التاريخية
في عيون لم تنم من سحر العرض، الذي كان مكرسا للاحتفاء بصبية فقيرة، لكنها حلوة
الصوت. وإذا كان ذلك العرض تستقبله تتارستان من أقصى الشرق، فقد استقبلت الأسبوع
السابق عليه دون كيخوته وتابعه سانشو من أقصى الغرب، إنها «قازان»: قلب عامر بحب
الثقافة، في الداخل والخارج معًا.
حكاية ثلاث عائلات:(1) بيت عتيق
كلُّ شارع في قازان له قصة، وكل بيت في شوارعها له رواية، وكل مسجد في
أطرافها تقف منارته شاهدا على تاريخ عريق، وعجيب أيضا. بعد ساعاتٍ من وصولنا إلى
مدينة «قازان»، كان لنا موعدٌ مع ألميرا خانوم ورفعت بيه، وهما زوجان يمثلان الجيل
النابه لأبناء تتارستان، الذين يسعون لتوثيق الماضي، واستعادة الذاكرة، من أجل
تعميق المعرفة بحضارة ألف عام من التاريخ الإسلامي في بلاد التتار.
ألميرا خانوم باحثة أخذت على عاتقها مهمة الدعوة عبر دراساتها
التاريخية إلى الحفاظ على البيوت التترية الخشبية العتيقة أو ما تبقى منها لتظل
رمزا لعبقرية البناء الذي شيدها والحرفي الذي زخرفها والمصمم الذي أبدعها. بعض هذه
البيوت التاريخية تم ترميمها بالفعل، وبعضها الآخر سيتم تحويله إلى مزار سياحي. لكن
ومع الأسف فإن الكثير منها تهدم مع ما تهدم من تاريخ المدينة عبر تاريخها النازف
بالدماء. من بين البيوت التي رممت وتتحول إلى مزار تراثي بيت «المرجاني» وهو عالم
دين له مسجد باسمه، زرناه، ووجدنا أن المصلين به يبلغون خمسمائة في صلوات الجمعة
وخصوصا خلال شهر رمضان المبارك.
أما رفقت بيه، المصور المحترف، فتسجل عدسته التاريخ الشفاهي للمدينة،
وخاصة مهرجانها السنوي «سابانتوي»؛ الذي يمثل رحلة تراثية تلخص حياة المدن والقرى
والبراري في تتارستان. ومع هذا المهرجان ستكون لنا قصص لاحقة، لكن القصة التي تأثرت
بها جاءت حين جئنا مع العائلة الثقافية إلى مطعم يحمل اسم ألكسندر بوشكين، وقد
انضمت إلينا ظريفة رفقت؛ ابنتهما، وهي فتاة في الخامسة عشرة، تعشق الفنون، وتدرس في
مدرسة تركية، وتتحدث ثلاث لغات. رأيتُ رفعت بيه شاردًا، وتشرح لنا ألميرا سرَّ
شروده، لقد كان يتذكر أيامه في هذا المكان، قبل أن يتحول ليصبح مطعمًا، بعد هدم
الأثر التاريخي، لقد عاش رفقت بيه هنا طفولته وشبابه في بيت خشبي، نهض مكانه ذلك
المطعم، أخطُّ له أبياتٍ قصيرة من وحي لحظة الشجن التي عاشها: على أطلال بيتٍ كانت
الرُّوحُ تسكنه/ عادَ المصوِّرُ للمكان/ لم تزل هنا رائحة طعام الأم/ لم يزل صوت
الأب هناك/ كأن اللقاء قصيدة كتبها بوشكين/ على باب الوداع!
حكاية 3 عائلات: (2) مناجاة
تخصصت كولزاده خانوم صفيولينا في إحياء فن الأناشيد الدينية
الإسلامية، وخاصة تلك التي تستعيد الغناء التتري القديم. وبجانب الغناء فإنها تعلم
القرآن الكريم للأطفال والكبار من التتار المسلمين على حد سواء (ولها طبعات صوتية
لتعليم القرآن الكريم الذي درسته على يد شيخ من الأزهر الشريف)، في أستوديو خاص
بها، نلتقي معها، ونستمع إليها، ونشاهدها وهي ترتدي أزياء تترية تقليدية، ونعيش
صباحًا بهيا، تمتزج فيه حلاوة الصوت، مع الحلوى التقليدية (التي تشبه إحداها قبعة
المولوية الصوفية الطويلة، حتى أنني أسميتها حلوى جلال الدين الرومي، وهي مصنوعة من
العسل والدقيق، وتشبه حلوى الطحين في الشرق!)
ابنتها رزاده، عالمة تشتغل في معهد التاريخ بجمهورية تتارستان،
والطريف أنها تزوجت مهندس طيران يمنيا، هو جمال محمد العنسي، درس في «قازان»، ويقوم
حاليا باستكمال دراسته في العلوم السياسية، فضلا عن عمله بمصنع للخشب خارج المدينة،
ورئاسته لاتحاد الجاليات العربية للطلاب الدارسين في تتارستان. والطلاب في جامعات
تتارستان العلمية والإنسانية من لبنان وتونس والسعودية وسورية والسودان وليبيا
والمغرب واليمن، ومصر، وعددهم نحو مائتي طالب، ولجمال ورزاده ثلاثة أولاد. وكان
اتحاد الجاليات الذي يحمل الطابع الرسمي قد جعل اشتراكه في بداية الأمر 50 روبلا
(دولاران)، ولكنه تغاضى عن ذلك الاشتراك، ويقوم بعمله بشكل تطوعي، ويتركز معظم
العمل في التوسط لدى الهيئات الرسمية لدى حدوث أية مشكلات (كما حدث حين تم العثور
على منشورات وأسلحة بسكن بعض الطلاب العرب أثناء الحرب الموسكوفية مع الشيشان)!
حكاية 3 عائلات: (3) تاريخ
في مكتبة المتحف الوطني يشدني متن كتاب عن الموتيفات التي اندثرت أو
كادت، وكانت تزين اللقى والمقتنيات التترية لبُلغار الفولجا وخاصة منطقة الكريمين.
الكتاب باللغة الروسية لكن شروح صوره مترجمة إلى الإنجليزية، في قسم التاريخ أتحدث
مع البروفسورة جوزيل سليمانوفا (جوزيل، أو جوزال، هي المرادفة لكلمة غزالة العربية)
لأكتشف أن هذا الكتاب الذي اقتنيته هو واحد من سبعة كتب وضعها والدها أستاذ
التاريخ، ورائد توثيق الفنون القديمة في تتارستان: فؤاد فاليف، وشاركته ابنته
فيه.
جعل الراحل فؤاد فاليف، وابنته جوزيل فاليفا سليمانوفا، الكتاب
مكرَّسًا لأسلاف التتار المعاصرين، تتار «قازان»، وبلغار الفولجا، والبلغار،
والقازانيين، وأتراك الغرب. ويفتح الكتاب صفحة جديدة في البحث التاريخي لتتارستان،
في الذكرى الثمانين لميلاد فؤاد فاليف، والذكرى الألفية لتأسيس «قازان».
خصَّ الكتاب صفحاته المرسومة لتوثيق الفنون الزخرفية التي زينت
الأغراض الحياتية والعمارة والمنسوجات بحثا عن تقنين التطور الجمالي للأفكار
التقليدية في هذه الفنون. وحاول قدر الإمكان أن يغطي ذلك التنوع الثري لرحلة الفن
منذ أقدم العصور، وحتى العام 1552م، العام الذي وقعت فيه خانة «قازان» تحت أسر
القوات الروسية الغازية. وجاء الكتاب بوتقة امتزجت فيها عصارة مائة مقالة نشرتها
الدوريات المتخصصة عن هذه الفنون لبيان طابعها الإثني.
وقد اتضح ذلك كله في الإسكتشات التوثيقية التي رسمها فؤاد فاليف
للموتيفات الزخرفية على الخشب، والحلي التقليدية من المعادن الكريمة والفضة،
كالخواتم والقلائد والأقراط والأساور، فضلا عن النقوش الجدارية، وغيرها من اللقى
والآثار، من السيراميك والفخار، وأوان وأباريق، وتمائم وتعاويذ الصحة والسعد،
ونماذج لشجر المحاياة لدى البلغار، وتفاصيل الأزرار وربطات الثياب من أحزمة ومشابك،
للملابس والشعر، والأمشاط، والمرايا، والأختام، ورءوس العصي، وزخارف البلطات، وكل
ما هو مصنوع من المعدن والفخار والعظم والعاج والقماش وينتمي إلى هذه الحقبة
المُشكِّلة للفن التتاري في مهده ونضجه وتألقه.
كما ضم الكتاب صورًا لصوامع الدراويش منها ما يعود تاريخه إلى القرن
الرابع عشر الميلادي، وأضرحة ذات منارات، ترجع للتاريخ ذاته، وبعض العلب المعدنية
التي رأينا مثيلاتها في المتحف الوطني الحافظة للقرآن الكريم، والمصنوعة من الذهب،
والمزخرفة بالأحجار الكريمة.
تستكمل جوزيل خانوم مشوار أبيها، الباحث، والموسيقي، والشاعر،
والكاتب، والعالم، مثلما تستدعي في ألبوم مصور صدر ضمن حوليات مجلة كازان التاريخية
نضال أسرتها وخاصة جدها حسين فالي، الذي أعدمته القوات البلشفية بعد نفيه عشر سنوات
في سيبيريا! ثم تدخل بنا إلى قاعة محاضرات، لتطلعنا على أعلام المقاطعات التترية،
البهية والملونة، والتي تجسد أنماط الحياة في بلاد التتار، فهناك أعلام تحمل رسوم
كائنات برية كالأيائل، وآخر لراع عازف، وثالث لطائر، ورابع لزخارف معمارية، وكأنها
لوحات فنية وليست أعلاما. وهكذا ترسل تتارستان إلى السماء راياتها خفاقة بالفن
والتاريخ معا.
مدينة قازانية فاضلة
في العقد الأخير، عادت حرية الأديان تنمو تحت سماء تتارستان مع أزهار
عباد الشمس وسنابل القمح، تشرب من الفولجا، وأنهار الجمهورية الخمسمائة. ولذلك بدأت
عملية ترميم المساجد بكثافة (وهي التي منحت رئيس الجمهورية جائزة الملك فيصل
العالمية لنشر الإسلام هذا العام)، وإعادة الاعتبار للكنائس، وإحياء مراسم الدين
مثل حفلات الزواج داخل المساجد والمراكز الدينية، وقد ألهم ذلك المناخ المصمم
والرسام والشاعر والمعالج الأرثوذكسي إلدار خانوف، لكي يبني حول بيت أمه العتيق
مجمعًا للأديان السماوية والأرضية (يخطط لحضور 16 ديانة مختلفة) والثقافات
الإنسانية جميعها.
وقد ارتفع عدد الجمعيات الدينية خلال السنوات الأخيرة في تتارستان
ليبلغ المائة. وأحد المباديء الأساسية في تتارستان هو الاهتمام بمتطلبات الديانتين
الأساسيتين في البلاد: الإسلام والمسيحية، وهناك 170 جمعية أرثوذكسية (يحضر
الكاثوليك والبروتستانت بنحو أقل، كما يسمح لليهود واللوثريين بممارسة شعائرهم
الدينية)، ومع وجود أعراق دينية مختلفة توجد حالة من التسامح الديني والعرقي بينها،
تحت سماء الحرية المكفولة للجميع.
نتوقف أمام دارة إلدار خانوف بتصميمها الفذ الذي يستلهم في هيئته
الخارجية وتقسيمه الداخلي قباب ومنارات المسجد والكنيسة والمعابد اليهودية والبوذية
والوثنية. عشر سنوات أمضاها إلدار يبني بنفسه هذه العمارة التي تمثل مدينة فاضلة
لكل الأديان، تحيا في سلام، وتستمتع بفضاء واحد مخصص لممارسة الحياة الدينية
والثقافية. حتى أنه يعد في مسرح داخل المبنى لافتتاح عرض مسرحي لشكسبير بسبع لغات
من بينها اللغة العربية، واللغة التترية!
أمام لوحاته العملاقة، عن الموسيقى والحرب، ونماذج من مجسماته الضخمة
التي تنتشر في البلاد، يقف ليحكي خانوف كيف شهدت طفولته حربا مدمرة بسبب العصبيات
والنزاعات التي يأمل أن تتوقف فورا وأن مشروعه لإخاء الأديان يضمن السلام: «أحاول
أن أخلق هوية جديدة لروسيا». يقف خانوف بقميص (تي شيرت) بسيط وسروال قصير، لأنه قد
لا يشعر بالبرد الذي يتدثر حماية منه كُلُّ من حوله، وتكفيه ساعتان من النوم يوميا،
وثلاث ساعات في علاج مرضاه، ووجبة واحدة، وهو دائما يتذكر كيف مات أخوه من
الجوع!
يعتمد إلدار على نفسه لتمويل مشروعه، ولا يتلقى سوى دعم متمثل في مواد
بناء وزجاج ممن يعالجون لديه، ومعظم مرضاه من المدمنين على المخدرات، يفدون إليه
طلبا للشفاء. يقدم لنا إلدار خانوف ماكيت المستقبل لمشروعه، لا يضم المجمع الذي
يشيده وحسب، بل يضم سكة حديد للأطفال، ونوادي، ومساكن، وجزيرة صناعية على مياه
الفولجا المقابل له، وجمعية فلكية، ويرينا على الواقع البستان الصغير الذي يزرعه
ليأكل من خضاره.
في سياق الفكرة القازانية لليوتوبيا الفاضلة التي تجمع الشعوب معًا
يجمعني لقاء مسائي مع الدكتورة ساديكوفا آسيا، عضو الجمعية العامة لجمهورية
تتارستان، ومديرة مركز ساكورا التتاري الياباني للثقافة والمعلومات. تتحدث ساديكوفا
عن مشروعات للجيل الجديد، من أهمها إصدار كتب تعريفية ببلدان العالم، فالمعرفة جسر
للتخاطب مع الآخرين. وفي عصر المعلومات يجب أن تتوافر للشباب هذه الكتب المبسطة
والشارحة التي تأتي في سياق الإصلاح الثقافي الذي تشهده البلاد، والتي بدأت
الاهتمام بالأجيال الجديدة بإنشاء لجنة للأطفال والشباب تحولت منذ سنوات إلى وزارة
خاصة بهم، واعتمدت خطة تنمية للسنوات (2007 - 2010م).
إنها أحلام تجد من يرعاها، تحت سماء تتارستان، وخارجها، وتدعو العرب
للمشاركة في هذه الكتيبات التعريفية ببلدانهم.
مرة ثالثة، أدرك اهتمام «قازان» وتتارستان بفكرة الحوار مع الآخر
والتعريف به، حين ألتقي مع الباحث بولات تاج الدين (الذي تكتب حروفه بالإنجليزية
BOULAT Tagudin ويقابل بالعربية فولاذ، وهذا معناه أيضا باللغة التترية)، وهو يدير
مركزا لحوار الحضارات الآسيوية والأوربية، فينقل لي خبر إعداد زميلة له لرسالة
جامعية عن مجلة «العربي» وتأثيرها الثقافي، فأعطيه نسخة من كتاب «سيرة مجلة» الذي
يوجز مسيرة نصف قرن من عمر العربي وأنتظر تواصل الباحثة بأسئلتها. وها نحن نأتي
تتارستان للمرة الأولى، لنجد أن باحثيها بانتظار «العربي»!
السابانتوي: الرقص مع التتار!
جئنا تتارستان لنعيش أيام السابانتوي، وهو عيد شعبي تتري. وسابان كلمة
تركية تعني المحراث. وكأن العيد (توي) حَرْثٌ لما زرعه الجميع طوال موسم كامل. لذلك
يعني السابانتوي حصاد كل شيء مبهج: فإذا أردتَ لم الشمل، ورؤية الأهل، والاستمتاع
بالوصل؛ فليس لك سوى السابانتوي، وإن رغبت في الغناء، وسماع الموسيقى التقليدية
والرقص ببهجة وانتشاء، فما من مناسبة مثل السابانتوي، وكذلك لو أحببت تذوق الأطباق
الشعبية واحتساء المشروبات التقليدية وتناول الثمار المحلية، فعش مع
السابانتوي!
في قرية قوقمر على مسافة 120 كيلومترا من «قازان» رأينا فجر
السابانتوي. لا يفصل بين المدينة والقرية سوى بساط أخضر. توزعت على جانبي طريقنا
أشجار عملاقة تحمي المحاصيل من العواصف الثلجية، مثلما تحمي المارة من الرياح
الجليدية، فضلا عن أنها مثل إطار طبيعي يزين السماء التي ترقص فيها السحب وهي تتشكل
عصافير وأقمارًا وأزهارًا. في منتصف الطريق تذكرنا المطر فغمر الأسفلت والسيارة
ولكنه على مشارف قوقمر توقف، لنشارك أهل قوقمر وعددهم 1450 شخصا فرحتهم بتدشين
العيد.
نبدأ ببيت العمدة الذي دعانا إلى وجبة شعبية تقليدية ساخنة، (مثل
الشرق تستهل اللقاءات بالوجبات!)، وكالعادة يتخللها عصير المشمش (أو الكيوي
والأناناس والموز واليوسفي)، والشاي الذي ترقد في قاع فنجانه إحدى ثمار المشمش
أيضا، وحلويات أخذت بعضها أشكالا تترية، وامتزج الآخر بالتركي والشرقي والروسي.
وإذا كنا في العاصمة «قازان» نعبر عن الشكر بكلمة «سْبَاسِّيبا»، فأنت في تتارستان
مدنا وقرى يجب أن تستخدم الكلمة الأصلية الإسلامية للشكر «رحمات»، وهي دعاء إلى
الله لك بالرحمة. وهكذا توزعت من الأفواه الرحمات شكرا وعرفانا لمضيفنا، وفيما بعد
للذين استسلموا للعدسات وهي تسجل وقائع استقبال السابانتوي.
من أحد المنازل يبدأ السابانتوي، تخرج الفتيات بحلل بهيجة الألوان،
وعلى عربة يجرها حصان يصعد أطفال صغار بابتسامات لا تقل بهجة، وضوضاء من الضحكات
البرية التي تطلق الفرح في سماء القرية. تتحرك القافلة، التي يتقدمها راقص وعازف
الأكورديون، وسينضم إليهما لاحقا المزيد من العازفين والراقصين، ولكن الأهم هم
هؤلاء الذين يحملون العصي العملاقة. تخيلنا أنها ستستخدم في النزال، ولكن مع كل بيت
عرفنا سرها.
أمام كل بيت كان الأطفال يصيحون بصوت إيقاعي «كالابا»، وهي صيحة تترية
تنبيهية للمناداة، (مثل الحمحمة في القرى العربية لإعداد الدار لدخول الضيوف)، وهي
في الوقت نفسه إشارة لأصحاب البيت بأن قافلة السابانتوي وصلت.
تخرج الأم حاملة بعض الهدايا للأطفال، قد تكون قطعا من الحلوى، أو
بيضا، أو فاكهة، ولكن الأهم، أن تقدم لأصحاب العصي قطعة من القماش الملون، ليربطها
الشاب إلى عصاه مثلما تربط الرايات، ومعها أمنيات بالسلامة والاستقرار. قد تهدي بعض
الفتيات قطعا مغزولة باليد، ومعها دعاء بأن تتزوج قريبا. وقد تهدي العجائز
السابانتوي الخاص بهن طلبا للصحة. وتهدي النساء السابانتوي المطرز مع دعاء لأطفالهن
بكل محبب وطول العمر. مع كل توقف تقوم موظفة أو أكثر بتسجيل هدايا أهل القرية إلى
السابانتوي. وتسجل أيضا إذا كان أهل البيت غائبين عنه. وأثناء ذلك كله لا يتوقف
العزف والغناء والرقص وصيحات «كالابا»، ودعوة كل بيت لنا للجلوس وتناول الكعك أو
الفاكهة أو العصائر والشاي للمشاركة في السابانتوي.
بعد ذلك بيوم أو أكثر، وبعد أن تنتهي عمليات جمع هدايا السابانتوي،
ستبدأ أيام المهرجان، التي يستقبلها شهر يونيو، من كل عام. إنه احتفال صيفي، لكن
صيف تتارستان بارد، ربما تتراوح درجة الحرارة فيها بين العشرين إلى الثلاثين، لكنه
بارد في أغلب الأحيان، بل وممطر أيضا. في أيام المهرجان ألعابٌ شعبية كثيرة، لعل
أشهرها المصارعة بالسواعد، وتبدأ بأصغر المشاركين سنا من الأطفال، ويتصاعد العمر
ومعه الحماس وقوة المصارعة وضوضاء التشجيع. كما أن هناك مسابقات تشبه التحطيب،
وأخرى للعدو، وثالثة لسباقات الخيل، ورابعة لحمل الدّلاء بالماء والعدو بها دون أن
ينسكب ماؤها، وخامسة لتسلق الشجر العملاق بسيقانه الزلجة، وسادسة لصعود الأعمدة،
وسابعة لتحطيم الفخار والعيون معصوبة، وغيرها من ألعاب كأنها من حكايات شعبية
خرافية!
كان العيد في أوله طقسا للحصاد، ثم تدرج ليكون ملتقى للاجتماع، ترى
فيه الفتيات أزواج المستقبل، ولكنه صار اليوم على نحو أكبر مكانا للصلح مع الذات
والغير معًا. وهكذا تتم فيه حل النزاعات، والخلافات، ودعوة القوميات الأخرى
للمشاهدة والمشاركة. وكانت جوائز المسابقات حتى سنوات خلت - وربما لا تزال كذلك في
أرياف تترية نائية - خروفا! لكن الجوائز اليوم أصبحت أكثر عولمة، حتى إن بعض
الجوائز يمكن أن تكون سيارة موديل جديد!! كل ذلك وسط ميادين خضراء تصطف على جنباتها
جماهير تجعل من كل ساحة مكانا للمباريات المختلفة. ترفرف في الهواء رايات
السابانتوي الملونة، وترقص على الأرض ثياب الفتيات المزركشة، وتتمايل طربا القبعات
التقليدية مع أنغام الأكورديون والآلات الموسيقية التقليدية الأخرى، وتصافح السماء
رايات السابانتوي الملونة.
شعر عبد الله توقاي
كلما قادتني الخطى في «قازان» أو خارجها تذكرت شاعرها التتري الكبير
عبدالله توقاي. كانت كلماته تتنفس هواء الأمكنة والأزمنة. حتى القرية التي تحدث
عنها «قرلاي» كانت تشبه القرية التي زرتها في ملامح عديدة، يقول وكأنه يصف قوقمر:
لم أولد فيها، لكنني احتفظت بحبها. مرج عشبي أخضر كغطاء من المخمل. إنها ليست
مشهورة، بل مجرد قرية صغيرة، ولكن نهيرها منبع جمالها وهو فخر أهلها. لا نحس فيها
بلسعة البرد، أو لفحة الحر، وتهب الرياح في مواسمها».
وفي «قازان» تعيش كلمات عبد الله توقاي: «هاهنا الموسيقى والرقص
والفنون ولاعبو السيرك، وها هنا الشوارع والمسارح والمحاربون وعازفو الكمان». وهناك
حديقة باسمه، وله ركن في المتحف وبأحد الجاليريات رأينا صورته على الحائط في لوحة
زيتية ضخمة، مثلما دققنا في العملات التذكارية التي أصدرتها تتارستان بمناسبة مرور
ألف عام على إنشاء «قازان» ووضعت صورة طوقاي على وجه عملات ذهبية وفضية وبرونزية
ونحاسية ضمن أعلام البلاد. وفي إحدى الغابات التي زرناها، استدعيت كلمات توقاي:
«غابة عامرة بالعطور، أكبر من البحر، وأعلى من السحاب، تذكرني أشجارها جيش جنكيزخان
القوي العرمرم».
.. وطغراء فلاديمير بوبوف
في ليلة السفر، وقبل ساعات من انطلاق الطائرة فجرًا إلى محطة
الترانزيت في استانبول، وفي فندق فاطمة حيث نقيم، جاءت الدكتورة ساديكوفا آسيا
بصحبة ابنتها، ومعهما الفنان فلاديمير بوبوف. في حواري السابق معها أشارت إلى أعمال
بابوف، لكن الدهشة أعمق حين رأيت أعماله الخطية العربية، فلم يكن الضيف العجوز
يتحدث العربية ليقدم بها كل هذا السحر الخطي، ولكنها جماليات الحروف العربية التي
فتنته، وأسرته، فجعل منها غايته قبل سنوات.
تعكس الأعمال الخطية للفنان التتري فلاديمير بوبوف المقيم في «قازان»
روح الفن الإسلامي، من حيث وحدة التكوين، والمضمون، وجمالياتهما. إذ يحاول الفنان
فلاديمير بوبوف تقديم صورة موازية، أو «علامة شخصية» كما يسميها، للأسماء التي
يكوِّنها جماليا مستفيدا من حرية وثراء الخطوط العربية، وخاصة حروف الطغراء. وترى
أستاذة العلوم الفلسفية والمتخصصة في الدراسات الإسلامية بالطانوفا أن أعمال
فلاديمير بوبوف التي ترسم الأسماء، تحدد روح وقدر الخط المشكِّلة لها، ولذلك تعد
مرآة لإعطاء تصور ذاتي عن صاحب الاسم! لكنها لا تغفل حضور القيم الإنسانية الكونية
والأفكار الدينية والفلسفية التي تعد قيما أساسية في الأشكال التقليدية للفنون
الإسلامية.
الخط العربي أيضا كان حاضرًا، في جاليريهات كثيرة رأيناها ضمن جولة
أعدتها السيدة رئيسة خانوم، وتعرفنا على بعض من مؤسسات تتارستان الثقافية. إذ يوجد
اثنا عشر مسرحًا رسميا وقاعات موسيقية و88 متحفا للدولة و300 متحف نوعي، و1717
مكتبة، بينها مكتبة جامعة «قازان» (أربعة ملايين وثمانمائة ألف كتاب)، والمكتبة
الوطنية لجمهورية تتارستان (ثلاثة ملايين ومائة ألف كتاب)، وتدور مطابع تتارستان
لتقدم سنويا 500 كتاب، كما يصدر بها 170 صحيفة و35 مجلة. ألتقي مع المستشرقة نورية
كرايفا، في قسم المخطوطات بالمكتبة العلمية في جامعة «قازان»، فتدلني على عدد
المخطوطات العربية في أرشيف المخطوطات والذي يبلغ 25 ألفا. أفكر في الأسرار
والمعارف والاكتشافات الأدبية والتاريخية والعلمية التي يمكن أن يفصح عنها هذا
العدد من الكنوز الدفينة!
ومثلما استقبلتنا رئيسة خانوم عند الفجر، جاءت لتودعنا في ليل «قازان»
المضيء تحت زخات المطر، في الطريق إلى المطار تعطلت السيارة فقالت مداعبة: «ليست
السيارة وحدها هي التي لا تريد مغادرتكم، فنحن نتمنى أن تبقوا معنا فترة أطول». قلت
لها :«إن السماء أيضا تبكي. لكن عزاءنا في الذكريات التي سنستعيد بها الرحلة
التتارية، التي ضمت كثيرًا من البهجة، وقليلا من الأشجان». لم تبرح رئيسة خانوم
المطار إلا بعد أن اطمأنت على ركوبنا الطائرة، ولأن ساعات الانتظار في استانبول
كانت في رحلة العودة 40 ساعة كاملة لعدم وجود رحلة يومية إلى الكويت، فقد سألتنا أن
نطمئنها على سلامة وصولنا مع متاعنا!. وفي البريد الإلكتروني الذي كتبته بعد وصولي،
ختمته بالشكر الروسي والتتري، وأكرره هنا في خاتمة سطوري إلى كل أهل تتارستان:
سباسيبا.. رحمات!.