نعم.. يمكننا وقف تغير المناخ

نعم.. يمكننا وقف تغير المناخ
        

          خلص التقرير الثالث للهيئة الحكومية حول تغير المناخ Intergovernmental Panel on Climate Change report  إلى أن المجتمع الدولي يمكنه أن يبطئ، وبعدها يخفض، الانبعاثات الكونية لغازات الاحتباس الحراري خلال العقود القليلة القادمة من خلال استغلال سياسات ذات تكلفة فعالة والتكنولوجيات الحالية والجديدة. واستنادًا إلى أحدث الأدبيات المراجعة بدقة حول نمذجة الانبعاثات، والاقتصادات، والسياسات والتكنولوجيات، كشف التقرير الجديد كيف يمكن للحكومات، والصناعة والرأي العام أن يخفضوا معًا الطاقة وكثافة الكربون في الاقتصاد العالمي رغم الدخول المتزايدة ومستويات السكان.

          والواقع أن تغير المناخ سيشمل كل ركن وكل مجتمع على هذا الكوكب، لكن التغلب على تغير المناخ سيشمل بالمثل كل وجوه الاقتصاد الكوني، على نحو إيجابي مجد اقتصاديًا. واللافت هنا أن إجراءات تخفيض الانبعاثات يمكن تحقيقها بتكلفة منخفضة جدا، خاصة إذا ما قورنت بتكاليف عدم التحرك لمواجهة هذا الخطر الداهم. بل إن بعض هذه الإجراءات، مثل تخفيض الانبعاثات من المنازل بنسبة 30 في المائة بحلول العام 2020، من شأنه أن يسهم إيجابيًا في الناتج القومي الإجمالي، على حد تعبير آكيم ستاينر، المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، وهو المنظمة الأممية التي أنشأت «الهيئة الحكومية حول تغير المناخ» بالتعاون مع المنظمة العالمية للأرصاد الجوية.

          ويقول ستاينر: «الأمر الآن معلق على الحكومات لكي تطبق آليات وحوافز كفيلة بإطلاق إبداع وبراعة الأسواق المالية والتكنولوجية من أجل تحقيق هذه الأهداف الاقتصادية، والاجتماعية والبيئية». ووفقًا لـ«التقرير، الذي حمل عنوان «تغير المناخ 2007: تخفيف التغير المناخي»، فإنه من دون اتخاذ الحكومات إجراءات إضافية، فإن انبعاثات سلة غازات الاحتباس الحراري الستة التي تغطيها معــاهدة كيوت و ستزيد بما يتراوح بين 25 و90 في المائة بحلول العام 2030 مقارنة بالعام 2000 (الغازات الستة هي ثاني أكسيد الكربون، والميثان، وأكسيد النيتروز، وسادس فلوريد الكبريت، والمركبات الكربونية الفلورية الهيدروجينية والمركبات الكربونية الفلورية المشبعة).

          ومع ذلك، فإنه من خلال تبنيها لسياسات أقوى في ما يتعلق بالتغير المناخي، ينبغي على الحكومات أن تبطئ هذا الاتجاه التصاعدي للانبعاثات ثم تجعله يتراجع، وفي نهاية المطاف تثبيت مستوى غازات الاحتباس الحراري الباقية في الغلاف الجوي.

          وعلى سبيل المثال، فإن تثبيت غازات الاحتباس الحراري عند 445 - 490 جزءًا في المليون- وهو الهدف الأكثر طموحا - سيتطلب أن تصل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى الذروة في العام 2015 ثم تنخفض إلى 50 - 58 في المائة من مستوى انبعاثات العام 2000 بحلول العام 2050. ومن شأن هذا أن يقيد ارتفاع درجات الحرارة تحت مستوى ارتفاع 2 - 2.4 درجة مئوية فوق مستويات عصر ما قبل الصناعة.

          وسيحتاج تثبيت مستويات غازات الاحتباس الحراري عند مستوى 535 - 590 جزءا في المليون إلى أن تصل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى الذروة في 2010 - 2030 ثم تعود إلى -30% إلى + 5 % من مستويات العام 2000 بحلول العام 2050. ومن شأن هذا أن يقيد ارتفاع درجات الحرارة تحت مستوى ارتفاع 208 - 3.2 درجة مئوية. وللمقارنة، يجب أن نذكر أن المستوى الحالي (2005) لغازات الاحتباس الحراري هو 379 جزءًا في المليون.

          وكان ملخص التقرير المخصص لصانعي القرار قد انتهى العمل فيه في أبريل الماضي ثم أقر لاحقا في مؤتمر عقد في شهر مايو في العاصمة التايلاندية بانكوك من قبل ممثلي 105 دول. أما النص الكامل لفصول التقرير، الذي شارك في كتابته 168 عالما (40 في المائة منهم من علماء البلدان النامية ومن بلدان الاقتصادات الانتقالية) وراجعه مئات الخبراء، فسيصدر لاحقا.

          وقد عالج التقرير سبل تخفيض الانبعاثات من القطاعات الرئيسية.

قطاع إمدادات الطاقة

          خلص تقرير الهيئة الحكومية حول تغير المناخ إلى أنه لا يوجد حل اقتصادي أو تكنولوجي منظور يمكنه وحده وفي ذاته أن يخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من قطاع الطاقة. وبدلا من ذلك، ينبغي على الحكومات أن تتبنى حزمة من الخيارات.

          على سبيل المثال، يمكنها أن تشجع الغاز الطبيعي على حساب الوقود الأحفوري الكثيف الكربون، وكذلك تكنولوجيات الطاقة المتجددة المدروسة مثل المحطات الكهرومائية، وحرق وقود الكتلة الحيوية والطاقة الحرارية الأرضية.

          وهناك مصادر متجددة أخرى مثل تكييف الهواء بمساعدة الطاقة الشمسية، وطاقة الأمواج، والخلايا الشمسية النانوية، غير أنها لاتزال تحتاج إلى تطوير أكبر تكنولوجيًا وتجاريًا.

          وهناك بديل آخر يتمثل في تكنولوجيا حبس الكربون وتخزينه، وتتضمن عملية حبس وتخزين الكربون استخلاص ثاني أكسيد الكربون قبل انبعاثه إلى الجو، وتسييله ونقله إلى مواقع آمنة، على سبيل المثال من خلال حقنه في تركيبات جيولوجية تمنعه من التسرب.

          وبغض النظر عن تغير المناخ، من المتوقع استثمار أكثر من 20 تريليون دولار في تطوير البنية التحتية للطاقة على مستوى الكوكب من الآن وحتى العام 2030.

          والتكلفة الإضافية اللازمة لتعديل هذه الاستثمارات من أجل تخفيض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري ستكون لا تذكر ولن تزيد على 5 إلى 10 في المائة.

المباني

          قال التقرير إن نحو 30 في المائة من الانبعاثات المتوقعة في القطاعين السكني والتجاري- وهو أعلى معدل بين القطاعات التي درستها الهيئة الحكومية حول تغير المناخ- يمكن تخفيضها بحلول العام 2030 مع تحقيق مكاسب اقتصادية صافية. ويمكن تخفيض استهلاك الطاقة والطاقة المتضمنة في المباني من خلال استخدام أكبر لتكنولوجيات قائمة، مثل التصميمات العمرانية المتفاعلة مع الشمس، واستخدام أنظمة وتطبيقات الإنارة وأنظمة التكييف والتهوية العالية الكفاءة، وسخانات المياه التي تعمل بالطاقة الشمسية، ومواد وتقنيات البناء العازلة للحرارة. ويمكن لسياسات الحكومات، مثل التحديث المستمر لمعايير البناء واستخدام الطاقة في المباني، أن تحقق المزيد من الفوائد.

المواصلات

          بسبب الطلب على المركبات، وانتقال المركبات، وعدم مرونة أسعار استخدام الوقود، فإن التحسينات الفعالة سيبتلعها النمو المتزايد في قطاع المواصلات إلى أن تظهر تكنولوجيات ثورية جديدة. وتركز التكنولوجيات الجديدة البازغة التي يمكنها أن تساعد في تخفيض الانبعاثات على توفير الوقود، ورفع كفاءة المحركات، وتصميم أعلى كفاءة لأجسام المركبات والقطارات والطائرات. وربما قد يلعب الوقود الحيوي دورًا مهمًا في تعويض نسبة من النفط الذي يستهلكه حاليًا قطاع المواصلات. ومن شأن توفير شبكات المواصلات العامة والبنى التحتية اللازمة لها وتشجيع وسائل المواصلات الخالية من المحركات تخفيض الانبعاثات.

الصناعة

          تكمن الإمكانات الكبيرة لتخفيض الانبعاثات الصناعية في صناعات كثيفة استهلاك الطاقة، مثل الصلب، والأسمنت، والورق، وفي تخفيض غازات الاحتباس الحراري الأخرى غير ثاني أكسيد الكربون، مثل الفلوروفورم الناتج عن تصنيع الفريون، والمركبات الكربونية الفلورية الهيدروجينية الناتجة عن صناعة الألومونيوم وأشباه الموصلات، وسادس فلوريد الكبريت الناتج عن الأجهزة الكهربائية ومعالجة الماغنسيوم، والميثان وأكسيد النيتروز من الصناعات الكيميائية والغذائية.

          وبينما بوسع التكنولوجيات الحالية إحداث تخفيض كبير في غازات الاحتباس الحراري الناتجة عن الصناعة، فإننا سنحتاج إلى تكنولوجيات جديدة ورخيصة التكلفة لتلبية أهداف تخفيض الانبعاثات على المدى البعيد. وينطوي نقل التكنولوجيا على أهمية أساسية بالنسبة إلى تسريع عملية الانتقال إلى تكنولوجيات نظيفة في البلدان النامية. وعلى المدى الأوسع، يمكن للحكومات من خلال مراجعة سياساتها أن تشجع الشركات على الاستثمار في مصانع وتكنولوجيات قليلة الانبعاثات.

          تعتبر خيارات تخفيض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في قطاع الزراعة أفضل اقتصاديًا من الخيارات في القطاعات غير الزراعية (مثل الطاقة والنقل) في سعينا نحو تحقيق الأهداف البيئية على المدى البعيد. فحجز الكربون في التربة يمثل نحو 89 في المائة من احتمالات الحد من تغير المناخ. وأبرز هذه الخيارات الإدارة المحسنة للأراضي المحصولية والرعوية (تحسين أساليب الزراعة، واستخدام المخصبات، وإدارة أفضل للمخلفات الزراعية وعمليات الفلاحة)، واستعادة مناطق التربة العضوية التي جففت لإنتاج المحاصيل، وإعادة تأهيل الأراضي المتقحلة. ويمكن تحقيق تخفيض غير قليل أيضًا من خلال إدارة أفضل للمياه وزراعة الأرز، وتغيير استخدامات الأراضي (مثل تحويل أراضٍ محصولية إلى مراع)، واستزراع الغابات، وتحسين إدارة الماشية واستخدام أسمدة.

          كبح المستويات العالية الحالية لاجتثاث الغابات وتشجيع عمليات التشجير يمكن أن يؤديا إلى تخفيض، وربما عكس، انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من قطاع الغابات. وعلى المدى البعيد، فإن أفضل طريقة لصيانة أو لزيادة قدرة الغابات على امتصاص الكربون هي إدارة مستدامة للغابات، والتي تنطوي ضمنا على كثير من المكاسب الاجتماعية والبيئية. بل إن إسهامها في تخفيض التغير المناخي إلى أدنى الحدود يبرر المزيد من الاستثمارات في تحسين صيانة الغابات والاستخدام المستدام لها.

          تعتبر مخلفات ما بعد الاستهلاك مسئولة عن 5% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري على مستوى الكوكب. وتتوافر لدينا حاليًا تكنولوجيات متطورة فعالة بيئيا لتخفيض الانبعاثات، مع مكاسب إضافية للصحة العامة، وحماية البيئة والتنمية المستدامة. ويمكن لهذه التكنولوجيات معا أن تخفض مباشرة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري (خاصة من خلال استخلاص الغازات المنبعثة من مكبات النفايات، وأيضًا من خلال إدارة أفضل للمكبات ولمياه الصرف)، وأن تتجنب توليد غازات الاحتباس الحراري (من خلال تحويل المخلفات العضوية إلى سماد، واستخدام أحدث التكنولوجيات لحرق المخلفات، والتوسع في إنشاء شبكات الصرف الصحي). وتشير تقديرات التقرير إلى أنه يمكن تخفيض 20 - 30% من انبعاثات المخلفات المتوقعة في العام 2030 من دون تكلفة تذكر، بينما يمكن أن تصل التخفيضات إلى 30 - 50 % بتكلفة منخفضة.

الثمن

          يستخدم الاقتصاديون النماذج لتقدير الآثار الاقتصادية للجهود الرامية لتخفيض الانبعاثات. وتعتمد النمذجة الاقتصادية على طائفة واسعة من الافتراضات، التي تنطوي على أهمية حاسمة بالنسبة إلى الاستخلاصات المتعلقة بتكلفة تثبيت مستويات غازات الاحتباس الحراري. وتتضمن الافتراضات الرئيسية هامش الخطأ، وسنة الأساس بالنسبة إلى الانبعاثات، والتغيرات التكنولوجية المتعلقة بها والانبعاثات الناتجة، وهدف ومستوى التثبيت، ومستويات التكنولوجيات المتوافرة.

          وقد تعامل كثير من النماذج الاقتصادية مع تكاليف تخفيض الانبعاثات باعتبارها نقصًا في الناتج المحلي الإجمالي. وعلى سبيل المثال، سيتراوح المتوسط الكوني للتكاليف الاقتصادية الكلية لضمان تثبيت مستويات انبعاثات غازات الاحتباس الحراري عند 330 - 710 أجزاء في المليون بحلول العام 2030 بين أقل من 3 في المائة وزيادة 0.6 في المائة. وهو ما يترجم إلى انخفاض سنوي في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي من أقل من 0.12 في المائة إلى أقل من 0.06 في المائة. وينبغي أن تقارن هذا الانخفاض البسيط بالتقديرات التي تتوقع أن ينمو الاقتصاد العالمي نموًا هائلاً في العقود القليلة القادمة.

          والتقرير الجديد، الصادر عن الهيئة الحكومية حول تغير المناخ، هو الجزء الثالث من التقييم الشامل الذي تصدره الهيئة كل خمس أو ست سنوات. ونتيجة تقييمهم تؤسس لما يمكن اعتباره معيارًا ذهبيًا لإجماع حول علم تغير المناخ.

          بينما خلص التقرير الثاني، الذي عرضنا له في عدد يونيو الماضي من «العربي»، إلى أن بلايين الناس سيواجهون نقص الغذاء والمياه ومخاطر الفيضانات المتزايدة نتيجة لتغير المناخ. والأسوأ من هذا أن هؤلاء هم أفقر فقراء كوكبنا، بينما كان الجزء الأول من التقرير، الذي صدر في فبراير الماضي وعرضنا خلاصته في عدد أبريل الماضي من «العربي»، قد حمل البشر المسئولية الكاملة عن الاحترار الكوني وتغير المناخ، وخلص إلى أن النشاطات الإنسانية هي المسئول الأساسي وبنسبة 90 في المائة عن الاحترار الذي سجل منذ خمسينيات القرن الماضي.

          بينما سيلخص تقرير رابع، سيصدر في نوفمبر المقبل، النتائج الإجمالية لـ«تقييم المناخ العالمي الرابع». وستكون هذه التقارير الأربعة عند اكتمالها «تقييم المناخ العالمي الرابع». وسينشر التقرير الكامل، الذي سيحمل عنوان «تغير المناخ 2007: أساس العلم الفيزيائي»، ضمن مطبوعات دار نشر جامعة كمبريدج في أواخر العام الحالي.

 

أحمد الشربيني   





التحسينات الفعالة في قطاع المواصلات سيبتلعها النمو المتزايد له





ينبغي تشجيع الطاقة المتجددة على حساب الوقود الأحفوري





فرص تخفيض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في قطاع الزراعة أفضل اقتصاديًا من القطاعات الأخرى





مخلفات ما بعد الاستهلاك مسئولة عن 5% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري على مستوى الكوكب





من دون اتخاذ الحكومات لإجراءات إضافية، ستزيد انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بما يتراوح بين 25 و 90 في المائة بحلول العام 2030





تغير المناخ سيشمل كل ركن وكل مجتمع على هذا الكوكب