ثروت عكاشة في ضيافة «العربي»

ثروت عكاشة في ضيافة «العربي»
        

على الرغم من زيارته القصيرة للكويت، وجدوله المملوء بالمواعيد، حرص هذا المثقف الكبير على زيارة مجلة «العربي»، وجلس بين عشّاقه ومحبّيه.

          افتتح الدكتور سليمان العسكري الجلسة النقاشية التي عقدت في صالون «العربي» بمناسبة حضور د. ثروت عكاشة إلى مقر مجلة «العربي»، حيث دار الحوار بينه وبين عدد من المفكرين والصحافيين ومن بينهم الشيخة حصة الصباح - مديرة دار الآثار الإسلامية بالكويت, والكاتبة ليلى العثمان وبدر سيد الرفاعي الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وسعدية مفرح شاعرة وصحفية بجريدة القبس.

الدكتور سليمان العسكري بدأ الجلسة بقوله:

          اسمحوا لي باسمي، وباسم العاملين بمجلة العربي، أن أرحب بضيفكم الكريم د. ثروت عكاشة وهو علم من أعلام ثقافتنا العربية. إنه لشرف كبير أن يشرفنا بالزيارة والحديث، وأتمنى له إقامة سعيدة، وأن يسجل لحظات كريمة في الكويت.  والدكتور ثروت عكاشة من أبرز من ترجم في مجال تلاقح الثقافات والفنون وأشاعها في كتبه، في إطار حوار الحضارات والحوار العربي - الأوربي. فهو يملك خبرة سنين طويلة في هذا المجال. وتعتبر كتبه بمنزلة ربط بين الثقافة العربية والثقافات الأخرى، وذلك الربط هو ما نحن بحاجة إليه الآن في مرحلتنا الثقافية.

          وهو ما نخطط له من خلال إقامة الجسور بيننا وبين بقية الثقافات العالمية. فمثلا قدم لنا الدكتور ثروت الفن الهندي، وقدم لنا الفن الشرقي والإسلامي. بل وأغلب الفنون الأساسية في حضارتنا المعاصرة وبعض الحضارات القديمة. وقد قدمها بشكل جيد وممتاز  وواع، فحتى على مستوى الطباعة، نجد أن أعماله قد خرجت بشكل فني جميل ومتميز وفي مستوى عالمي.

          د. ثروت: أشكر لأخي أو ابني الدكتور العسكري. الحقيقة عندما أكون في الكويت أشعر كما لو أنني في القاهرة بالضبط. وقد حرصت أشد الحرص على أن أحضر وأشارك في دعوة مجلة العربي الكريمة لي، بعد أن استضافني إخواننا في المجلس الوطني للثقافة والفنون، والذين قدموا لي فرصة جميلة لأن أكون في قلعة الثقافة الكويتية العربية.

الشيخة حصة الصباح - مديرة دار الآثار الإسلامية بالكويت:

          ربما يكون أحد الكتب التي أثريت بها المكتبة العربية كتاب: «تجربتي في الثقافة والفن»، الذي تكرمت بإهدائي نسخة منه منذ فترة قليلة والذي استمتعت كثيرًا وأنا أقرأه، ووجدت فيه فكراً سياسياً ناضجاً، وتعرفت فيه على فكر إنسان قدم الكثير لوطنه وأمته. وفي الكتاب، كتبت عن أوائل السبعينيات عندما انغمست في دراسة المنمنمات والمقامات، وتناولت من قضايا التصوير التي أثارت كثيرًا من الجدل. وقد يكون ذلك الجدل نابعا من موقف سياسي، ربما لا نستطيع تغييره، ربما نتعرف منك عن كثب علي رؤيتك لسبب إيقاف إصدار «المهراشا نامه»، وأيضًا عن نظرتك للتصوير الإسلامي، وبخاصة المحظور والمسموح فيه.!  

مشروع موسوعة الفن

          د. ثروت: كان هذا مشروعي منذ نصف قرن تقريبًا. وهو يتلخص في محاولة إفادة أولادنا وشبابنا بإطلاعهم على فنون الحضارة الإسلامية، وأبعادها الثقافية. وفي سنة 1952 كان فيه خلافات موضوعية بيني وبين رئاسة الجمهورية. وليس في اختلاف الآراء عيب. إلا أن هذا الاختلاف أدي بي إلى الانسحاب من العملية السياسية. وقد قمت بذلك بكل شرف ورجولة. بعد ذلك أسندت إليّ إدارة البنك الأهلي المصري، واعترفت للقيادة وقتها بأني جاهل بالاقتصاد، فقيل لي إن وجودك في هذا المنصب سيتيح لك فهم الاقتصاد، لأن في المستقبل قد يكون من الضروري إسناد عمليات مهمة في الاقتصاد لي. وهكذا مكثت أربع سنوات في البنك الأهلي، وكانت بالفعل مدرسة جميلة وحافلة بأعظم الشخصيات الاقتصادية والمصرفية. وقد تعلمت على أيديهم الكثير، مما لم أكن قد طرقته من قبل. ولكن مع ذلك احتفظت لنفسي بفترات من الراحة، حيث بدأت فيها بإنتاج أو إخراج أو إعداد موسوعة «تاريخ الفن»، والتي أطلقت عليها اسم «العين تسمع والأذن ترى»، وأول كتاب منها ظهر كان عن الفن المصري القديم، والثاني عن الفن العراقي، وأظنه قد طبع في بيروت، فقد كانت هناك إعاقة لصدور كتبي في مصر. ولم يكن ذلك طبعاً بفعل جمال عبدالناصر. بل على العكس، فقد كان جمال عبدالناصر هو من أمر البنك الأهلي ودار المعارف بأن يتوليا عملية إصدار كتبي. وبالفعل عقدوا معي عقدًا. ولكن أخلفوا هذا العقد بعد وفاة جمال عبدالناصر. واعتقد أنه منذ هذا الحين بدأت أشعر بأنه من الصعب أن أنشر كتبي في مصر. فلم تكن هناك أي دار نشر تريد أن تتعاون معي. ولذلك ذهبت إلى لبنان ووقعت العقد للسلسلة التي تشمل 30 جزءاً لدى مكتبة الكيالي. وقد صدر عدد من الأجزاء قبل وفاة الكيالي صاحب الدار. ولكن بعد ذلك لم أستطع أن أتعامل مع شقيقه. فقد كان هناك فارق كبير - مع كامل احترامي وتقديري - بين الأخ وشقيقه. وهكذا بدأت أحاول العودة إلى دور النشر الموجودة في القاهرة. ولكني ووجهت بحرب شديدة.

          أذكر أن طلب مني الأستاذ وزير الثقافة فاروق حسني أن أعد كتابًا عن الحضارة المصرية، وبعث من يفاوضني في هذا الموضوع، فطلبت منه أن يجلس معي لنحدد ما المطلوب بالضبط. حيث إن هذا المشروع كان متماشيا مع مشروعي الفني. ولكن مع الأسف لم يتحقق اللقاء. ولذلك اعتذرت.

          خلال هذه الفترة كان قد صدرت لي كتب عن «الفن العراقي» ثم الفنون الإسلامية، وبالذات في الجزيرة العربية. وكان التصوير بالطبع ممنوعًا فيها منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وقد زرت كل المكتبات التي تضم الكتب التي تحتوي المنمنمات، وزرت العراق وإيران لشهر ونصف الشهر، ثم تركيا، وكانت في الواقع لديها متاحف زاخرة بكثير من الأعمال العربية والآسيوية والتركية في ذلك الوقت، وبعدما أخذت فكرة كاملة عن مصادر التصوير الإسلامي، وجمعت الصور التي أردت استخدامها في تعليقي على مشروع التصوير الفني، وبالفعل أصدرت الكتاب، وقد ظهرت منه طبعة أولى وثانية وثالثة وفي كل واحدة كان هناك تنقيح على الطبعة الأولى. واستزدت علمًا بهذا الموضوع بالذهاب لمكتبات نائية، إن الأحاديث التي قيلت في تحريم التصوير في الإسلام، كان القصد منها ليس منع التصوير ذاته، بل عدم عبادة الأشخاص أو الأصنام أو أي شيء يحول دون التوجه إلى الله سبحانه. فمثلاً قد منع تعليق الصور في المساجد حتى لا يكون هناك ما يمنع المصلي أو العابد عن الخشوع لله، وحتى لاتشغله الصور الموجودة على الجدران أو السقوف عن صلاته... وما إلى ذلك. ولهذا السبب فقد اكتفوا في ذلك الوقت بالنقوش الرمزية وهي الفن العربي في الخط والأرابسك وكل النظم المعروفة عن الفن الإٍسلامي.

          وقد حاولت من خلال السفر إلى باريس أن أحقق مخطوطة «المهراشا نامه» وأتأكد من مصادرها. فوجدت هناك نسخة من القرن 16 من بلاد فارس رسمت على يد مصور مسلم. وكانت هذه المخطوطة تجمع حوالي 60 منمنمة، وهي تمثل قصة الإسراء في لوحات قليلة ثم تصور تفاصيل قصة المعراج في الجنة والنار والسماء.. إلخ. وقد ذهلت بجمال هذه المخطوطة، وبعد تحقيقها، وجدت أيضًا داخل مدينة باريس نفسها مخطوطة أخرى من رسوم «الواسطي» وهي مقامات الحريري وهي خفيفة الظل جداً. وكلكم قرأتم هذه المقامات المعروفة بخفة ظلها، وقد ظهرت دون اعتراض عليها. أما «المهراشا نامه» فقد دخلت في اعتراضات من الأزهر عليها. وكان أن تكلمت مع أ. محمد فايق، وكان يملك دار المستقبل ورجوته التعاون معي، وعرضت عليه المشاركة في النفقات، لأن عملية بيع الكتاب تتم بسرية، وهي حتى اليوم أيضًا سرية. والكتاب يكاد أن ينفد، وهو كتاب جميل جدًا.

          على العموم، حدث نزاع طويل بيني وبين الأزهر، حين اعترض على الكتاب. فكان أن قررت أن أجمع كل الكتب التي كتبتها في الفن لطباعتها في مجلد واحد، وطلب مني الأستاذ صاحب مكتبة لبنان - والذي كان قد طبع لي المعجم الموسوعي في المصطلحات الفنية والثقافية - أن أجمع 4 أو 5 كتب في كتاب واحد - عدا مهراشا نامه طبعًا، والذي يقوم هو بإصداره. وكانت فكرة جيدة. وعندما كان على وشك الطبع، طلبت البروفة النهائية، وقصدت الأزهر، فقابلت الشيخ طنطاوي وأريته العمل.

          والحقيقة أن الرجل قال: «إن مثل هذا العمل بعد هذا الجهد الكبير، لابد من نشره، فماذا تقترح؟»

          وكان مجلس البحوث الإسلامية هو الذي منع الكتاب في جلسته، فقلت له:

          «أقترح أن تعمل لجنة مصغّرة من شخصيتين، أنت تختار واحدًا وأنا أختار واحدًا، ليحكما على الكتاب».

          فوافق، فاخترت د. كمال أبو المجد وهو عضو في هيئة البحوث الإسلامية، وهو إختار الأستاذ أحمد الزوي، ودارت العملية، وانتهيا إلى ضرورة حذف صور للرسول كنت قد استخدمتها خلسة في كتاب المهراشا نامه، ولكنهما اكتشفاها وقالا لي هذه صورة للرسول، ولابد من حذفها!

          فقلت لهما: «سنتوصل إلى حل وسط».

          لأني أريد للكتاب أن يصدر، واقترحت أن أقوم بعمل شيء من إخفاء معالم الوجه في هذه الصور، فوافقوا ومرت العملية، والكتاب موجود والحمد لله، وأنا سعيد بهذا.

محمد المنسي قنديل- محرر من مجلة العربي:

          أريد أن أسأل عن عملك في وزارة الثقافة، وما هو موقفك من موضوع النخبة وغير النخبة.  وقد كان يقال عنك إنك تميل للفنون الغربية أكثر من ميلك للفنون الشرقية.

          د. ثروت: لقد صدر ضدي هذا الاتهام بالفعل. ولكني أعتقد أنني كنت متوازنًا خلال هذه الفترة.

          الدليل على ذلك هو فرقة الموسيقى العربية التي تم اسنادها إلي الأستاذ نواره - رحمه الله - وكانت ناجحة جدًا، وشيدت مسرح سيد درويش وهو مجال استماع سواء لموسيقى السيمفوني أو الموسيقى العربية.

          وقد استدعيت من باريس  واحدًا من أشهر قادة الأوركسترا في العالم ليقود أوركسترا القاهرة السيمفوني لأداء السيمفونية الخامسة، وتدعى سيمفونية الأرغون. وقد قمت خلالها بشراء أورج خصيصًا من براغ لأن العمل الموسيقي لابد أن يتضمن عزفا على الأورغ. وكانت وجهة نظري أنه ينبغي أن يكون العمل الموسيقي كاملاً دون نقص في أي آلة من الآلات... وهذا اعتقادي.

          وأقمنا هذه الحفلات العظيمة.. وأعطينا قائد الأوركسترا نيشانا طلبته له من رئيس الجمهورية، وأمام الجماهير كلها في صالة سيد درويش في أول افتتاح لها. وبعد ذلك، خصص يوم السبت من كل أسبوع لفرقة الموسيقى العربية. وكان ذلك بداية ما يشبه الحملة الموسيقية، حيث تعاقبت عليها الفرق الأخرى فأصبح عندنا الآن أكثر من 5 فرق موسيقية تتنافس. والتنافس ليس عيباً. بالعكس! لأن كل إنسان يجب أن يجيد أكثر من غيره العمل الذي يقوم به. إلا أن هذا التفكير في المنافسة قد يوحي بأني غربي التفكير. ولكن لست غربي التفكير.. بقدر ما أنا مجرد متتبع للحضارة الأجنبية ومؤمن بجمال ما فيها من فنون سواء الموسيقية أو التشكيلية أو الباليه. وكنت دوماً اتساءل لماذا لا نعد أنفسنا لنكون مثل الدول الغربية؟ لذلك عملت على أن يصبح لدينا مثل هذه الإمكانات. وفي هذا الصدد تمكنت والحمد لله من إقناع الرئيس جمال عبدالناصر بأن ننشئ جمعية الفنون. وأذكر أنه قال لي: هات لي موافقة من خمسة أعضاء في مجلس الثورة على هذا المشروع.

          وفي ذلك الوقت، كنا في الإسكندرية، وهكذا لم أجد أمامي إلا أن أمرعليهم في الكبائن واحداً واحداً لأجمع توقيعاتهم على هذا المشروع في ذات اليوم. وعندما رأي عبدالناصر التوقيعات، وافق على إصدار قرار جمهوري بهذا الشأن. ولكنه قال لي: ليس لدينا أموال لذلك، فعليك أن تدبر نفسك، فدبرنا أنفسنا بالفعل. فمثلاً كان وزير الأوقاف وقتها هو أ.أحمد طعيمة، فقلت له: لديك أراض في الأوقاف نريد أن نشتريها بسعر معقول. فأجاب: لدي أرض في طريق الهرم في الجيزة حوالي 03 فدانا. فسألته: بكم نأخذها؟ وما هي شروط السداد؟ فقال لي: السداد على 03 سنة ومن دون فوائد. وهكذا أخذناها ودفعنا ثمنها. أما المباني، فكان يجب أن تجهز بطريقة مختلفة عن المعاهد الأخرى سواء في الباليه أو الفنون المسرحية، فقد كان هناك آلاف مؤلفة من الخريجين والخبراء الذين استقدمتهم من فرنسا والذين مكثوا معنا مدة 7 سنين فيها. وكذلك أحضرت عددا من خبراء المسرح من فرنسا. وفي الباليه، أحضرت خبراء من البولشوي ونجحوا والحمد لله.

          الشيء الجميل جدا في عام 1969 كانت مناسبة مرور ألف عام على إنشاء مدينة القاهرة وكنا مازلنا نعاني من تأثير هزيمة 67. ورأيت أن يكون ما نفعل بمنزلة الرد الثقافي على الهزيمة. وأن علينا الاحتفال بمجد القاهرة وما أمدت به العالم من حضارة منذ آلاف السنين وحتى الآن. ولكن اشتعلت صراعات صحفية تقول إن هذا ليس هو الوقت المناسب للاحتفال وخلافه. فكان أن قابلت الرئيس عبدالناصر وأقنعته أنه لا يمكن تفويت هذه الفرصة لنثبت للعالم أننا صامدون ومازال لدينا قوة. وأننا نعد أنفسنا لمعركة جديدة للثأر. وبالفعل وافق عبدالناصر، وألقى كلمة في الاحتفال. وحضرت لدينا كثير من فرق العالم في الفنون والباليه والأوبرا على مدى سنة كاملة. وكان هذا مما يرفع الهمم قليلاً بعدما وقعت الهزيمة التي اشترك فيها مع إسرائيل الأمريكان. فقد كان الأمريكان يجلبون الدبابات عبر جسر جوي لإسرائيل جاهزة. لدرجة أنها كان مطبوعا عليها نجمة إسرائيل، بل وعليها كذلك اليهود المتطوعون. وكانت تهبط في العريش. بالطبع كانت هناك أخطاء جسيمة جدًا أخرى سببت الهزيمة. ولكن هذا موضوع آخر. 

سعدية مفرح: رئيسة القسم الثقافي - جريدة القبس:

          من خلال مشاركتك في تجربة الحكم في مصر بعد الثورة، هل أثرت هذه الثورة في مسيرة الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ وهل تعتقد أن الديمقراطية التي كانت موجودة قبل الثورة كانت ستعمل بشكل أفضل لو لم تقم الثورة؟

          د. ثروت: هذا موضوع معقد جداً. ولكن باختصار شديد، سأطرح سؤالاً: من هم الضباط، الذين قاموا بثورة يوليو؟ هم مجموعة منتقاة من الضباط وكانوا على صلة بعضهم ببعض وكانت خواطرهم الوطنية تشعر بالإهانة والجرح نتيجة لوجود الضباط الإنجليز داخل المعسكرات المصرية، فهذا كان شيئا جارحا جدًا. خصوصًا عندما اشتركنا مع الغرب في العمليات العسكرية في الصحراء الغربية. فقد كان ذلك يمس بالمشاعر مساً شديدا. وأنا شخصيًا كنت ضابطًا برتبة ملازم في ذلك الوقت. وقضيت مدة الحرب في الصحراء الغربية على رأس قوة مدرعات ثم انتقلنا إلى قناة السويس، من دون مدرعات لحراسة قناة السويس من القوات الألمانية.

          ضباط الثورة هؤلاء عانوا من مآسٍ كثيرة جدًا، خلال الحرب. ولا أقول ذلك لأني واحد منهم - أستغفر الله. فقد كان جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر ومحيي الدين وأنا كنا خريجي دفعة واحدة في كلية أركان حرب، وكانت الدراسة فيها سنتين. وكانت هذه الدراسة تجعلنا نعيش ليل نهار بعضنا مع بعض، لأنها عملية تجعلنا لا نذهب إلى بيوتنا نظرًا إلى كثافة الجهد المبذول فيها. وهذا قرب بيننا جداً واكتشف كل منا في الآخر سمات محددة وتقاربت أفكارنا. ومن يقم بإحصاء لأسماء الضباط الأحرار سيجد أن معظم من اشتركوا في الثورة هم من الأسماء الأساسية التي يعرف بعضها بعضا جيدا. فقد توطدت بيننا صداقة وألفة ووحدة في التفكير الوطني. وفي ذلك الوقت عرفنا جمال عبدالناصر بضابط مصري اسمه محمود لبيب. وكان منضمًا إلى تنظيم الإخوان المسلمين. وكان لبيب منوطاً به من قبل الاخوان المسلمين أن يتصل بالضباط، وبدأ يتقابل مع بعضنا، فاجتمعنا قبل حرب فلسطين واستشرنا جمال عبدالناصر عن رأيه في أن ننضم إلى الإخوان المسلمين، فوافق بعضنا ورفض البعض الآخر فانفرط العقد قليلاً. وأذكر أنني انضممت إلى الإخوان شخصيا لأني كنت متأثرًا بشخصية حسن البنا. فقد كنت أراه مثلاً أعلى بيننا، بينما كان الخراب موجودًا والظلم موجودًا، حيث الحال سيئ جدا ذلك الوقت. بالفعل انضممنا للإخوان ولكن حدث بيننا خصام بعد ذلك. حيث إنهم طلبوا منا أن نحلف اليمين على مصحف وسيف، فرفضنا. وقلنا سنأخذ قرارنا بأنفسنا، وبعدها قامت الحرب في فلسطين وذهبنا جميعًا. وطبعًا كنا نجتمع كل شهرين أو ثلاثة. لأن كل واحد منا، كان موجودًا في قطاع مختلف عن الآخر ولا يستطيع أن يترك جنوده أو مدرعاته للاجتماع بشكل مستمر.

          وهكذا كانت فترات الهدنة هي الفرص الوحيدة التي نستطيع أن نجتمع فيها معاً. وكنا كل يوم نتقابل أثناء الهدنة في مكان ما، فمرة عند وجيه خليل البطل الأعظم الكبير الذي أسس أول جمعية من ضباط القوات المسلحة لمحاربة الاستعمار وسقط شهيدًا في حرب فلسطين وهو ينقذ ضابطًا مسيحيًا زميله. وكان زميله هذا قد وقع ضحية أمام خطوط الأعداء على الأسلاك الشائكة فما كان منه إلا أن حمل الضابط ووضعه في السيارة المدرعة وعندما كان يقفز إليها أصيب بطلقات نارية من جندي إسرائيلي، ومات كالشهداء العظام. ولو كان موجودا حتى الآن ما كان جمال عبدالناصر ليصبح رئيسا للضباط الأحرار. ولو كان أحمد عبدالعزيز موجودًا ما كان لجمال أن يكون رئيسا لهذا الجهاز ولكان أحمد عبدالعزيز أول الناس وكلنا كنا سنكون صاغرين مطيعين له. ولكن استشهد أحمد عبدالعزيز، وكان أستاذا للتاريخ الحربي لنا وكانت أمتع محاضرات هي محاضراته عن التاريخ الحربي ووصفه للمعارك البديعة وخاصة معارك الفرسان. وكان معجبًا جدا بقائد عظيم هو ستونويل جاكسون الذي كان يقود قوات الجنوب في الحرب الأهلية الأمريكية، وقد قتل هذا القائد برصاصة من جيشه هو، وكان يذكر لنا دومًا هذه القصة. والغريب أنه هو نفسه قد قتل بنفس الطريقة، حيث إن واحداً من جنوده أخرج طلقة من دون أن يدري من بندقيته، وسقط الرجل شهيدًا مثل القائد الذي يحترمه ويشيد به دوماً.

          هذا رأيي في قادة الضباط الأحرار. وأنا لم أكتبه ولكن بعد تفكير طويل توصلت إليه. فقد كنت أتساءل: من يا ترى، لو لم يكن جمال عبدالناصر موجوداً، كان سيقود الضباط الأحرار؟.. وجيه خليل؟.. وهل يتفوق على أحمد عبدالعزيز؟ فكانت الإجابة: لا. إلا أنهم جميعا في مسألة الشجاعة متساوون. ولكن كان التاريخ سوف يتغير لو أن أحمد عبدالعزيز لم يمت بهذه الطريقة -  أنا خرجت عن الموضوع قليلاً  - فقد كان السؤال عن العلاقة بين الثورة والديمقراطية.. أنا آسف ولكن عواطفي عن شهداء البطولة العظام تجعلني أقشعر وأنا أتكلم عن سيرتهم.

          جمال عبدالناصر هو من كنا نثق فيه لرجولته وشهامته وتضحياته من أجل الآخرين. كل هذه الأخلاق والشجاعة وإيمانه القوي بضرورة محاربة الإنجليز وإخراج الإنجليز من مصر جذبتنا إليه، فوجدنا أنفسنا نلتف حوله. وكنا قبل ذلك حوله قبل الثورة، وعندما سمعنا أنهم قد قتلوا النقراشي، كما قتلوا - لا أذكر? أحمد ماهر. فاتخذنا موقفاً ثابتا وقلنا: لا.. نحن لسنا قتلة! وعقدنا عهدًا بيننا على تكوين تنظيم الضباط الأحرار فور انتهاء الحرب.

          وهكذا كان جمال هو القائد الذي يمكن أن يقودنا فعلا. لم يكن هناك أفضل من جمال لأنه كان يجمع كل الصفات المتمثلة في الوطن، وطرحنا مباديء الثورة الستة.

          كان أهمها ليس إسقاط الملك.

          لم نفكر يومًا في إلغاء الملكية قبل الثورة.

          بل كنا نريد تجديد سلاح الجيش، وطرد الضباط غير الأكفاء ثم الحكم النيابي، أي الديمقراطية. فهناك عدد كبير من الضباط وخصوصا في سلاح الفرسان كان مصممًا على مسألة الديمقراطية.

          إذن كانت الديمقراطية أحد المبادئ الأساسية للثورة، لكن ما حصل أنه لم يكن هناك خطة واضحة في الحكم. ولم نفكر ماذا سنفعل لو أننا حكمنا مصر. لم يخطر ببالنا هذا السؤال في يوم من الأيام. لذلك، ومع الأسف الشديد، انحرفت الثورة ولم تحقق مبدأ الديمقراطية. ولكنها زيفت الديمقراطية. أنا مضطر أن أقول وأنا كاتب هذا الكلام وهو منشور، وقد كتبته عندما كنت أرأس مجلة «التحرير». وكنت الضابط الوحيد الذي رجع إلى ثكناته بعد نجاح الثورة. وعلى الرغم من أن عبدالناصر قد استدعاني وقال لي: مكانك موجود في مجلس الثورة، فإني قلت له: أنا لم أعمل هذا العمل لكي أحصل على منصب، بل أنا في منصب أفضل. لا أريد مناصب في مجلس الثورة. الحكومة ستكون حكومة ديمقراطية كما كان اتفاقنا.. أليس كذلك؟ فقال: طبعا. فقلت له: أنا سأعود إلى موقعي العسكري. فالإنجليز كانوا على وشك أن يهاجمونا. فقد علمنا أنه كانت هناك خطة لإجهاض الثورة. ولكني لا أذكر اسمها «أي ورويدو» «تقريبا» ونحن كنا نعلم هذا الأمر. فقد كنت تخصص مدرعات وكنت في رئاسة أركان حرب القوات المسلحة. وقررت أن أعود مرة أخرى إلى السلاح، حتى نقود المعركة ضد أي هجوم إنجليزي متوقع. لذلك عندما طلب مني عبدالناصر أن أنضم لمجلس الثورة اعتذرت. ولكنه سألني: ترشح من بدلاً منك؟ فقلت له: حسين الشافعي. وهذا الكلام كتبته في مذكراتي. قلت له: حسين الشافعي أكبر مني سنًا وأعلى رتبة واشترك معنا في الثورة. وهو أولى مني. بينما أنا سأعود لأقود المدرعات لاعتبارات الدفاع عن مصر.

          ولكنه بعد ذلك طلب إلي أن أرأس مجلة اسمها التحرير. وكان قد أسندها إلى أحد الشيوعيين، فثارت الناس على وجود الشيوعيين في المجلة لدرجة أنهم كانوا يسمونها «المجلة الحمراء». واستدعاني أمام خالد محيي الدين، وقال لي: تسلم رئاسة تحرير مجلة التحرير. فقلت له: لن أترك المدرعات. فقال لي: لا.. أنت خريج معهد الثقافة وكنت تكتب بصفة مستمرة، وهذا عمل مطلوب منك. فقبلت ولكن بعد ذلك حصل خلاف بيني وبينهم. وفي أول عيد للثورة في يوليو سنة 35 كتبت مقالة عنوانها: «لهذا قمنا بالثورة»، وكانت في عشر صفحات في المجلة التي أرأس تحريرها. وفيها حكيت كل صغيرة وكبيرة وهكذا وقعت المشاكل. فبالطبع كان هناك أناس لم يشاركوا في الثورة، وأتيت على سيرتهم في المقال، فقامت الدنيا ولم تقعد. وقام أحد الوزراء المسئولين يعلن في الصحافة وفي الإذاعة أن مجلة التحرير أصبحت لا تمثل القوات المسلحة ولا تمثل الثورة، على الرغم من أنه هو نفسه لم يشترك في الثورة.

          «يضحك».. طبعًا ذهبت من فوري إلى عبدالناصر فوجدته متجهم الوجه جدًا. فقلت له: هل تقبل هذا الكلام؟ فلم يرد، ولكنه حرك رأسه. فقلت له: هذه استقالتي. لا أريد أن أشارك في الحكومة بعد الآن. وسلمته الورقة وغادرت، أتاني خالد محيي الدين في اليوم التالي، وقال لي: غادر مصر. فاستغربت وقلت له: كيف أغادر مصر؟ فقال لي: هذا قرار مجلس الثورة. فقلت له: أنا عسكري وسأطيع الأوامر. ولو أردتم أن ترسلوني لأي مكان فلن أخالف. فقالوا لي: ستذهب كملحق عسكري خارج مصر؟ أين تريد أن تذهب؟ فقلت لهم: اختاروا أنتم الدولة. أنا لن أختار. أنا عسكري وسأطيع. فقالوا لي: سوف ننشئ مكتب ملحق عسكري في سويسرا خصوصاً من أجلك. فقلت: كما تريدون. وفعلاً سافرت إلى سويسرا، وهذا الكلام أنا كتبته في مذكراتي وموجود، ولكني أقول إنها كانت أكبر صدمة عاطفية في حياتي. فقد كانت هذه من التجارب التي رأيت فيها بعيني أنه لم يعد هناك معنى للصداقة، وكانت المرة الأولى التي أرى فيها أنه لا وزن للمصلحة العامة. وهكذا سافرت حزينًا جدًا أنا وزوجتي وولداي الاثنان وأنشأت المكتب وعملت هناك وكتبت هذه الأشياء في مذكراتي بالتفصيل.

 

   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




د. ثروت عكاشة بين د. سليمان العسكري والسفير المصري عبد الرحيم شلبي في ضيافة صالون «العربي» بحضور نخبة من المثقفين





عكاشة يتحدث عن حساسية التصوير في الفن الإسلامي





د. العسكري يقدم نسخة من كتاب الواسطي هدية للدكتور عكاشة