عصر ثقافة الصورة.. د. سليمان إبراهيم العسكري

عصر ثقافة الصورة.. د. سليمان إبراهيم العسكري
        

          إذا جاز لنا توصيف عصرنا الذى نعيش، فهو باتفاق الآراء أننا نعيش عصر الصورة، ومن ثم فإن الشكل الثقافي السائد لعصرنا هو ثقافة الصورة، وفي مواجهة هذه الظاهرة التي هي جديدة بالرغم من زحفها الكاسح، تفجرت احتجاجات انتقادية لاترى في هذه الظاهرة إلا تهديدًا مدمرًا للهويات، وإلغاء لأنماط ثقافية جهدت الإنسانية في إنجازها قرونًا وقرونًا من السنين. وبالرغم من بعض الحقيقة في هذه المقاربات النقدية، فإن الاستسلام  للحديث عن ثقافة الصورة كشرّ مطلق، إنما يفوت علينا فرصة الاستفادة بأي خير قد يكون موجودًا في ثناياها، وواجبنا نحو أمتنا وثقافتنا العربية، يحتم علينا أن نجدّ في البحث، حتى لانخسر فرصة قد تكون متاحة عبر هذا الاجتياح الثقافي الخطير.

  • باتت الصورة أداة تصنيع لعالم متخيل ينوب عن العالم الحقيقي لأهداف وغايات لقوى الهيمنة لا يمكن أن تكون بريئة في معظم الأحوال.
  • الإخضاع لا يتم دائما بقوة السلاح، فالإخضاع الثقافي، ومنه ثقافة الصورة، أقل كلفة وأقوى تأثيرا وأبقى على المدى الطويل.
  • حتى لا تهلكنا عاصفة الصور، علينا أن نحتفظ بسلامة بصيرتنا النقدية، وأن نتساءل عن المغزى من شكل وجوهر مانستقبله.
  • هناك ومضات كاشفة لشرفاء ومبدعين في هذا الحقل المرئي شكلت أعمالهم رسائل عدل مضادة لرسائل الهيمنة والإخضاع.

          العالم يجتاحه طوفان من الصور، هذه حقيقة لا مراء فيها، فللمرة الأولى في تاريخ البشرية الطويل على هذه الأرض، بات في مقدور بلايين البشر أن ينالوا قدرا من التجليات البصرية للتقنيات الحديثة، سواء كانوا فقراء يتجمعون حول بث الفضائيات في المقاهي الرخيصة ورقميات التواصل المصورة في مقاهي الإنترنت، أو ميسورين يمتلكون في بيوتهم أحدث أجهزة التلفزيون واستقبال الفضائيات وأثمن أجهزة الكمبيوتر القادرة على الاتصال السلكي واللاسلكي بشبكة المعلومات العالمية، بل الكوكبية. فإذا أضفنا إلى ذلك مصادر الصور المتاحة الأخرى، من شرائط مصورة، رقمية ومغناطيسية، وأقراص مرنة وأخرى مضغوطة، وأجهزة قادرة على بث الصور الرقمية وغير الرقمية في كل ذلك، فإننا نكون في مواجهة طوفان حقيقي من الصور. ولا يتبقى إلا أن نقرر: هل نطفو على سطح هذا الطوفان، أم أننا نغرق فيه؟

من المعيش إلى المرئي

          لقد باتت الصورة جزءًا من الواقع المعيش في زمننا، وربما صارت بديلاً له، بل حتى أداة تصنيع لعالم متخيل - غير حقيقى - ينوب عن العالم الحقيقي لأهداف وغايات لا يمكن أن تكون حميدة في معظمها، وإن كان بعضها حميدا، من زاوية واقعنا العربي، فالصورة تعيد إنتاج العالم فتغدو حدثا محسوسًا مما يقوي من دورها ويفرض وصايتها على المشاهد الذي تبتلعه بهيمنتها ولا تدع له فرصة للتأمل، وهي بالطبع وافد يحمل في جعبته من الخبايا مايحمل، ولقد ذهب أحد المفكرين الغربيين وهو «جي ديبور» Guy Debord إلى القول إن المنتج الأساس للمجتمع الحديث (أي الأوربي أو الغربي تبعًا لرؤيته) هو مجتمع المشاهدة، والمشاهدة، تبعا لتعريفه، هي مردود الصور المتراكمة بتراكم رأس المال، فما كان ماديًا غدا تمثيلاً للمادة، وفي هذا الطريق أيضا يذهب البعض إلى القول إن العولمة ماهي إلا صنيعة الصور المتبادلة عبر الوسائط الإلكترونية، وترتب على ذلك تغيرات في وسائط الاتصال التقليدية أتاحت مصادر جديدة لتخيل الذات والآخر، بل إنها لاتتوقف عند حدود مجرد الاتصال، بل تمارس التأثير بأكثر الأدوات نفوذا ومكرا، وهي الصورة، ومن ثم تمارس إعادة الصياغة الثقافية للبشر تبعًا لإرادة صانعي الصور ومروجيها، وهذه الصياغة لا تتوقف عند أنماط التفكير المسايرة لإرادة المهيمنين، بل تمتد إلى صياغة تقاليد وافدة في الطعام والشراب واللباس والمسكن وحتى فى السلوك العام اليومي، كما في الفنون بجميع أنواعها. وهكذا لم تعد الصورة مجرد أطياف من أثير بل أصبحت أداة حفر وتشكيل وصياغة لمتلقيها، أي إخضاعا لاشعوريا لإرادة خارج الذات التي لاتصنع أو لا تشارك في صنع هذه الأداة، كما تُتهم عاصفة الصور بكونها مسيرة للقطيعة مع أشكال الماضي كافة، وفي قلبها الهويات الثقافية الخاصة أو المحلية لبعض الشعوب التي لم تعد تصنع حاضرها وتاريخها، بل يصنعهما لهم الآخرون الأقوى بمعايير عالم اليوم، وصناعة الصورة هي واحدة من معايير القوة لدى القوى المهيمنة الآن.

          هذا الواقع الجديد، الذي تصوغه «عاصفة الصورة» دفع ببعض من مثقفينا للشك المشروع عند تناولهم للظاهرة، تقول  الدكتورة ماري تريز: «ينبغي إذن التعرف على العلاقة بين الفرد والتكنولوجيا، وما أفضت إليه من ممارسات سلطوية جديدة متخفية في ثقافة الصورة، نتيجة اختراق اقتصاد السوق للمعاملات بين الذات والآخر، خاصة بظهور مجتمع المشاهدة، فقد تزامن نمو مجتمع المشاهدة مع النمو التدريجي للتكنولوجيا المستخدمة في تمثيل الذات والآخر عبر المنافذ البصرية المتنوعة».

          إذن لم تكن محاولة تمثيل الواقع المحسوس بالصورة ـ في أحد جوانبها ـ إلا تكريسًا لهدف غير ثقافي، أو مضاد للثقافة المحلية على الأقل، وسكبًا للماء في طاحونة اقتصاد السوق بأبشع ملامحها شراهة ورغبة في الهيمنة، وبمنطق وآليات سياسة «التسويق» التي لا تتعامل مع البشر وعالمهم إلا كمستهلكين وسلع للاستهلاك، وهو مايمكن ان ندعوه تجاوزا «ثقافة الاستهلاك» أو «الثقافة الاستهلاكية»، التي لم تستثن مجالاً إلا وحاولت اختراقه، ابتداء من ساحات الطعام التي بثت فيها حمى «الوجبات السريعة»، حتى الفنون التي تحاول انتزاع العنصر البشري والإنساني في إبداعها وإحلال الهندسة والتقنية الرقميتين في إخراجها للناس وبمنطق الإنتاج بالجملة وللعموم، كأي سلعة ابتداء من أحذية الرياضة حتى الوجبات الجاهزة، وهو مما ينتقده مفكرون غربيون معاصرون مثل سايمن بني Simon Penny بقوله: «إن التكنولوجيا ساهمت في تقديم تقنيات السرعة والدقة وتوفير الجهد، فارتبطت بالاستهلاك السريع استجابة لمتطلبات السوق، ويستحيل على الفنان التعامل مع الأجهزة الإلكترونية من دون التعامل مع اقتصاد السلع الاستهلاكية». إن القطيعة مع الماضي، التي يجري إحداثها بسكين «عاصفة الصور» في «مجتمع المشاهدة»، وبمنطق اقتصاد السوق، وتوجهات العولمة، لا تستهدف أنماط العيش فقط، بل حتى الفنون، والآداب، والتقاليد المحلية، وكل هذا لايجري، بالضرورة، تحقيقه بفعل «المؤامرة»، لكنه يتم بطبيعة هذا المنجز التقني المرتبط بثقافة الصورة، التي لاتزال بحكم نشأتها وتطورها والمزيد من تطويرها وترويجها، بعدا ثقافيا وافدا يفتقد الأصالة، ولاتزال تنقصه المواءمة مع الجذور الخاصة بمعظم بنية الثقافة العربية، وحتى هذه اللحظة التي تتراكم فيها متغيرات جامحة، ويولد فيها جيل عربي جديد محاصر بكل مسببات القطيعة مع ثقافته الأم، ومدفوع بإغراءات قوية للذهاب بعيدا في طوفان الصور.

          يقول  الدكتور خالد حسين، بحرارة تنبثق من رؤيته لثقافة الصور كغزو، بل وحش يستهدف التهام الوجود الإنساني واستبدال عالمه بعالم بديل هو عالم المرئي «يتبدى المشهد الكوني كما لو أن الأمر يتعلق بغزو مؤجل، فانفلت من عقاله في غفلة مريعة من مشيئة المقتدرين على أمره، وبانذهال صامت ومحير من الطرف المستهدف بالغزو، هكذا حال العالم اليوم مواجهة سيل الصور وهي تجتاحه تحت طائلة الهيمنة والإمبريالية الجامحة لجنونها، تأتي الصور لتنتقم لحضورها - الغائب في غمرة الزمان المنقضي - لتستيقظ فجأة وتلتهم العالم بلذة، وتحاصر الكائن الإنساني بطريقة لامثيل لها. إنها الصورة تغزو العالم وتعربد في فضاءاته، وتدك أمكنته بجيش جارف من كائناتها، سيل من الصور لا يتوقف، يتغلغل في كل مكان حتى غدا الأمر أقرب إلى الفكاهة والرعب في آن واحد. فماذا يفعل العالم بكل هذه الصور المندلقة عليه من كل صوب؟ هذه الصور التي تضرب عليه حصارًا، فما إن تختفي موجة من الصور حتى تكون أخرى  قد حضرت، ليغدو الزمن زمن الصورة وإرادة المرئي في الفتك بالكائن الإنساني وإزاحته نحو الزاوية الأضيق على مدار العطالة والانذهال جراء هذا الحضور الملغز والمخيف والجميل للصور».

          هذا الحضور الطاغي للصور الذي يستنفر انتباه وربما احتجاج الكاتب: الإعلانات وصور الزعماء والفنانين والمباريات والاحتفالات والمسلسلات، مشاهد الجنس وعروض الأزياء وملكات الجمال وملوكهم أيضا! والمصارعة الحرة.. و..و. هذا الحضور الطاغي «للزائل» هو الذي يدفع «الوجود» ـ بالمعنى الذي عناه الفيلسوف هيدجر ـ للانسحاب من «العالم» لحساب وجود مرئي تختلقه الصورة وترسخه، وهو وجود بديل يزيح الواقع الفعلي، ويصير الواقع الذي يراد لنا أن نتعامل معه على أنه الواقع الحقيقي، واقع الصورة أو الواقع الفائق الذي أضحى أشد واقعية من الواقع المعيش. إنها مخاوف، وتحذيرات، قد يكون بعضها مبالغا في رنين نواقيس التنبيه التي يقرعها، لكنها مؤسسة بلا ريب على واقع نشهد تغيراته بأعيننا، بل نسبح أو نغرق في هذه التغيرات، وهي تستدعي منا أن نتوقف ولو قليلاً لنتأمل محتواها وآلياتها، لعلنا نخرج ببعض الضوء في نفق هذا الطغيان الثقافي الكاسح الجديد.

الفخاخ في ثنايا الصور

          حتى الآن لا نستطيع- كعرب - أن نزعم أننا منتجون في مجتمع المشاهدة، فنحن بكل ما يتدفق علينا من وسائط متعددة عبر منافذ الإنترنت والفضائيات، بما فيها الفضائيات العربية، لسنا إلا مستهلكين، ومن ثم فنحن معرضون للاستلاب، ومن بين الأشياء المرشحة بادئ ذي بدء لأن تُستلب منا تأتي ثقافتنا الممثلة في الشفهي والمكتوب، خاصة أننا أمة تشكل لغتها محور هويتها،  وتشكل اللغة وعاء المكتوب والشفاهي بين أهلها. وهانحن نرى الأداء اللغوي المتسيب على شاشاتنا العربية، بل الإزاحة المتعمدة للصيغة الجامعة لنا لغويا، صيغة العربية الفصحى، فإذا أضفنا إلى ذلك استهلاك الوقت والجهد الذي كان يمكن ان يذهب بعضه للقراءة أو حتى لتبادل التواصل الشفاهي، لأدركنا خطورة هذه الإزاحة التي تمارسها المشاهدة لتقليص هذا الجزء الحميم من هويتنا في الشفاهي والمكتوب، ولأن هذا الجزء الحميم هو الذي يصنع ويطور الإدراك عبر الممارسة اللغوية، فإن إزاحته لمصلحة زحف الصور إنما تعني فتح الأبواب لصياغة الإدراك العربي تبعا لإرادة القوى المهيمنة على إنتاج طوفان الصور.

          وليس هذا إلا مجرد واحد من الفخاخ المبثوثة في ثقافة المشاهدة التي نستهلكها أكثر مما نصنعها، فإضافة إلى الصياغات الماكرة التي تتضمن رسائل بعينها في صياغة الخبر وتقديم المشهد، حتى التسجيلي منه، نرى أن ثقافة المشاهدة المنصبة علينا تروج لنوع من الديموقراطية مزدوجة المعايير، وتخفي وراء الإغراء بإتاحة حرية الحصول على المعلومات نوعا من تقسيم العالم إلى قادرين على مسايرة التقدم التكنولوجي لتحقيق تلك الديموقراطية، وغير قادرين يحتاجون إلى الوصاية عليهم. فمجتمع المشاهدة الذي ننخرط نحن فيه كمستهلكين، إنما يمارس علينا تسويق الذات المهيمنة بغرض الإعلاء من شأن هذه الذات على حساب الآخر -الذي هو نحن - بهدف إخضاعه - ومن الإخضاع ما لايتم بقوة السلاح، فالإخضاع الثقافي أقل كلفة وأقوى تأثيرا وأبقى على المدى الطويل، لأنه يتغلغل داخل الذات المستهدفة بالغزو حتى يتم إخضاعها دون أن تستشعر قسرًا ولا عنفًا - بالمعنيين التقليديين للقسر والعنف - بل تتحول هي ذاتها إلى أداة ترويج للأنماط التي أُريد لها أن تكونها من دون وعي أو من دون انتباه. وليس أدل على ذلك من المحاكاة التي تقوم بها معظم مساهماتنا في مجتمع المشاهدة، برامج التسلية، والتوك شو، والمسلسلات التي لا تنتهي، والتكريس لكل قيمة خفيفة أو عابرة.

          وعلى المستوى الفردي فإن هذه العاصفة من الصور، التي تجتاح الملايين في وقت واحد، بإرادة واختيار من يملك تحريك هذه العاصفة، إنما تحوّل الأفراد أنماطًا، فما يبدو على السطح أنه تجانس يخفي في باطنه خضوعًا يفضي إلى اغتراب عميق لدى الأشخاص نتيجة تصفية خصوصيتهم النفسية والثقافية.

          إنها عاصفة حقيقية، وإن تكن من صور، ومكمن جبروتها في قوة هذه الصور التي تستوعب مجمل انتباه الكائن المستقبِل لها، الذي إن أردنا له النجاة، فسيتحتم علينا أن نطبق أجفاننا قليلا لنفكر في آلية، أو وسائل، للاستفادة من هذه العاصفة، مادمنا لا نملك القدرة على وقفها.

أما من طوق للنجاة؟

          إن نقاد الثقافة المرئية يتبنون مواقف مختلفة من تأثيراتها في البشر، فبينما يرى البعض فيما يسمونه «الواقع الخائلي» الذي تصنعه الصورة، ثورة تكنولوجية لها مردودها الحضاري على الإنسان، يرى آخرون أنها تثير المخاوف مع هذا التوسع الكاسح، الذي يمكن أن يكون غير معقول وغير عقلاني في توسعه، مع التطور المتسارع لمجتمع المشاهدة واستشراء وسائط نقل وتخزين واستدعاء الصور التي تتعدد مبتكراتها مع كل يوم يمر، بل مع كل ساعة من أعمارنا.

          أمام هذا الاختلاف في المواقف النقدية، يجب ألا نتحير، فنحن نريد النجاة، نريد مكانا أكيدا تحت شمس هذا الحاضر الذي تعصف به رياح الصور، مادامت هذه الرياح بدأت ولم يعد ممكنا وقفها، بل لا يجوز إيقافها، ونريد أن يكون المكان الذي نشغله تحت هذه الشمس وفي خضم هذه العاصفة، مكانا ملائما لسلامتنا، ولن تكون لنا سلامة إلا بالحفاظ على كل ما هو جيد من هويتنا، وفيها من الجيد الكثير، مع تطعيمها بكل ملائم وحتمي من لغة العصر ومنجزاته، فكل منجز عصري هو سلاح ذو حدين، يمكن أن يفيد وأن يضر، فكيف نفيد من هذه العاصفة، ونجعلها هواء صحيًا مجددًا للروح الخاصة بأمتنا؟

          أعتقد أن الموقف الأساس من الثقافة المرئية، أو عاصفة الصور، هو أن نحتفظ بسلامة بصيرتنا النقدية، وأن نتساءل عن المغزى من شكل وجوهر ما نستقبله، ونستحضر بشكل دائم أسئلة هويتنا وأصداء تاريخنا ووقائع حاضرنا، لعلنا نرى الرسائل المضمرة في كل سيل بصري يجرفنا فنستطيع التشبث ببعض من شواطئ النجاة. بل لعلنا نستطيع تفكيك تلك الرسائل لنقرأ فيها ما يضمره لنا الآخرون، إن كان هناك ما يضمرونه، فنتخذ الموقف الصحيح وننجو بلا خسائر أو بأقلها.

          وليس هذا الموقف النقدي في مجتمع المشاهدة مطلوبًا منا حيال سيل الصور الوافدة وحدها، بل هو مطلوب أيضًا حيال هبوب الصور التي تأتي من بين أيدينا، فثمة محاكاة ساذجة، وركيكة كثيرًا، تنتفخ بها برامج الفضائيات العربية التي تتخذ من كل ما هو خارج حدود هويتنا نموذجًا، تظنه النموذج الوحيد للعيش المتحضر.

          بعد هذه الوقفة النقدية كمستقبلين ومتلقين في مجتمع المشاهدة، لابد لنا من الترحيب بالنقاط المضيئة في هذه العاصفة المرئية، فالصورة لم تكن نقمة دائمًا، بل كانت نعمة في كثير من المواقف، ولاتزال، فهي صوت من لا صوت لهم في كثير من الأحيان، ورسالة إنسانية بليغة تطوعت التقنيات الحديثة بحملها عمن لم يكن ممكنا لهم أن يرسلوا أي رسائل وهم في غمار الكوارث أو محرقة الحروب، بل هناك ومضات كاشفة لشرفاء ومبدعين في هذا الحقل المرئي شكلت أعمالهم رسائل عدل مضادة لرسائل الهيمنة والتنميط والاستلاب.

          ويتبقى أن نلح على أن نزيد من فعلنا في هذا المجتمع الجديد، مجتمع المشاهدة العالمي، مجتمع ثقافة الصورة، نشارك فى إنتاجه ونرسل عبره رسائل أحلامنا واحتجاجاتنا وحقوقنا العربية للعالم، ونتبادل مع أهلنا كل ما يدفعنا ويدفعهم للأفضل في عالم مختلف، عالم ثقافة الصور التي لا بد لنا من استثمار جوانبها الحضارية كقيمة مضافة لهويتنا وثقافتنا وإنساننا العربي.

 

سليمان إبراهيم العسكري