الفاصل الأخير ماشادو دي أسيس ترجمها عن الإنجليزية: خليل كلفت

الفاصل الأخير

تسود بين المنتحرين عادة ممتازة تتمثل في عدم الرحيل عن هذه الحياة دون كشف الدوافع والظروف التي سلّحتهم ضدّها. أما أولئك الذين يغادرون في صمت فنادرًا ما يفعلون ذلك عن غرور. فهم, في معظم الحالات, إما لا وقت لديهم لتقديم تفسير وإما يجهلون الكتابة. إنها فكرة ممتازة: هذا, في المقام الأول, عمل يدلّ على اللياقة, حيث إن هذا العالم ليس صالة رقص يمكن للمرء أن ينسلّ خارجًا منها قبل أن تبدأ الراقصة الرسمية. وثانيًا, تقوم الصحافة دائمًا بجمع وإفشاء أسرار الرسائل التي يتركها الموتى, فيواصل الميت حياته يومًا أو اثنين, وأسبوعًا في بعض الأحيان.

لكن رغم هذه العادة الممتازة, كانت نيّتي الأصلية أن أرحل في صمت. والسبب هو أنني بعد أن كنت سيئ الحظ طوال حياتي, خشيت أن تؤدي أي كلمة أخيرة مهما كانت إلى تعقيد ما في سبيلي إلى الأبدية. غير أن حادثًا وقع أخيرًا غيّر خطتي, وسأغادر الدنيا تاركًا ليس وثيقة واحدة فقط, بل وثيقتين. الأولى وصيّتي, التي فرغت لتوّي من كتابتها وتوقيعها. وهاهي موضوعة فوق مكتبي, إلى جانب مسدّسي المحشوّ. والوثيقة الثانية هي هذا الموجز لسيرتي الذاتية. ولاحظ أنني لا أترك الوثيقة الثانية إلا لأنني ينبغي أن أفسّر الأولى, التي ستبدو لامعقولة أو مستعصية على الفهم دون شرح إضافي ما. ذلك أنني طلبت في وصيّتي القيام بعد بيع كتبي القليلة, وملابسي, وكوخ قديم في كاتومبي أؤجره لنجّار, بانفاق الإيرادات على أحذية و(بوتات) لتوزيعها بطريقة ملائمة. وأعترف أن كل هذا غريب جدًا, ودون تفسير لهذه التركة بوصية ستكون سلامة وصيّتي موضع شكّ. وقد نشأ السبب وراء هذه التركة بوصيّة عن حادث جرى أخيرًا وله صلة بحياتي بأسرها.

اسمي ماتياس ديوداتو ده كاسترو إه ميلو, ابن الشاويش سلفادور ديوداتو ده كاسترو إه ميلو ودونا ماريا داسوليداده بيريرا, وكلاهما متوفى, وأنا من مواليد كورومبا, في ماتو جروسوّ, وتاريخ ميلادي 3 مارس 1820, وهكذا فأنا في الحادية والخمسين من عمري اليوم, 3 مارس 1871.

وأكرّر, أنا شخص سيئ الحظ, الإنسان الأسوأ حظّا في العالم. وهناك قول لامعقول يجري مجرى الأمثال سبق أن طبّقته حرفيّا في كورومبا عندما كنتُ في حوالي السابعة أو الثامنة من عمري. كنتُ أهتزّ داخل أرجوحة نومي في وقت القيلولة, في حجرة صغيرة بسقف من القرميد. وإما لأن طرفي الأرجوحة لم يكونا مشدوديْن بإحكام أو بسبب حركة أعنف مما ينبغي من جانبي, أفلتت الأرجوحة من أحد الحائطيْن فألقتْ بي أرضا. سقطتُ على ظهري, لكن رغم أنني كنتُ على ظهري انكسر أنفي, لأن قرميدة كانت في مكانها بالكاد وكانت في انتظار فرصة للسقوط انتهزتْ فرصة الاضطراب الحادث وسقطتْ بدورها. ولم يكن جرحي خطيرًا ولا طويل الأمد وداعبني أبي كثيرًا ساخرًا بخصوصه. وفيما كان يشرب معنا الجارانا ذات أصيل, وقف الأب بريتو على حقيقة ما حدث واستشهد بالمثل, قائلاً إنني كنت أول شخص يطبّق حرفيًا لا معقوليّة السقوط على ظهري وكسر أنفي. ولم يتصوّر لا القسيس ولا أبي أن هذا الحادث كان مجرد البداية لأشياء آتية.

لن أتناول بإسهاب مصائب أخرى في طفولتي وشبابي. ذلك أنني أريد أن أموت في الظهيرة, وقد تجاوزت الساعة الآن الحادية عشرة. بالإضافة إلى ذلك, رغم أنني أرسلت خادمي في مشواره, فقد يعود أبكر من المتوقع فيعوق تنفيذ مشروعي الحاسم. ولو كان عندي الوقت لرويتُ بتفصيل شديد مجموعة بأكملها من الأحداث الأليمة, من بينها علقة تلقيتها عن طريق الخطأ. كان الحادث يتصل بغريم لصديق لي, غريم في الحب, غريم مهزوم بطبيعة الحال. عندما علم صديقي والسيدة بالضربات التي تلقّيتُها, أغضبهما غدر الغريم, لكنهما استحسنا في سرهما واقع أنني, وليس صديقي, تعرّضت للضرب. ولن أتكلم عن أمراض أصابتني. بل سأسرع إلى المرحلة التي انتهى فيها أبي, الذي كان فقيرًا طوال حياته, إلى الموت فقيرًا شديد الفقر. ولم تعش أمي بعده حتى شهريْن, وعرض الأب بريتو, الذي كان قد انتُخب قبل ذلك بقليل عضوًا في مجلس النوّاب, أن يأخذني إلى ريو دي جانيرو معتزما جعلي قسّيسًا, غير أنه مات بعد وصولنا بخمسة أيام. وهكذا يمكنك أن تلاحظ الفعل المتواصل لسوء الحظ.

كنت متروكًا بمفردي في السادسة عشرة بلاأصدقاء أو موارد. واعتقد قسّيس من كنيسة القصر الإمبراطوري أنه يمكنني أن أصبح قيم كنيسة هناك, ولكنهم لم يقبلوني نظرًا لعدم وجود وظائف خالية, رغم أنني كنت قد ساعدت الكاهن في إقامة القدّاس مرّات عدة في ماتوجروسّو وكنتُ أعرف شيئا من اللاتينية. وأقنعني أشخاص آخرون بأن أدرس القانون, وأعترف بأنني قبلت بحزم. وفي البداية, تلقيتُ حتى بعض العون في دراستي. وفيما بعد, عندما فقدتهُ كان عليّ أن أعول نفسي بنفسي لكنني نجحتُ في نهاية المطاف في أن أنال شهادتي في الحقوق. لا تقولوا لي إن هذا كان استثناءً على حياة المصائب التي عشتُها, ذلك أن شهادتي بالذّات هي التي قادتني إلى بعض المواقف الأليمة للغاية, لكن حيث إن القدر كان متربّصًا ليجلدني بسياطه مهما كانت مهنتي فأنا لا أعزو أيّ فوران خاص لسوء الحظ إلى شهادتي. والحقيقة أنني تلقّيتُها ببالغ السرور. لقد أحال شبابي وأمل خرافي ما في تحسّن الحال ورقة الشهادة الجامعية تلك إلى مفتاح من الماس كان بسبيله إلى أن يفتح كل بوابات الحظ أمامي.

أوّلاً, لم تكن الرسالة التي عزّزتْ شهادة الحقوق التي نلتها الرسالة الوحيدة التي ملأت جيوبي. لا, كانت هناك رسائل أخرى إلى جانبها, عشر رسائل أو خمس عشرة رسالة, كانت ثمار علاقة غرامية معقودة في ريو في أسبوع عيد الفصح في 1842, مع أرملة تكبرني بسبع أو ثماني سنوات. لكن مشبوبة العاطفة, وتفيض بالحيوية, وغنية. كانت تعيش في شارع كونده مع أخ أعمى - ولا يمكنني أن أكشف مزيدا من المعلومات, ولم يكن أيّ من أصدقائي يجهل هذه العلاقة. بل قرأ اثنان منهم رسائلها, التي أطلعتهما عليها حتى يمكنهما - فيما زعمت - الإعجاب بالأسلوب اللبق للأرملة في الكتابة, لكنْ حتى يمكنهما بالفعل قراءة الأشياء الرائعة التي قالتها لي. وفي رأي الجميع, كان زواجنا أمرًا أكيدًا: كانت الأرملة تنتظرني فقط لأكمل دراستي. وعندما تخرّجت هنأني واحد من أصدقائي, مؤكدًا اقتناعه بهذه العبارة القاطعة: (زواجكما عقيدة).

وضاحكًا, سألني ما إذا كان يمكنني, لأجل العقيدة, أن أقرضه خمسمائة دولار مطلوبة بصفة عاجلة. وكانت العقيدة لاتزال تدوي عذبة في رأسي إلى حد أنني كنت عاجزًا عن أن أستريح إلى أن حصلتُ له على النقود. أحضرتها له بحماس بالغ, وتلقّاها, مفعمًا بالامتنان. وبعد ذلك بستة أشهر, تزوّج من الأرملة.

لن أقول لكم كلّ ما عانيتُه آنذاك, سأقول فقط أن أول دافع عندي كان أن أطلق الرّصاص عليهما كليهما. ذهنيًا, هيأت نفسي لعمل ذلك, ورأيتهما يحتضران, يلهثان, يلتمسان صفحي. لكنه لم يكن سوى انتقام افتراضي. في الواقع, لم أفعل شيئا. ومكثتُ في ريو أقرأ رسائل الأرملة. قالت إحداها: (فليشهد الرب عليّ عندما أقول إن حبّي أبدي وأنني لك, لك إلى الأبد...) وفي ذهولي, كنت أستنزل اللعنات في سرّي.

غادرت العاصمة وخرجت راحلا إلى الريف لأمارس القانون, لكنّ ليس لوقت طويل. ذلك أن سوء الحظ ركب خلفي في مؤخرة الحمار, وكلمّا ترجّلت, كان يفعل ذلك. رأيتُ ختمه في كل شيء - في القضايا التي لم أتلقّها, وفي القضايا التافهة التي تلقّيتها بالفعل, وفي القضايا العارضة المربحة التي خسرتها دائمًا. وبالإضافة إلى واقع أن الزبائن الذين خسروا هم عادة أقل امتنانًا من الآخرين, صرف تعاقب إخفاقاتي الزبائن بعيدًا عني. وبعد سنة ونصف السنة, عُدْتُ إلى ريو وقمت بممارسة المهنة مع زميل دراسة قديم, جونسالفيس.

لم أعرف أبدًا أيّ شخص أقلّ ميلاً إلى القانون وأقلّ نزوعًا إلى مجابهة الأمور القانونية من جونسالفيس. والواقع أنه كان وغدًا. فلنشبِّهُ النشاط الذهني بمنزل فخم: لم يكن بمستطاع جونسالفس حتى أن يطيق عشر دقائق من المحادثة في حجرة الجلوس - كان ينسلّ, ويهبط إلى حجرة الخزين, ويدردش مع الخدم. على أن هذه الصفة المتدنية كانت تعوّض عنها شفافية ما وسرعة في فهم الأمور الأقل مشقّة أو الأقل تعقيدًا, وكذلك مقدرة على الشرح ومدد لانهاية لها تقريبًا من الابتهاج, وهذا ما كان نعمة كبيرة بالنسبة لي, أنا الغلبان المحاصر بسوء الحظ. وفي الأيام الأولى, حيث لم نتلقّ سوى قضايا قليلة, كنا نقتل الوقت بالتحادث الممتاز المليء بالحيوية, وكان أغلبه له, سواء دردشنا حول السياسة أو النساء, كان هذا الأخير موضوعًا لتخصّصه.

على أننا في نهاية المطاف بدأنا نتلقّى بعض الدعاوى القانونية, من بينها نزاع حول رهن عقاري. وكان الرهن يتعلق بمنزل موظف جمارك, تيميستوكليس ده سا بوتيليو, لم تكن له أي ممتلكات أخرى وأراد أن ينقذ ملكه وتوليتُ القيام بالقضية. كان تيميستوكليس مسرورًا بي, وبعد ذلك بأسبوعين, وكنتُ قد قلتُ له إنني غير متزوج, أعلن بضحكة أنه لا يريد التعامل مع عزّاب وقال لي أشياء أخرى ودعاني إلى العشاء معه يوم الأحد التالي. ووقعت في حبّ ابنته روفينا, وكانت فتاة في التاسعة عشرة, رائعة الجمال, لكنّ خجولة قليلاً ومنقادة. ربما كان ذلك بحكم تربيتها, فيما فكرت. تزوّجنا بعد ذلك بأشهر قليلة. لم أوجّه الدعوة إلى سوء الحظ, هذا صحيح, لكنني داخل الكنيسة وسط اللِّحى الأنيقة الناعمة التشذيب والشوارب اللامعة الممتلئة, ظننتُ أنني رأيتُ الوجه الساخر والنظرة المنحرقة لخصمي العديم الرأفة. وعندما جاء الوقت لأقطع عهود الزواج المقدّسة والحاسمة, كان هو السبب في أنني ارتجفت وتردّدت قبل أن أتمتم بالكلمات التي أملاها الكاهن عليّ...

هكذا تزوّجت. صحيح أن روفينا لم تكن تتمتع بصفات لامعة أو ممتازة - على سبيل المثال, لم يكن بوسعها أبدا أن تكون مضيفة محنكة. غير أنها كانت تملك صفات بيتية تفي بالغرض, ولم أكن أطلب غير ذلك. كانت الحياة الخاملة الذكر كافية لي, ومادامت ملأتْ حياتي, كان كل شيء يسير على ما يرام. لكن هذا بالذات كان الجانب المزعج في الأمر. واسمحوا لي بهذه الصورة اللونية لروفينا: لم تكن لها الروح السوداء لكليوباترا, أو الروح الزرقاء لجولييت, أو الروح البيضاء لبياتريس, بل كانت لها روح رمادية معتمة كتلك التي لأغلب الكائنات البشرية العادية. كانت عطوفة عن بلادة إحساس, مخلصة بلا فضيلة, ودودة بلا حنان. وكان يمكن لملاك أن يأخذها إلى السماء, ولشيطان إلى الجحيم, بلا مشقة في كلّ من الحالتين, لأنها لم تكن لتستحقّ أي مجد خاص في الحال الأولى أو لتشوبها أي شائبة في الحال الثانية. كانت منقاده انقياد منْ يسير نائما. ولم تكن مغرورة. ولم يتم زواجنا نتيجة إلحاح من جانبها - كان أبوها قد رتّبه بحيث يكون له زوج ابنة (دكتور) - لقب المحامي في البرازيل - وقبلت الزواج مني كما كان يمكنها أن تقبل قيّم كنيسة, أو قاضيًا, أو جنرالاً, أو موظفًا حكوميًا, أو نائب حاكم, ولم تقبل هذا تلهفّا على أن تتزوج بل طاعة للعائلة, وإلى حد ما لتكون مثل كل شخص آخر. كل النساء الأخريات كان لهن أزواج, ولهذا أرادت أن يكون لها أيضًا زوج. ولم يكن هناك ما هو أكثر من ذلك تعارضًا مع طبيعتي, لكنني مع ذلك تزوّجت.

لحسن الحظ - آه الحقيقة أن عبارة (لحسن الحظ) في هذا الفاصل الأخير في حياة شخص سيئ الحظ تمثل خروجا شاذا على القياس, لكنّ واصلوا القراءة وسترون أن هذه العبارة الظرفية تنتمي إلى الأسلوب الأدبي, لا إلى الحياة, إنها صيغة أسلوبية للانتقال إلى نقطة أخرى, لا أكثر. ولن يغيّر ما سأرويه في الحال ما سبق أن قيل. سأقول إن الصفات البيتية لروفينا كانت مزايا ضخمة. كانت متواضعة. فكانت لا تعير اهتماما للحفلات الراقصة, أو النزهات, أو واجهات المحلات. وكانت تعتزل الناس. ولم تكن تجدّ في القيام بالأعمال المنزلية, ولا كان ذلك ضروريا: كنت أعمل لأمنحها كل شيء, وكانت فساتينها, وقبعاتها, وكل أشيائها الأخرى, من صنع (السيدات الفرنسيات), كما كانت تسمّى الخيّاطات في تلك الأيام. وأثناء الاستراحات بين إعطاء الأوامر, كانت روفينا تجلس ساعات متواصلة, تاركة روحها تتثاءب, تحاول أن تقتل الوقت, هذا الأفعوان ذو الألف رأس الذي رفض أن يموت. لكنها, أكرر, كانت رغم نواقصها ربة بيت جيدة.

فيما يخصني, لعبت دور الضفادع التي أرادت ملكا. والاختلاف هو أنه عندما أرسل إليّ جوبيتر قرمة خشب لم أطلب منه ملكا آخر يحلّ محلّها, لأنني كنت أعلم أنه, إن أنا طلبت, كان سيرسل إليّ ثعبانا كان سيأتي ويبلعني. (أهتفُ ثلاثا لقرمة الخشب!) هكذا قلت لنفسي. وأنا لا أقول لكم هذه الأشياء إلا ليكون بوسعكم أن تلاحظوا منطق قدري وثباته.

عبارة (لحسن الحظ) أخرى - وهذه ليست مجرد تعبير للانتقال. فبعد سنة ونصف السنة, بزغ أمل في الأفق, وقياسا على الإثارة التي بعثها النبأ في نفسي, كان أملا ساميا فريدا. كان مُنية القلب في سبيله إلى الوصول. وما مُنية القلب? طفل. تبدّلت حياتي على الفور. ابتسم لي كل شيء وكأنه يوم زفاف. وأعددت استقبالا ملكيا لابني. اشتريت له مهدا غالي الثمن من العاج والرخام - قطعة أثاث رائعة الصنع. ثم اشتريت, قطعة قطعة, ملابسه ولوازمه: أمرتُ بخياطة أرقّ الأنسجة القطنية, وأدفأ الفانيلات, وقلنسوة جميلة بشريط. واشتريتُ له عربة لعبة وانتظرتُ متلهفا, مستعدا للرقص أمامه كما رقص داود أمام تابوت العهد. آه يا لسوء الحظ! وصل التابوت إلى أورشليم خاليا - ولد الطفل ميتا.

كان من واساني وأنا أنوء بخيبة أملي هو جونسالفيس, الذي كان من المقدّر أن يكون أبا في العماد للطفل - كان صديقنا, وضيفنا الدائم, والمؤتمن على خصوصياتنا. لقد واساني وحدّثني عن أشياء أخرى بحنان صديق. وتكفل الزمن بالباقي. وقال لي جونسالفيس نفسه فيما بعد إنه إذا كان لا بد للطفل من أن يولد منحوسا مثل أبيه, فمن الأفضل أنه ولد ميتا.

(وتعتقد أنه كان سيكون كذلك?) سألت بسرعة.

ابتسم جونسالفيس - لم يكن يؤمن بأنني مصاب بسوء حظ مزمن. والحقيقة أنه لم يكن لديه الوقت ليؤمن بأيّ شيء, ذلك أنه كرّس كل وقته وطاقته لأن يكون سعيدا. لكنه كان قد بدأ أخيرا في تكريس نفسه لمهنته القانونية. وكان آنذاك يدافع عن الزبائن, ويعدّ العرائض, ويحضر المرافعات, كل هذا لأنه كان عليه أن يعيش, كما قال.وكان سعيدا دائما. وكانت زوجتي تعتقد أنه ظريف وكانت تضحك من قلبها من أقواله وقصصه, التي كانت فاضحة أكثر مما ينبغي أحيانا. وفي البداية وجهت إليه اللوم فيما بيننا بسبب حكاياته, لكنني مع مرور الوقت اعتدت عليها. وبالإضافة إلى ذلك, هل هناك أي شخص لا يمكنه أن يغفر رعونة صديق خفيف الروح? وينبغي أن أقول إن جونسالفيس نفسه بدأ عند مرحلة معينة يخفف من سلوكه, ومنذ ذلك الحين فصاعدا بدأت ألاحظ فيه جدية بالغة. (أنت تحبّ), قلت له ذات يوم, وأجاب, ممتقع الوجه, بنعم وأضاف بابتسامة, وإن كانت ابتسامة واهنة, أن الزواج لا مناص منه, وعلى مائدة العشاء تكلمت أنا في الموضوع.

(روفينا, هل تعلمين أن جونسالفيس يوشك على الزواج?)

(إنها نكتة من نكاته), قاطع جونسالفيس بسرعة.

طلبتُ من طيشي أن يذهب إلى الشيطان ولم أُشرْ إلى هذا الموضوع مرة أخرى - ولا هو فعل. وبعد ذلك بخمسة أشهر... الانتقال سريع جدا, لكن ما من طريقة لإطالته, سقطتْ روفينا مريضة, مريضة مرضا خطيرا, ولم تصمد حتى أسبوعا. ماتت بحمى خبيثة.

شيء غريب: في الحياة, الاختلافات في طبعيْنا أضعفت الروابط بيننا, هذه الروابط التي جرى الحفاظ عليها على أي حال بحكم الضرورة والعادة في المقام الأول. أما الموت, بقوته الروحية الهائلة, فقد غير كل شيء - بدت لي روفينا وكأنها الزوجة التي هبطتْ من لبنان, وحلّ محلّ الاختلافات بيننا اندماج كامل بين كيانيْنا. تشبّثت بهذه الصورة, التي ملأت كامل روحي, ومعها ملأت كامل حياتي, التي لم تكن تشغل فيها من قبل سوى حيز ضئيل للغاية خلال مثل تلك الفترة القصيرة. كنت أقوم بعمل من أعمال التحدي ضدّ نجمة نحسي عن طريق تشييد صرح للحظ الحسن من صخر صلب لاسبيل إلى تدميره. افهمني جيدا. إلى ذلك الحين كان كل شيء يتوقف على العالم الخارجي وكان بالتالي رهنا بالظروف بطبيعة الحال: كان القرميد يسقط مع اهتزاز الأراجيح, وكانت الأردية الكهنوتية تثور على قيّمي الكنائس, وكانت عهود الأرامل تتلاشى مع عقائد الأصدقاء, وكانت الدعاوى القضائية تأتي عن طريق الخطأ أو تختفي على الفور, وأخيرا كان الأطفال يولدون ميتين. لكن صورة المرأة الميتة كانت أزلية, وكان يمكنني أن أتحدّى بها النظرة المنحرفة للقدر المشئوم. لقد وقعت السعادة أسيرة في يدي ومثل نسر ضخم كانت تضرب بجناحيْها الضخمين في الهواء فيما رفرف سوء الحظ بجناحيه, مثل بومة, وانطلق صوب الليل والصمت.

لكنني ذات يوم, وأنا أتماثل للشفاء من حُمّى, قرّرتُ عمل جرد لبعض ممتلكات زوجتي وبدأت بعلبة صغيرة, كانت لم تفتح منذ موتها, قبل ذلك بخمسة أشهر. وجدتُ وفرة من الأشياء الصغيرة جدا: إبر خياطة, خيط, قطع حشو للتطريز, كستبان, مقصّ, لفّة قماش, وأشياء صغيرة متنوعة, وحزمة رسائل ملفوفة بشريط أزرق. حللت الشريط وفتحت الرسائل: كانت من جونسالفيس.. منتصف النهار تماما الآن! يجب أن أنتهي من هذا. الخادم على وشك العودة, وهكذا ستتحطم خططي. ولا يمكن لأحد أن يتخيل كيف يمرّ الوقت وينسلّ في مثل هذه الظروف: الدقائق تفرّ وتزول كالإمبراطوريات, والأكثر أهمية أن صفحات الورق تغطيها الكلمات بالسرعة نفسها تماما.

ولن أتوقف عند كل أوراق اليانصيب العديمة القيمة, أو الصفقات التجارية الفاشلة, أو الاتصالات المقطوعة, أو أعمال القدر الحقودة الأخرى.

ذلك أنني, منهمكا ومتضايقا, أدركت أنه لا يمكنني أن أجد السعادة في أيّ مكان.

بل ذهبت إلى أبعد من ذلك: أنهيتُ إلى الإيمان بأنها لاتوجد في أيّ مكان على الأرض, وبالتالي ظللت أعدّ نفسي منذ أمس لاقتحامي العظيم للأبدية. واليوم تناولتُ الإفطار, ودخنت سيجارًا, وأخذتُ أطلّ من النافذة. وبعد مرور عشر دقائق, رأيت شخصا حسن الملبس كان يحملق بصورة متكررة في قدميه فيما كان يسير. وكنت أعرفه بالشكل - كان ضحية من ضحايا انقلابات الحظ الهائلة, لكنه مع ذلك كان ينطلق في سيره بسعادة متأملا في قدميْه وبالأحرى في حذاءيه. كان حذاءاه جديدين, من الجلد اللميع, وكان تفصيلهما جيدا جدا, وربما تمت خياطتهما بعناية بالغة. وكان يتطلع إلى أعلى نحو النوافذ ونحو الناس لكنه كان يعود دائما بعينيه إلى حذاءيه, وكأنما بفعل قانون جاذبية يسبق الإرادة ويتفوق عليها. كان سعيدا -وبوسع المرء أن يرى سيماء البهجة على وجهه. كان من الجلي أنه سعيد, رغم أنه ربما كان لم يأكل أي إفطار وربما كان لا يوجد في جيوبه سنتافو واحد. لكنه كان سعيدا وكان يتأمل في (بوته).

هل السعادة يا ترى زوج من (البوت)? هذا الرجل, الذي لطمته الحياة إلى هذا الحدّ, تلقى في نهاية المطاف ابتسامة من الحظ. وهذا الرجل ذاهل عن كل شيء باستثناء حذاءيه. لا همّ من هموم هذا القرن, لا مشكلة اجتماعية أو خلقية, لا شيء من مباهج الجيل الجديد أو أحزان الجيل السابق, لا شكل من أشكال البؤس, أو الحرب الطبقية, أو الأزمة السياسية أو الفنية - لا شيء من هذه الأشياء يساوي زوجا من (البوت). وهو يحملق فيهما, يتنفّسهما, يلمع معهما جنبا إلى جنب, يطأ معهما أرض كوكب يخصّه وينتمي إليه.ومن هنا, الخيلاء في وقفته, والحزم في خُطاه, ونوع من سيماء الهدوء الأولمبي...

أجل, السعادة زوج من (البوت).

ليس هناك أيّ تفسير آخر لوصيتي. وسيقول القراء السطحيون إنني مجنون, وإن هذياني واضح في كل بند من بنود الوصية, لكنني أتحدث مع العقلاء والمحظوظين. وليس من الصواب أن يعترض أحد بأنه سيكون من الأفضل أن أنفق على نفسي المال الذي أعتزم إنفاقه على (البوت), لأنني في تلك الحالة سأكون المستفيد الوحيد. لكن, عن طريق توزيع (البوت), سأجعل عددا من الناس سعداء. لا تحزنوا, يا أصحاب الحظ السيئ في العالم! عسى أن تلبَّى أمنيتي الأخيرة! تصبحون على خير, والبسوا أحذيتكم!

 

ماشادو دي أسيس

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات