هل يمكن إلغاء الدولة من الوجود? أحمد أبوزيد

هل يمكن إلغاء الدولة من الوجود?

هل أصبحت إدارة الدولة مكلفة ماليا وأصبح من الأوفر إلغاؤها أو على الأقل تحويلها إلى شركة خاصة?

في عدد 27/28 مايو 1995 نشرت جريدة الفاينانشيال تايمز مقالا بقلم جيمس مورجان بعنوان (هل هناك حاجة إلى وجود الدولة?... من السهل تحويل الأمم إلى شركات). ويذكر مورجان في ذلك المقال أن أحد رؤساء الوزراء الأفارقة قال في بعض المناسبات التي حضرها الكاتب إن المشكلة الحقيقية التي يواجهها الزعماء والرؤساء في العالم الثالث هي ارتفاع التكاليف اللازمة لإدارة الدولة ارتفاعا رهيبا كثيرا ما تعجز الدولة عن الوفاء بها. وتساءل أحد الحاضرين عما يمكن عمله بالنسبة لأحد الأقاليم المتعثرة في إفريقيا جنوبي الصحراء, فاقترح الكاتب أن أفضل ما يمكن عمله هو إسناد إدارة ذلك الإقليم إلى أحد كبار أصحاب مزارع تربية المواشي الأوربيين المقيمين هناك حتى يديره بالطريقة نفسها التي يدير بها أعماله الناجحة. وقد علق رئيس الوزراء الإفريقي السابق على ذلك بقوله إنه حين تولى مهام منصبه أدهشته الميزانيات الضخمة المخصصة للسفارات وللقوات المسلحة ولذا عمل على تخفيضها مما أغضب الجميع, وأن مخصصات ورواتب الوزراء أنفسهم كانت هي أيضا مرتفعة للغاية, وأن ضخامة هذه التكاليف هي أحد أسباب انهيار نظم الحكم في كثير من الدول الإفريقية كما حدث في سيراليون وروانده والصومال وغيرها, وأن برامج هيئة الأمم للتنمية تأخذ في الاعتبار ذلك الوضع العام السائد في إفريقيا وفي كثير من الدول الأخرى في العالم الثالث. وينهي مورجان مقاله بالتساؤل عما إذا كانت كل هذه (الأماكن) تستحق في المحل الأول أن تعتبر (دولا) بالمعنى المفهوم من كلمة (دولة).

وربما تكون الإجابة المناسبة عن هذا السؤال هي ما اقترحه مورجان نفسه وما يذهب إليه أيضا عدد من الكتاب المهتمين بمستقبل الدولة كتنظيم سياسي من أن الأفضل أن تدار هذه (المجتمعات) وبخاصة في إفريقيا حسب القواعد والأساليب التي تدار بها الشركات التجارية بدلا من محاولة تطبيق الأسس والمبادئ المتبعة في دول العالم المتقدم عليها, لأن ذلك قد يكفل لها تدفق الاستثمارات الأجنبية وإقبال كبار المستثمرين من الخارج الذين يعرفون كيف يديرون مشروعاتهم بطرق أكثر جدوى وفاعلية, وأن للعالم الثالث أسوة في ذلك بما تفعله بعض الدول الغربية المتقدمة مثل بريطانيا ونيوزيلندا وغيرهما حيث تسند الحكومات بعض مسئولياتها ومشروعاتها إلى وكالات تجارية متخصصة تحقق لها كثيرا من النجاح. ومع أنه لم يحدث حتى الآن على الأقل أن أسندت كل أمور مجتمع بأكمله إلى مثل هذه الشركات أو الوكالات فإن هناك حالات لمجتمعات أحرزت كثيرا من التقدم حين نزلت حكوماتها عن بعض مسئولياتها لمؤسسات متخصصة على ما فعلت هونج كونج, بينما بذلت حكومات أخرى معظم جهودها لتشجيع وجذب الاستثمارات الأجنبية مما حقق لها في آخر الأمر كثيرا من المكاسب الاقتصادية والسياسية على السواء وذلك بعكس المجتمعات التي انهار نظامها السياسي نتيجة لإساءة التصرف وانشغال الدولة بأمور ذات طابع سياسي بحت وإعطاء مشكلة (السيادة) أولوية مطلقة في علاقاتها بالعالم الخارجي مما أدى بها إلى العزلة الاقتصادية والسياسية والدخول في عداء سافر أو مستتر مع بعض القوى السياسية الفاعلة الأخرى تحت شعار ما يسميه البعض (وهم) الاستقلال السياسي الكامل في عصر تدرك الدول الكبرى ذاتها في الغرب أهمية بل وضرورة التنازل عن بعض هذا (الاستقلال الكامل) و(السيادة المطلقة) لتحقيق قدر أكبر من التعاون بينها لمواجهة التغيرات الجديدة في العالم المعاصر وما قد يستجد من ظروف وأحداث غير متوقعة في المستقبل.

وضع الدولة في المستقبل

ومع الاعتراف بأن الدولة / الأمة تعتبر في الوقت الحالي الشكل الأساسي الغالب للترابط السياسي في معظم أنحاء العالم, فإن كثيرا من الشك والجدل يدور حول مدى احتمال استمرار وجودها بل وجدوى هذا الوجود في المستقبل, خاصة أن هناك بعض الأوضاع والعوامل والظواهر الاجتماعية والأسباب السياسية والاقتصادية التي تعمل على هدم كيان الدولة/ الأمة كتنظيم سياسي فعال, وقد تؤدي إلى اختفائها تماما في كثير من مناطق العالم النامية والمتقدمة على السواء, أو قد تعمل - على العكس من ذلك - على اختفاء بعض هذه الدول وظهور دول أخرى جديدة تقوم على أساس نعرة الشعور بالانتماء إلى (أمة واحدة) على ما حدث نتيجة لتفكك الاتحاد السوفييتي أو ما حدث أيضا في يوغوسلافيا كمحصلة لصراع الكيانات العرقية والدينية المتناحرة. ومع ذلك فالرأي السائد لدى كثير من الكتاب أن ظهور مثل هذه الدول الجديدة هو أمر طارئ ومؤقت لإشباع بعض النزعات والعواطف الوطنية وأن هذا الوضع سوف يختفي في المستقبل غير البعيد لأنه لا يتناسب مع المتطلبات الجديدة التي تفرضها اتجاهات العولمة والتي تدفع الآن بعض الدول المستقلة ذات السيادة إلى الاندماج بعضها مع البعض الآخر لتكوين كيانات سياسية واقتصادية كبرى متكاملة تقوم على أسس ومبادئ قد لا تتفق تماما مع المفاهيم التقليدية التي كانت ترتكز عليها كل دولة / أمة من تلك الدول مثل مفهومي الوطنية والسيادة وغيرهما. ولعل المثال الواضح أمامنا الآن هو الاتحاد الأوربي وما يتطلبه من توافر شروط معينة لعضويته وما ارتبط بتكوينه من قبول أوضاع جديدة لا تتفق تماما مع التصورات التقليدية عن سيادة واستقلال الدولة / الأمة, وما يستلزمه هذا الاندماج أو الاتحاد من تنازلات في سبيل تحقيق هذا الكيان الجديد الذي يحقق مستويات من القوة السياسية والفاعلية الاقتصادية والتأثير الاجتماعي والثقافي لا تستطيع أي دولة / أمة واحدة أن تحققها بمفردها. ويبدو أن دولا مستقلة أخرى كثيرة تأمل في الانضمام لهذا الاتحاد إدراكا منها لأهمية وجدوى الانتماء لهذا الكيان القوى وقدرته على التعامل مع مشكلات الحاضر والمستقبل على الرغم من أن هذا الانتماء أو هذه العضوية تعني ضمنا التنازل النسبي عن التمسك بمبادئ الاستقلال الكامل والسيادة المطلقة التي تميز - ولو من الناحية النظرية - الدولة / الأمة.

اختراق الثقافات

والواقع أن هناك تحديات كثيرة تواجه الدولة/ الأمة وتهدد قدرتها على الاحتفاظ بأهم ملامح وعوامل استقرارها وتماسكها الداخلي الذي يقوم في معظم الأحيان على التجانس السكاني في الجوانب العرقية والدينية واللغوية والثقافية مع السماح, بغير شك, بقليل من التنوع الذي لا يتعارض مع هذا التجانس ولا يكون مصدرا للصراع الداخلي. ومن أهم هذه التحديات وأكثرها خطورة في الوقت الحالي ازدياد اتساع نطاق التحركات السكانية والهجرات وحركات الاستيطان التي تتعرض لها كثير من المجتمعات, وبخاصة مجتمعات الغرب الصناعية المتقدمة التي تستقبل أعدادا متزايدة من الوافدين الذين يختلفون عرقيا ولغويا وثقافيا عن السكان الأصليين لهذه المجتمعات, مما يثير كثيرا من القلق الذي يدفع إلى الاضطراب والعنف كمؤشر على رفض هذه الشعوب والمجتمعات لهؤلاء الوافدين بقصد العمل والاستقرار والتوطن. وهذا واضح بشكل قوي في دول مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا بل وسويسرا وغيرها من الدول الأوربية التي ترى في هذه الهجرات نوعا من الاختراق الذي يهدد ثقافتها وأسلوب حياتها بل ووجودها وكيانها من الناحية العددية, بحيث تخشى بعض هذه الدول أنه باستمرار هذه الهجرات وحركات النزوح من الخارج قد يأتي اليوم الذي يصبح فيه المواطنون الأصليون مجرد أقلية كبيرة وسط مجتمع متعدد الأجناس والأعراق واللغات والأديان مما يؤدي إلى تراجع الثقافة الوطنية أو القومية الأصلية, خاصة أن ثمة شعورا في الغرب بأن هذه الجماعات المهاجرة والمستوطنة غالبا ما تحتفظ بولائها الحقيقي نحو أوطانها الأصلية وليس نحو وطن أو موطن الإقامة والعمل الجديد, وأنها تورث هذا الولاء والانتماء للأجيال التالية التي تحتفظ في حياتها الخاصة وفي التعامل فيما بينها بلغات أوطانها الأولى كما تتمسك بعاداتها وتقاليدها وقيمها وبذلك تؤلف جزرا بشرية تكاد تكون معزولة تماما عن المحيط الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي تعيش فيه. ومن أطرف ما قرأته عن هذا الموضوع هو ما ذكره أحد الساسة في سويسرا المناهضين لحركات الهجرة من الخارج بقصد العمل والإقامة الدائمة أنه إذا أجريت مباراة في كرة القدم بين سويسرا وإسبانيا فإن السويسريين من أصل إسباني سوف يتشيعون لفريق إسبانيا ويشجعونه ويتمنون فوزه وهزيمة الفرق السويسري وهذا - في نظره - دليل واضح على عدم الشعور بالولاء والانتماء وهو ما يهدد كيان (الاتحاد) السويسري.

والغريب في الأمر أن بعض الكتاب الأمريكيين يساورهم الخوف على (وحدة) المجتمع الأمريكي من جراء هذه الهجرات وذلك على اعتبار أن أمريكا مجتمع مفتوح لكل الجنسيات والأعراق والأديان واللغات والثقافات, وأن السكان البيض الناطقين بالإنجليزية - وهي اللغة الرسمية - يؤلفون الآن أقلية نسبية أمام بقية السكان الآخرين الناطقين على الخصوص بالإسبانية والصينية وإلى حد أقل الناطقين بالفرنسية ثم بقية اللغات الأخرى. ويتخوف هؤلاء الكتاب من أنه قد يأتي اليوم الذي تطالب فيه بعض هذه (الجموع) بالاستقلال الذاتي استنادا إلى كثرتهم العددية وتمايزهم الثقافي العام وتزايدهم بمعدلات أكبر وأسرع من تزايد السكان البيض وتمركزهم في الأغلب في مناطق معينة, وذلك رغم أن (الولايات المتحدة الأمريكية) تؤلف في واقع الأمر دولة ولكنها لا تؤلف أمة, ورغم أن الاتجاه العام في العالم يميل نحو تلاحم واتحاد الكيانات السياسية الصغيرة في وحدة أو اتحاد أكبر وأقوى لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية وثقافية أكثر طموحا ولضمان توافر عوامل الأمن الداخلي والخارجي.

انفتاح الشعوب

على الجانب الآخر فإن التقدم السريع والمتواصل الذي يحدث في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصال والتكنولوجيا البيولوجية سوف يسهم, في رأي الكثيرين, في إضعاف قدرة الدولة/الأمة وسطوتها في التحكم والسيطرة على شعوبها نتيجة لانفتاح هذه الشعوب على أحداث العالم ونظمه وثقافاته والحركات الفكرية المتلاطمة بما في ذلك الحركات التي تدعو إلى التمرد على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المفروضة على بعض هذه الشعوب, مما يجعل المواطن العادي يشعر بأنه مواطن في العالم ككل أكثر منه مواطنا في دولة/أمة معينة ومحددة تحديدا جغرافيا واضحا ودقيقا. وقد ينطوي ذلك على فقدان جانب كبير من المشاعر الإنسانية الأصيلة المميزة للجنس البشري, وذلك نتيجة لاستخدام الإنترنت ووسائل الاتصال الإلكتروني الأخرى الحديثة التي تتوارى أمامها أساليب الاتصال والتواصل التقليدية التي كانت تعطي اهتماما بالغا للعلاقات الإنسانية المباشرة. ومن الواضح أن العالم (يتطور) الآن بسرعة فائقة في الزمن الحقيقي الواقعي القائم الآن بالفعل وذلك بفضل ثورة الكمبيوتر والإنترنت. فعمليات (التطور) التي كانت تستغرق قرونا طويلة تحدث وتتم الآن في زمن قصير للغاية أو حتى في اللحظة الآنية. ويبدو أن هذا يصدق في المجال السياسي والدولي على الدولة/الأمة التي تمر الآن بمرحلة أزمة خطيرة في تاريخها وأنها سوف يطرأ عليها كثير من التغيرات التي تؤدي إلى تراجع مقوماتها الأساسية, وبخاصة فيما يتعلق بمفهوم السيادة والاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي تحت وطأة وضغوط العولمة, فللعولمة تأثيرات جانبية متزايدة على كيان الدولة/الأمة وعلى فاعليتها في كثير من مجالات الحياة وبخاصة في الجانب الاقتصادي, وعلى قدرتها على إدارة شئونها السياسية والاجتماعية في استقلالية تامة بعيدا عن أي مؤثرات خارجية ودون أن تخضع لأي سلطة في إدارة سياستها العامة وبخاصة في المجال الدولي غير سلطتها الذاتية.

يضاف إلى ذلك ما يذهب إليه جاري دين Gary Dean في مقال له ظهر في أكتوبر 1998 عن (العولمة والدولة/الأمة) من أنه رغم الاعتراف (النظري) بالسيادة الوطنية لمختلف الدول المستقلة فكثيرا ما تفرض الدول القوية سيطرتها ونفوذها على الدول المستضعفة وتتدخل في شئونها الداخلية مما يدفع الكثيرين إلى اعتبار المفهوم التقليدي لسيادة الدولة/الأمة أصبح مجرد أسطورة رغم أهمية الدور الذي يلعبه هذا المفهوم في العلاقات الدولية. بل المتوقع أنه في المستقبل ونظرا للتغيرات التي سوف تطرأ على ميزان القوى قد تبدي الدول الصغيرة استعدادها للتنازل عن جانب من سيادتها الوطنية لبعض الدول القوية نظير توفير الأمن لها وضمان سلامتها وحمايتها من العدوان الخارجي فضلا عن تحقيق بعض المكاسب الاقتصادية والاجتماعية الأخرى لشعوبها. ولذا فإن مبدأ السيادة المطلقة الذي لم يتحقق في كثير من الحالات في الماضي قد لا يتحقق إلا في حالات نادرة جدا في المستقبل خاصة في ظل تزايد نفوذ بعض المؤسسات والمنظمات الدولية وقسوة الشروط التي تفرضها على الدول الصغرى ودول العالم الثالث, كما هو الشأن مع البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي وتدخل هذه المنظمات في السياسة الاقتصادية لهذه الدول وما يترتب على هذا التدخل من سيطرة سياسية, وذلك إذا نحن تغاضينا عن ازدياد فرص التدخل العسكري وفرض العقوبات الاقتصادية ليس فقط من هيئة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن ولكن أيضا من الدول القوية المهيمنة وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية بحيث تستطيع إسقاط النظم الحاكمة في هذه الدول الصغيرة أو التشكيك في شرعيتها وفي قدرتها على إدارة شئونها الداخلية على ما يحدث الآن بالفعل في أكثر من حالة.

وسوف تفلح الشركات الكبري عابرة القارات, من أمثال شركات كوكاكولا وآي بي إم ومايكروسوفت, عن طريق فرض هيمنتها الاقتصادية الطاغية في التدخل في شئون كثير من الدول والتأثير في سياستها الداخلية وعلاقاتها الدولية مما سيكون له أثر سلبي على سيادة الدولة بحيث يقال إن نفوذ أي واحدة من هذه الشركات الكبري على الصعيد الدولي قد يفوق التأثير السياسي لعدد من الدول الصغيرة مجتمعة معا. وهذه كلها عوامل تدعو بعض الكتاب إلى القول إن سيادة الدولة/الأمة على مقرراتها وعلاقاتها الخارجية سوف تصبح عما قريب مجرد ذكرى تاريخية عن مرحلة عابرة من مراحل تاريخ الإنسانية الطويل, خاصة أن فكرة سيادة الدولة/الأمة بالمعني المتعارف عليه الآن لا ترجع إلى أبعد من منتصف القرن السابع عشر.

من التناحر إلى التعاون

وقد لا تتحقق كل هذه التوقعات في المستقبل القريب, إذ يبدو أن المجتمع الإنساني لا يزال - في رأي الكثيرين - في حاجة إلى وجود التنظيم السياسي القائم على مبادئ الدولة/الأمة ليس فقط من أجل إدارة الشئون الداخلية في هذه الدولة/الأمة أو تلك ولكن أيضا لتحقيق التعاون الدولي والتضامن بين الشعوب والحكومات لفترات طويلة مقبلة رغم الاتجاه المتزايد نحو الاتحاد أو الاندماج بين مجموعات من الدول لتحقيق أهداف معينة, فالمشايعون لفكرة استمرار الدولة/الأمة في الوجود رغم كل العوامل المناوئة يرون أن مفهوم الدولة/الأمة هو تجسيد للإرادة السياسية لشعب هذه الدولة/الأمة وإدراكه لوجوده هو نفسه واعتزازه بكيانه وإحساسه بتميزه عن الغير وليس تجسيدا لإرادة أو إدراك أو رأي أي تنظيم آخر أكبر من الدولة/الأمة أو حتى تجسيدا لوجهة نظر أو إرادة أي جماعة من جماعات حقوق الإنسان التي تدافع مثلا عن حق الهجرة واللجوء والتوطن رغم إدراكها ما في إقرار هذه الحقوق وتنفيذها على أرض الواقع من مخاطر على هوية الدولة (المضيفة).

ولقد أصبح العالم أكثر استعدادا الآن لتقبل فكرة إمكان سيطرة ثقافة واحدة وأيديولوجيا واحدة ونظرة واحدة تسود معظم دول العالم وإن كانت حقائق التاريخ تدل على أن مثل هذا الاتجاه إلى التوحد كثيرا ما تعترضه اتجاهات وتيارات أخرى مناوئة تضعف من تأثيره وفاعليته وقد تقضي عليه تماما. وهذا هو الإشكال الذي قد يواجه مستقبل الدولة/الأمة التي تتعرض لكثير من التغيرات وبوادر الضعف والتراجع أمام سيطرة الوحدات السياسية الكبري. وهذا يدفع بعض الكتاب إلى القول بأنه يبدو أن وجود الدولة/الأمة (شر لا بد منه) وأن هذا الوجود سوف يستمر لفترات طويلة من الزمن وأن من الخطأ الاعتقاد في قرب انهيار هذا التنظيم السياسي الذي أثبت وجوده وفاعليته لعقود كثيرة ماضية ولا يزال هو أساس علاقات التفاعل والتعاون بل والتناحر والصراع على المستوى الدولي. وربما تعجز الدولة/الأمة عن أن تحل بمفردها وبعيدا عن التكوينات السياسية والاقتصادية والثقافية الكبري وعن التغلب على كثير من المشاكل الضخمة التي قد تواجهها في المستقبل ابتداء من مشاكل البيئة إلى مشاكل الأمن والاقتصاد والاتصال بل ومشاكل البحث والعلم والتكنولوجيا. ولكن هذا لن يؤدي في أغلب الظن بالضرورة إلى غياب واختفاء الدولة/الأمة كتنظيم سياسي متمايز وإن كان سيخضع بالضرورة أيضا لكثير من التغييرات والتعديلات التي قد تنال من مبدأ السيادة المطلقة حتى يمكن لهذا التنظيم أن يستمر في الوجود رغم العواصف التي تواجهه وتكاد تعصف به وتلقي به في أحضان أحد الكيانات الكبري المؤلفة من اتحاد بعض الدول التي ترتبط فيما بينها بمصالح سياسية واقتصادية وعسكرية مشتركة.

 

أحمد أبوزيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات