أمريكا واستراتيجية الاحتواء والترابط

أمريكا واستراتيجية الاحتواء والترابط
        

مازال الغرض النهائي للولايات المتحدة هو تحقيق الهيمنة لتكون القطب الأوحد الذي يدور الباقون من حوله، ووسيلتها في ذلك استخدام القوة.

          استخدام القوة ليس بالأمر الجديد، فقد نادى به الرئيس تيودور روزفلت منذ أوائل القرن الماضي حينما فضّل سياسة الحديد والدم على سياسة الزبد والحليب، التي كان ينادي بها الرئيس مونرو والولايات المتحدة تخرج بحذر من سياسة العزلة لتحتك بالعالم الآخر بمشاكله وتناقضاته.

          واستخدام القوة في السياسة على أنواع ثلاثة: فهناك القوة الخشنة باستخدام القوات المسلحة في القتال الفعلي أي في حالة الحركة، وهناك القوة الناعمة باستخدام ما لدى الدولة من قيم ومثل تجعلها كمنارة يحتذي بها الغير عن طريق الإقناع وتقديم المعونات. وعلى سبيل المثال، سقوط حائط برلين باستخدام القوة الناعمة كخطوة أدت إلى تفكك الاتحاد السوفييتي والمنظومة الشيوعية بيريسترويكا ميخائيل جورباتشوف، وبذلك انتهت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي دون إطلاق طلقة واحدة. وهناك القوة الرشيقة، التي تمزج بين استخدام القوة الخشنة، وهي في حال الثبات عن طريق سباق التسلح وزيادة نفقات الدفاع ونشر القلقلة والفوضى لتحقيق الردع واستخدام القوة الناعمة، أي سياسة العصا والجزرة.

          وقد اندفعت الولايات المتحدة بعد سقوط القطب الشيوعي المنافس لها لفرض سياسة الهيمنة تحت شعارات مختلفة تتراوح بين استراتيجية العولمة وفرض الديمقراطية ومكافحة الإرهاب والأسواق الحرة والسماوات المفتوحة، ووسيلتها في ذلك استخدام القوة مع التركيز على القوة الخشنة تحت شعارات حافة الهاوية، ومَن ليس معنا فهو ضدنا، وسوف نفعلها وحدنا باستخدام الشرعية الانتقائية، وتجاهل الهيئات الدولية.

          فقامت بغزو أفغانستان، ثم هاجمت العراق، واحتلت البلدين، ومازالت بقواعدها ومطاراتها، إلا أنها فوجئت بأن الأقزام يمكنهم أن يتصدّوا للعمالقة، وأن قوة الضعف يمكن أن تتحدى ضعف القوة ووجدت نفسها في موقف صعب يحتّم عليها تغيير وسائلها مع التزامها بالغرض نفسه وهو الهيمنة.

          وانعكس ما يجري في ساحة المعارك على الرأي العام في الولايات المتحدة، لأن الأمر في النهاية ليس بيد الرئيس جورج بوش أو بيد قادته في الميدان، ولكن الأمر بيد الرأي العام الأمريكي سواء بإعلان رفضه بطريقة مباشرة أو عن طريق صناديق الانتخابات. وكان على الإدارة الأمريكية أن تعيد حساباتها فيما يخص استخدام القوة في سياستها الخارجية، وقد لمسنا تغييرًا في هذا المجال في إدارة الأزمات التالية لغزوها أفغانستان والعراق، فعزفت عن استخدام القوة الخشنة للخسائر الفادحة التي تتكبدها، وللنفقات الصاروخية التي أصبح الاقتصاد الأمريكي يعانيها ولانعزالها تدريجيًا عن الأصدقاء في أوربا وغيرها، وأخيرًا لأنها وجدت أن القوة الخشنة لا تحل الأزمات، بل تزيدها تعقيدًا، بل وأضعفت من مركزها عالميًا لدرجة دفعت الرئيس الروسي بوتين إلى نقدها علنًا بكلمات واتهامات ثقيلة.

احتواء الأزمة

          في تقديرنا أن الولايات المتحدة تتبع الآن استراتيجية مزدوجة تجمع بين احتواء الأزمة وحصارها واستمرار الضغط على مراكزها الحساسة للوصول إلى مركز تفاوضي أفضل، ثم الربط بين ما تريد تحقيقه وبين ما يريده الطرف الآخر عن طريق «خد وهات» أو أنصاف الحلول»، مع استبعاد استخدام القوة الخشنة، وجعل ذلك كورقة أخيرة إذا لم يكن من ذلك بد، أي استخدام القوة للردع دون إقحامها فعلاً في القتال.

          كوريا الشمالية - مثلاً - دأبت في الشهور الأخيرة على مشاكسة الولايات المتحدة علنًا، والتحرّش بها في تحديات متتالية مما دفع واشنطن إلى وضع «بيونج يانج» في كشف دول محور الشر جنبًا إلى جنب مع إيران، أطلقت كوريا الشمالية عددًا من الصواريخ البالستية بعيدة المدى من طراز تايبو دونج  - 2 قيل إن مداه حوالي 1200 كيلومتر مهددة هاواي وألاسكا، علاوة على أنها تمتلك صاروخ سوخود - بي ومداه حوالي 300 كيلومتر وسوخود - سي ومداه حوالي 500 كيلومتر. وهذا شيء خطير، إذ إن الصاروخ يمكنه نقل رأس تقليدية أو نووية إلى عمق الولايات المتحدة، الأمر الذي دفعها إلى التهديد وإثارة عدم الاستقرار في العالم بوجه عام، وفي الشرق الأقصى بوجه خاص، إذ تعتبر نفسها شرطي العالم المنوط به تنظيم امتلاك دولة للقوة حسب مصلحتها.

          لم تخضع كوريا الشمالية للتهديد والردع، بل فاجأت العالم بتفجير نووي رصدته الأجهزة العالمية، وكانت أزمة حقيقية تهدد الأمن الأمريكي، ولكن لم تفكر واشنطن في استخدام القوة الخشنة أيضًا، بل قامت باحتوائها وعزلها بالحصول على تأييد لسياستها من كل الدول المجاورة، ومن ضمنها روسيا والصين، معززة ذلك بقرارات من مجلس الأمن، ثم دخلت في مفاوضات سياسية - الكوريتان واليابان، والصين، وروسيا والولايات المتحدة - لعبت فيها الصين الدور القيادي.

          وانتهت المفاوضات بنتائج جمّدت الأزمة ولو إلى حين، وربطت بين ما تريده كل الأطراف إذ نص الاتفاق على:

  • إلزام بيونج يانج القيام بإصلاحات اقتصادية.
  • خفض تسلّح كوريا الشمالية.
  • إغلاق المفاعل النووي الرئيسي في يونجيبون خلال 60 يومًا.
  • السماح بعودة المفتشين الدوليين.
  • رفع كوريا الشمالية من لائحة الإرهاب وإجراء مباحثات مع واشنطن لإعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما، أي خروج كوريا من العزلة.
  • إمداد كوريا الشمالية بكميات مجزية من النفط والمواد الغذائية، التي كانت في أشد الحاجة إليها، مع الإفراج عن بعض الحسابات المجمّدة لها في الخارج.

          يعني تجميد المجهود النووي الكوري في مقابل خروجها من العزلة، وتلقي بعض المساعدات، أي استخدام القوة الناعمة والرشيقة للاحتواء، ثم الوصول إلى موقف تفاوضي يحقق الربط بين الأغراض المختلفة.

اختلاف درجة الحدة

          ولكن لوحظ أن الولايات المتحدة لم تتعامل مع كوريا الشمالية بالحدة نفسها، التي تتعامل بها مع إيران، علمًا بأن الأولى أصبحت دولة نووية، والثانية نجحت في تخصيب اليورانيوم إلى 3.5% سمح لها باستخدامه في الأغراض السلمية فقط، وأمامها شوط كبير لتخصيب اليورانيوم إلى 90% ليصبح صالحًا لتصنيع سلاح نووي مما يحتاج إلى مئات من أجهزة الطرد المركزي.

          لعل ذلك يرجع إلى أنها تعلمت الدرس من العراق وأفغانستان، أو أنها أدركت أن الحرب في جبهتين خطأ استراتيجي لا يجوز مضاعفته بفتح جبهة ثالثة، أو هذا هو الأهم، فإن بيونج يانج تقع في المنطقة الرمادية لمصلحة روسيا والصين، بما في ذلك من خطوط حمراء لا يجوز تخطيها.

          وأخيرًا فإن كوريا الشمالية - حتى وهي تقوم بمشاكساتها، تمسكت بالحوار، وأن دعوتها لكريستوفر هيل المفاوض النووي الأمريكي مازالت قائمة، وفهمت الولايات المتحدة الرسالة، فكوريا الشمالية تريد حلا يخفف من مشاكلها الداخلية ومعاناتها من نقص في الطاقة والمواد الغذائية.

          سؤال أخير قبل أن نختم: هل سياسة الاحتواء والارتباط يمكن أن تكون سياسة عامة في الأزمات الأخرى، التي تواجهها الولايات المتحدة؟ أم أنها سياسة خاصة تقدمها مع بيونج يانج لظروفها الخاصة؟ أميل إلى القول إنها سياسة عامة تتفق مع وجودها في المستنقع الذي تعانيه ولكن لا يمكن الجزم بذلك أمام تصرفات الرئيس الأمريكي، التي تتجاوز المنطق والحسابات لأن غرور القوة يدفع صاحبه إلى حساب أموره بطريقة شاذة قد تدفعه إلى أعلى، وقد تجبره على الهبوط إلى القاع!!.

 

أمين هويدي