رمزية المرآة.. قراءة في الدواوين الأخيرة لمحمود درويش

رمزية المرآة.. قراءة في الدواوين الأخيرة لمحمود درويش
        

          «المرآة» و«القرين» و«الظل» و«الآخر» و«الشبح» كلها تقنيات يتكئ عليها محمود درويش في الرؤيا الجديدة التي تضمها دواوينه الأخيرة، وهي دواوين تتميز بالحضور القوي للذات التي تحدق في نفسها، كأنها تراها في «مرآة» تؤدي دورًا لايختلف، جوهريًا، عن دور «القرين» الذي لايفارقه قرينه،  أو «الآخر» الذي يغدو هو الوجه الثاني للذات،أو «الظل» الذي لايفارقها، كأنه «الشبح» الذي يتحول إلى مدلول يدل على داله: الأنا. ولا تــفارق هــذه الـثـنـائية علاقة الاسم الذي لا ينفصل عن مسمّاه، كي يراقب صاحبه و يراقبه صاحبه، كما يحدث في التجليات العلائقية للتقنيات السابقة.

          وأولى الـتـقـنـيـات التي لـفـتـت انتباهي هي ما يرتبط برمزية المرآة، وهي رمزية قديمة، تضرب بجذورها في الميراث الإنساني الأسطوري والفولكلوري والإبداعي على السواء، وهو ميراث ظل مصدر إلهام، في بعض جوانبه، لإبداعات حديثة، من مثل ما كتبته لويس كارول عن «أليس عبر المرآة» أو ما ظل مصدر إلهام الكتّاب الذين استغلوا العلاقة الرمزية بين المرآة والأشباح، أو المرايا السحرية التي نعبر منها إلى عوالم أخرى، أو حتى المرايا التي هي القاسم المشترك في الفنون التي أناب عنها شكسبير (1564 - 1616) التمثيل، كي يجعل غايته أشبه «بإقامة المرآة أمام الطبيعة، لكي تعكس للفضيلة محيّاها، وللزراية صورتها، ولجسد العصر والمجتمع شكله وأثره».

          وليس هذا المدى من الرمزية بعيدًا عن الميراث الفلسفي الذي تحتل «المرآة» فيه مجالات ترتبط بعملية المعرفة التي ينعكس فيها العقل على نفسه، ليتأمل حضوره، في ثنائية المعرفة الذاتية، وهي عنصر أساسي في التراث الصوفي العربي الذي تقترن فيه رمزية المرآة بأحوال الشهود التي يرى فيها العارف الحقائق التي تنزاح عنها الحجب، كما لو كان يتطلع إلى مرآة، ولذلك يقول أبو يزيد البسطامي:

كنت لي كالمرآة فصرت أنا المرآة


          ويقول ابن الفارض:

وأنظر في مرآة حسني كي أرى جمال وجودي في شهودي طلعتي
رفعت حجاب النفس عنها بكشفي النقاب، فكانت عن سؤالي مجيبتي
كنت جلاء مرآة ذاتي من صدا صفاتي ومني أحدقت بأشعةٍ


          أما ابن عربي الذي كان يرى أن العالم مرآة الحق والحق مرآة العالم، فيقول:

قلب المحقق مرآة فمن نظر يرى الذي أوجد الأرواح والصورا
إذا أزال صدى الأكوان واتحدت صفاته بصفات الحق فاعتبرا


          ولم تتباعد رمزية المرآة، في دلالاتها الصوفية، عن الشعر الرمزي الأوربي، خصوصًا الذي تأثر منه بالشعر الصوفي العربي، وأخص بالذكر الشاعر السويدي جونار إكيلوف (1907 - 1968) الذي تعلم رمزية المرآة من التراث الصوفي العربي والفارسي،حيث تقرأ مفتتح قصيدته «فاطمة» على النحو التالي:

في المرآة الساكنة رأيت مجلى
نفسي وروحي:
تغضّنات عدّة
منابت رقبة ديك
عينان حزينتان
فضول نهم
زهو حرون
ترافع زائف
صوت جاف
بطن ينفتح فيه شق طولي
ليخاط من جديد
قدم مبتورة
حنك يعب السمك والنبيذ
واحد يتوق إلى أن يموت

          وهي أسطر تقودنا إلى ما كتبه إكيلوف في قصيدته «العاشق» التي نقرأ فيها:

أعرف، بعد كل شيء، أن المرآة هناك
وأن ثمة كائنا مختلفًا ينظر من المرآة
يومًا ستدير عينيك إليه
وعندما تحول عينيك عنه، أتلاشى، أنا، بدوري
أنت مجلى حزنك، مجلى رغبتك
مرآة ذاتك والصورة في المرآة،

          وتلك دلالات لا تتباعد كثيرًا عن الأفق الذي يبحر فيه رمز المرآة في شعر خورخي بورخيس (1899 - 1986) مقرونًا بالمتاهات، كما في نصوصه «المرايا والمتاهات» وغيرها من النصوص أو القصائد التي تؤكد لنا تكرار دال المرآة في شعره، فنقرأ له أسطرًا من مثل:

- لست أدري كيف يكون الوجه الذي يراني عندما أنظر وجه المرآة
- لست أعلم أي عجوز يتلصص على انعكاس محيّاه
بغيظ صامت واهن،
- لماذا تصرّين على البقاء أيتهاالمرآة اللامتناهية
لماذا تضاعفين أبسط حركات يدي
أيتها الأخت السرية.
- إنك أناي الأخرى
- أحيانًا يرنو إلينا في الأماسي
وجه من أعماق مرآة:
- على الفن أن يكون كالمرآة
فيكشف لنا وجهنا نفسه

          هكذا، تتعدد رمزية المرآة عند المبدعين على اختلاف تياراتهم ولغاتهم، فتغدو نماذج تجريبية الملامح، سريالية القسمات، أو إشارة إلى ما يصور به المبدعون وعيهم في لوحات قلمية، ابتداءً من أمثال نيتشه وليس انتهاء بفلاسفة ما بعد الحداثة ومبدعيها، وذلك في التقاليد التي استهلها نيتشه - في «هكذا تكلم زرادشت» - بأقوال من مثل: «عندما نظرت في المرآة صرخت، وقد ارتجّ قلبي هلعا، إذ لم أر نفسي هناك، بل وجها بشعا لشيطان وتكشيرة ساخرة».

          وكان ذلك قبل دخول المرآة رمزية إلى الشعر الحداثي العربي على يدي أدونيس الذي حقق بها إنجازات غير مسبوقة في ديوانه «المسرح والمرايا»، مرورًا بما تلاه من دواوين لم تخل من أثر الرمزية الصوفية، أعني الرمزية التي حامت حولها قصائد كثيرة لشعراء سبقوا محمود درويش إلى اكتشاف المرآة رمزًا وعلامة، فظلت المرآة عنصرًا متكررًا في أشعارهم، ابتداء من نازك الملائكة والسياب وعبدالوهاب البياتي، مرورًا بصلاح عبدالصبور، وليس انتهاء بعفيفي مطر أو أمل دنقل الذي أذكر له سطريه.

أتجزّأ في المرآة
يصفعني وجهي المتخفّي تحت قناع النفط

          ويمضي محمود درويش، في رؤياه الجديدة، من حيث انتهى السابقون، ماضيًا في مسار خاص، لا ينفصل عن ثنائية الوعي الذي ينعكس على نفسه، سواء في الفعل المعرفي للتأمل أو الكشف أو الرؤيا، والبداية هي:

أما أنتَ
فالمرآة قد خذلتك
أنت.. ولست أنتَ، تقول:
أين تركت وجهي
ثم تبحث عن شعورك خارج الأشياء
بين سعادة تبكي وإحباط يقهقه..
هل وجدتَ الآن نفسك؟
قل لنفسك عدت وحدي ناقصًا
قمرين
لكن الديار هي الديار.

          واللعب المتعمد بضمير المخاطب (الذي ليس سوى ضمير المخاطب، في فعل التجريد بمعناه البلاغي) دال على انشطار الوعي، وانقسام الذات ما بين مبدأ الواقع ومبدأ الرغبة.

          الأول يشدها إلى قبول ما هو واقع، بينما يجذبها الثاني إلى النقيض، حيث البحث عن الشعر خارج المألوف والمعتاد والحضور المروّض في الوجود، ما بين المفارقات أو نوافر الأضداد. حيث يحتقن المجاز، وتتجاوز النقائض، ولكن ينتهي المسعى في المابين إلى الإحباط، فالديار هي الديار، وما ضاع هما القمران اللذان يوازيان في ثنائيتهما طرفي المفارقة: الأنت الذي هو الأنا المرغوب فيه، والأنت الذي تريد أن تكونه الأنا أو تشتهيه. وتجاوز هذا النوع من التأمل الذي تتمزق به الذات بين الواقع المفروض والممكن المحظور والمستحيل المعدوم، إلى نوع مواز من انشطار الوعي الذي تتسع به الرؤيا، فتكون عبارته على النحو التالي:

وكلما شاهدت مرآة على قمر
رأيت الحب شيطانا
يحدق في:
أنا مازلت موجودا
ولكن لن تعود كما تركتك
لن تعود، ولن أعود
فيكمل الإيقاع دورته
ويشرق بي.

          والأسطر مراوغة في تجاوبات دوالها مع دلالات المرآة في الأساطير والخرافات الشعبية، خصوصًا في اقتران المرآة بالقمر، بسبب طبيعتها الأنثوية، ولأنها سلبية لا تنقل إلا ما يقع عليها أو يواجهها كالقمر الذي يستمد ضوءه من الشمس، أضف إلى ذلك الصفة السحرية، شيطانية الطابع، الملازمة للمرآة التي تحدّث عنها زرادشت نيتشه، أو التي تقود إلى عالم آخر، لا رجعة منه، يمكن أن يكون خطرًا ومميتًا، أو تخرج منها أرواح الموتى التي تسكن المكان، وبعضها شرير مؤذ. ولذلك يغطي المرآة المؤمنون بهذه المعتقدات، أو يديرونها نحو الحائط، كي يكونوا بمأمن من خاصيتها الشيطانية. وظني أن الأسطر السابقة تمتح من مثل هذه المعتقدات، على مستوى اللاشعور الجمعي والرموز البدائية العتيقة عند كارل يونج، ولا غرابة - والأمر كذلك - أن تقترن مشاهدة المرآة على قمر بتحول الحب إلى شيطان، يحدّق من خلال المرآة التي ترانا أشباحها، لكن بما يكشف، أو يعلن، عن فعل التغير الذي لن تعود به، الأوضاع إلى ما كانت عليه، فيكمل الإيقاع دورته، ولكن بما «يشرق» بصاحبه الذي يغص به, في دلالة غــــير بـــعيدة عن دلالة الجرح أو الاختناق أو الجدب (التي تتأكد حين نقول: شرق الجرح بالدم، أي امتلأ، وشَرِق الموضع بأهله: امتلأ وضاق بهم، وشرقت الأرض، أي أجدبت وامتنع أن يجـــري فــــيها الماء)، ولذلك لن يعود شيء كما كان، أو يكتمل الإيقاع بعد أن غزته نقائضه، فانقطع عن سامعه.

          وليست الحيرة المعرفية بين طرفي ثنائية الوعي، أو الحضور والغياب، سوى مجلى آخر من مجالي رمزية المرآة، خصوصًا حين نقرأ:

وجدت نفسي في نفسي وخارجها
وأنت بينهما المرآة بينهما
تزورك الأرض أحيانًا لزينتها
وللصعود إلى ما سبّب الحلما
أما أنا فبوسعي أن أكون كما
تركتني أمس، قرب الماء، منقسما
إلى سما وأرض، آه... أين هما؟

          والأسطر مقطع مقترن بفعل «التكوين» في مدى الحب، ليس بالضرورة بالمعنى الحرفي، فالحب في الرمزية الصوفية تعلو دلالته على الفهم الحرفي، ويمكن أن يكون ضمير التأنيث - في الأسطر - دالا على الحقيقة التي «هبطت إليك من المحل الأرفع، فيما يقول ابن سينا، كما يمكن أن يكون دالاً على انتصار الحضور الأنثوي الذي لا يفارق دلالة الخصب، أو حتى دلالة النبع الذي ترتوي منه الأرض، فتأخذ زينتها الخضراء، أو يكون دالاً على بحث الأنا عن منقذه، مثل «عناة» التي ألحّ درويش على ذكرها في الجدارية، حيث الوصول إليها، كالاستسلام لها، صعود إلى الرؤيا، لكن ينقشع الحلم كالعادة ويشرق صاحبه بالماء، منقسمًا إلى قسمين لا يجتمعان لأنهما لم يتحدا بسحر الآلهة الحارسة التي تظل بعيدة عن العاشق الباحث عنها:

مسافرةٌ،
حول صورتها في مراياك، «لا
أم لي يا ابنتي فَلِديني هنا»
هكذا تضع الأرض في جسد سرها
وتزوّج أنثى إلى ذكر، فخذيني
إليها إليك إلىّ، هناك هنا، داخلي
خارجي، وخذيني لتسكن نفسي
إليك، وأسكن أرض السكينة.

          وتبدو الأسطر السابقة كما لو كانت تصل بالبحث إلى نهايته، فتتكشف الرؤيا، وتتزوج الأرض، ويهبط المطر المقدس، ويعثر العاشق على صورته، وتحدث الولادة الجديدة للأنا، موازية للولادة الجديدة للأرض، التي تحتضن المطر المقدس في تربتها، وتلاقيه لقاء الأنثى، تصدّت للذكر، فينقلب التعدد إلى اتحاد، والانفصال إلى اتصال، ويصبح الـ«هنا» هناك، والداخل هو الخارج، وتسكن النفس أرض السكينة، ولكن فيما لا تفارق ظلالها معنى التناص الذي يومئ إلى الآية القرآنية: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها .

          ولكن هذا السكن النفسي - الروحي لا يلبث أن يزول، فلاشيء ثابت في تطلع الأنا إلى نفسها في المرآة التي تتبدل فيها الصور، بدورها، كأنها آلة الكاليدوسكوب (Kaleidoscope)، التي تعكس العشرات من الصور اللانهائية، في تحرك قطعها الزجاجية الملونة، وهي صفة أخرى ملازمة لرمزية المرآة في ميراثها الإنساني الذي يتجاوب، خصوصًا في هذه الصفة، مع تقلب ما تعكسه مرايا محمود درويش التي لا يكف الناظر والمنظور إليه، والوسيط الواقع بينهما، عن التحول والتبدل، هكذا، نقرأ:

... وأنظر نحو
نفسي في المرايا:
هل أنا هو؟
هل أؤدي دوري من الفصل
الأخير؟
وهل قرأت المسرحية قبل هذا العرض
أم فُرِضت عليَّ؟
وهل أنا هو من يؤدي الدور
أم أن الضحية غيَّرت أقوالها؟

          ولا تخلو الأسطر من إيماءة إلى شكسبير، في تفاعلات التناص، حيث السؤال عن الكينونة وحضورها، بوضع الذات موضع المساءلة أمام المرآة، فضلاً عن الإشارة التي لا تربط بين التمثيل والمرآة فحسب، كما سبق وأن أشرت، بل تجاوز ذلك إلى تحويل الحياة إلى «ظل» يمشي (وهو رمز يتكرر كثيرًا في الرؤيا الجديدة)، وإلى مسرحية يؤديها ممثل بائس، يتبختر زهواً لساعة على المسرح، ثم لا يسمعه أحد، فالحياة حكاية يرويها أبله، ملؤها الصخب والعنف اللذان يتجاوبان ودال الضحية، التي يمكن أن تغير أقوالها، تحت ضغط واقع عليها، في الأسطر الأخيرة، وهي أسطر تردنا نهايتها إلى بدايتها، فنعود إلى اقتران فعل التعرف، وملازمة السؤال عن كينونتها بحضور المرآة، فنقرأ:

اكتبوني، كما قال ريتسوس، أين
اختفيت وأخفيت منفاي عن رغبتي
لا أرى صورتي في المرايا، ولا صورة
امرأة من نساء أثينا تدير تدابيرها
العاطفية مثلي هنا.

          والإشارة إلى الشاعر اليوناني الشهير يانيس ريتسوس (1909 - 1990) إشارة إلى شاعر آخر عانى اعتقالات الحكومات الديكتاتورية، وعاش مكتويًا بنارها، لكنه ظل مرتبطًا بقضايا البسطاء الذين فتح لهم شعره، مستخدمًا صورًا ومجازات من فتات الحياة اليومية. ولكن ليس هذا هو المقصود من الإشارة فحسب، فهناك إخفاء المطارد من القمع عن مبدأ الرغبة لمواجهة مبدأ الواقع الخشن، ومن ثم مواجهة الصورة بالصورة، والمرآة بالمرآة، لكن سدى، إذ يظل منفى ريتسوس حاضرًا مثل تفاصيل الحياة اليومية، التي صنع منها إبداعه، فنال لذة القصيدة، وذلك على النقيض من قرينه الذي لم يجد صورته في المرآة، فتحول إلى الغياب الذي ينفي حضور التدابير العاطفية التي تعني اتحادًا يبن ذكر وأنثى.

 

جابر عصفور