قصص على الهواء

  قصص على الهواء
        

تنشر هذه القصص بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
أصوات شابة في القصة العربية

حسين محمد بافقيه *

  • لماذا اخترت هذه القصص؟

          طغى على القصص التي قرأتها قدر كبير من الوعظية والعقائدية،  إلا ما كان من أمر القصص الأربع التي انتخبتها، وأشعرني واقع تلك القصص بأن أصحابها رقيقو الصلة بالسرد، لاسيما القصة القصيرة، وبلغ ببعض كتّابها أن رسم لنفسه غاية ما، وجاز بالقص إليها، دون أن يأبه لما يمليه عليه الفن، أما ما كان من أمر اللغة - نحوها وأبنيتها ورسمها - فقد أحزنني أن عددًا من تلك القصص لا يكاد يحفل باللغة، كأن أصحابها لا يعلمون أن الأدب مادته اللغة، وأن من شرف الكتابة معرفة أصولها وقواعدها.

لحظة غير منتهية
نبيل جميل - العراق

          الزمن يتآكل وهو لم يأت بعد. قلقها يزداد بعد سماع نغمة الهاتف المحمول، خطى خيالها تهيم في متاهة هوية المتصل، الرقم المعلن غير موجود ضمن القائمة. صداع مفاجئ يهاجمها، ويرغمها على الاتكاء إلى حافة مقدمة السيارة، بكل ثقل وتركيز تحاول أن تتذكر تلك الأصبوحة الكئيبة: (ابتلعت قرص الأسبرين، غفت على كتفه برهة، داعبتها نسمة هواء باردة، آخر ماسمعته منه: «تمسّكي بذكرى لقائنا الأول، على الحدود، أيام الاجتياح الكاسح، بعد فشل الانتفاضة، خلدي ذكرى ارتعاشات الأيدي المتماسكة، ساعة التحامنا الثائر، وتراص أجسادنا في صد رشقات رصاص زبانية الدكتاتور»..) . الهاتف يرن من جديد، يعاودها القلق، الساعات تزحف رمادية قاتمة، فضاءاتها ملبدة بغيوم الارتباك، من الأعماق يوخزها صوت مجهول: ( ليس مؤكدًا أن يكون ضمن العبارة، التي غرقت).

          تأملت الساحل بأناسه الدائمي الحركة، وعادت تنظر إلى الشارع، ثم إلى ساعتها اليدوية وهي تفكر.

          - أجل سأتصل بالشركة، لابد أنها ستزودني بقائمة الناجين، أو الغر... ماذا؟ الغرقى... لا، لا

          ينتابها الصداع مرة أخرى، تتفوه بصوت منخفض جدًا:

          - وإذا لم يكن اسمه بين... ياربي رأسي تنفجر.

          يتوقف الرنين. ترمي الهاتف داخل حقيبتها اليدوية، تدخل السيارة وتنطلق، بعد أن تودّع رصيف الميناء المزدحم، تجتاز عددًا من السيارات، ثم تستقر في الجانب الأيسر من الطريق العام، ذاكرتها المنفلتة والمتنافرة بالعديد من المشاهد المتداخلة تضطرب، عداد السرعة يشير إلى تجاوز السرعة المقررة، ضجيج السيارات بمنبهاتها الحادة، يتضاءل من حولها، شفتاها تغمغمان بكلمات مبهمة، عيناها تتضببان بالدموع، على تفكيرها العام تهطل رغبة البكاء، نبضها يتسارع، انهيالات الأسئلة تتراشق عليها، يخالطها شيء من الرعب ومشاهد من الأمل، بانثيالاتِ أحلام ظنت بأنها ربما ستجلب لها النعيم، أضواءٌ تتماوج وظلال، خفوت في الرؤية، غيبوبة مؤقتة وهذيان، يراودها خوف ما، خطر مريع، ليس بالمبهم أو الواضح جدًا، تحرر نفسًا ثقيلاً، وتزيح عن وجهها آثار الألم والاحتقان، تشعر بروحها تنفصل عن الجسد لحظة النجاة بأعجوبة من حادث اصطدام، بدت مجهدة وهي تخفف من السرعة، ثم لتتخذ من الجانب الأيمن مسارًا لها، رافقها ذعر وارتياب في مراوغتها هذه، نظراتها مشتتة بين المرآة الجانبية وما يجول بذهنها.

          وبسبب انفلات ذهني، تضغط وبكل قوة على دواسة الوقود، عندما شعت بوجهها أول إشارة مرورية حمراء، وكوقع صاعقة تندفع السيارة ثم تستدير بسرعة مذهلة وترتطم بالسيارات الأخرى، ثم وباحتكاك ساحق تزحف نحو الجزيرة الوسطية، لتصطدم بعمود الكهرباء.. وفيما أخذ عدد من المارة بالتجمع، بدأ رنين الهاتف ومن جديد يتصاعد من بين الأنقاض. 

  • أنموذج جيد للقصة التي تُمسك بلحظة ما، فالقصة المعبّرة ليس من همّها أن تعبّر عن قضية كبرى، ولكن يكفيها أن تنتخب مما يُلم بالنفس من حالات فرح أو حزن أو فزع ذريعة للقص، وهذا ما كانت عليه «لحظة غير منتهية» في تقلّب بطلة القصة بين وجلها  من رنين الهاتف المحمول الذي قد يحمل نبأ مروّعًا عن غرق حبيبها، وما تمليه عليها حياتها في يومها الذي هي فيه، وهي بين هذا وذاك أسيرة لذاكرتها التي تبوح بناحية من نواحي الحكاية.

الصداقة النائمة
إبراهيم فرحان خليل - سورية

          يوم كان جابر كف الغزال شابًا في مقتبل العمر، كان مولعًا بالمراسلة حتى أنه أرسل اسمه وصورته وبعض المعلومات عن حياته الخاصة إلى أكثر من مجلة تعنى بهذه الأمور، وعلى إثر نشرها، وصل إليه عدد لا بأس به من الرسائل من مختلف المدن والبلدان، كان في بعضها صور شخصية وفي بعضها الآخر صور مناظر طبيعية أو أزهار مجففة وفي حالات نادرة قطع من العملة الورقية والطوابع مرفقة بأوراق وردية عليها عبارات تتحدث عن الصداقة الدائمة حتى بعد فناء الكون وعن الأجراس التي تدق في عالم النسيان.

          بعد سبع عشرة سنة وثمانية أشهر كان جابر قد تزوج خلالها بفتاة تعرف عليها بالمصادفة على موقف باص وأنجب خمسة أطفال بين الواحد والآخر ثلاث سنوات، وفي حمى الانشغال بأمور الحياة اليومية من جريٍ وراء الرزق واضطرارٍ إلى القيام بأمورٍ كان يعدها تافهةً فيما مضى، نسي جابر كف الغزال كل شيء عن فترة شبابه وأصبح النصف الأول من حياته كأنه لم يكن لكن الرسائل، التي كانت وصلته ظلت قابعةً في أحد أدراج خزانته الزوجية التي أخذ خشبها يتآكل وكان مقدورًا لها أن تكون جمرًا تحت رماد حياته وأن تستيقظ بعد كل تلك السنوات مثل وحشٍ خرافي.

          من المعروف عن عائلة كف الغزال أنها من العوائل القليلة التي تتجنب الخوض في حديث السياسة من قريب أو بعيد وأن واحداً من أعرق تقاليدها العائلية ألا يتدخل أفرادها في ما لا يعنيهم لا بقول ولا بفعل ولذلك حين جاءهم اتصال من أحد فروع الأمن يطلب أن يراجعهم جابر في صباح اليوم التالي لأمرٍ ضروري وقع داخل العائلة هرج ومرج غير معهود، استدعت الزوجة إخوتها وأخواتها وإخوة جابر وأخواته وبعض الأعمام والأخوال من الطرفين، وحين عاد جابر من عمله وعلم بالأمر اصفرّ وجهه كأنه قد طلي بالعصفر،  بقي ساهرًا طوال تلك الليلة يسترجع من ذاكرته جميع ما مر معه من أحداث خلال الأيام القليلة السابقة .... ما الذي حدث ... ؟ ما الذي تغير ... ؟ منذ سنوات لم أذهب إلى أي مكان جديد ولم أتحدث إلى غرباء لا أعرفهم في مواضيع لاأفهم فيها ... ليس لي أعداء ولا حتى منافسون ... ما الذي حدث، ماذا يريدون مني؟ ...الطف بي يا رب.

          وفي نصف الساعة التي نامها حلم بكابوس مرعب رأى فيه نفسه معلقًا من كاحليه، ورأسه غاطس في حوض مملوء بماء حامض. وفي الصباح كان جابر كف الغزال قد فارق الحياة.

          في مجلس العزاء حيث كان شبح الموت لا يزال مخيماً على المكان بأسره انتبه أبو جابر إلى وجود رجل غريب في الأربعين من العمر يبدو عليه أنه موظف، كان جالسًا عند المدخل على يمين الباب وعلى وجهه أمارات حزن شديد فاقترب منه وجلس على جانبه بادر الرجل الغريب بالحديث وهو يعبث بمسبحة بين أصابعه: «كان الله في عونك يا عمي أبو جابر، عفوًا قد لا تعرفني ... أنا أحمد حسون صديق جابر بالمراسلة، أنا في الأصل من حلب وأعمل في الأمن وقد انتقلت منذ أربعة أيام فقط إلى مدينتكم .... حاولت أن التقي بالمرحوم وأتعرف عليه شخصياً ولكن لسوء الحظ ... وأضاف بنبرة متسائلة:

          أنا الذي اتصلت أول أمس يا عم .... ألا تذكر صوتي ؟!. 

  • تتخذ من السخرية المؤلمة طريقًا لها إلى السّرد، فجابر كفّ الغزال قاده ولعه بمراسلة الأصدقاء عن طريق المجلات إلى أن يكسب صداقات نائمة، وأصدقاء لايعرفهم إلا بالمراسلة أو الصور التي يتبادلها أولئك الأصدقاء. والسخرية المؤلمة، هنا، تكمن فيما تفعله بنا الصداقة النائمة حينما تستيقظ!

الكابوس
عبد اللطيف النيلة - المغرب

          وجدت نفسي في خضم حشد من القامات.. بقوة تدفعني القامات من الخلف.. عبثًا أحاول أن أتمالك زمام جسدي.. شعارات مدوية، لاأتبين كلماتها، تصم أذني.. وددت أن تكون شبيهة بتلك الشعارات التي كنت أرددها، في ساحة الجامعة، مع زملائي الطلبة.. وددت، بالأحرى،  أن تكون نابعة من قلبي، وأن أرددها بحرارة الصدق وعنفوان الحماس.. أما أن أكتفي بسماعها صاخبة مملاة، دون أن أميز معناها ودون أن أملك القدرة على ترديدها، فذلك ما كان يعذبني.. استسلمت لتيار القامات الجارف، من غير أن أعرف إلى أين يقودني.. كنت أحس أنني أنحدر، مع التيار، في دروب ضيقة، أشم روائحها الأليفة، أتعثر في حفرها، أرى الجانب العلوي من حيطانها وحوانيتها وبيوتها، أرى وجوها تطل من نوافذها وسطوحها، وأنعطف مع انعراجاتها.. لم أكن أعرف من أين يبتدئ تيار القامات وإلى أين ينتهي، غير أني أدركت أن هناك من لم ينخرط في مسيرة هذا التيار: نساء وأطفالا وشيوخا وحتى رجالا وشبانا.. كانوا يطلون من النوافذ أو من السطوح.. يخيل إلي أني استطعت أن أقتنص تعابير بعض الوجوه المطلة: فضول تحفه الدهشة. نظرات لامبالية. اهتمام متسائل. احتجاج غاضب أو هادىء.. داهمتني رغبة في أن أكون هناك في الأعلى: خلف شباك نافذة أو جدار سطح.. كيف أواصل السير دون أن أعرف إلى أين ولماذا؟.. أحسست بضغط القامات، كانت تحاصرني من كل جانب، وعذبني شعور فادح بالعجز.. كيف أتحرر من هذا التيار الأعمى؟.. ظل السؤال يدور في رأسي حتى لم أعد أسمع أو أبصر شيئًا.. كأني صرت محمولاً فوق الرءوس والأكتاف.. كأن آلاف الأيدي ترفعني إلى أعلى.. وكما يعود الصوت إلى شريط بعد لحظة صمت عميق، سمعت الشعارات تدوي واضحة، وتلامس أوتار نفسي.. ووجدتني أرددها بيسر كأني كنت أعرفها من قبل.. امتزج صوتي بالأصوات الأخرى، وسرت في كياني طمأنينة من أدرك أنه جزء من كل منسجم متماسك.. كنت أردد الشعارات بجسدي كله شاعرًا بلذة الانتماء.. ثم أخذ التيار يتباطأ، حتى صار يراوح مكانه، وانخفضت درجة ارتفاع الأصوات.. بدأ جسدي يتلقى ضغطا من الأمام ومن الخلف.. الذين كانوا أمامي استداروا خلفا، وراحوا يتراجعون، بينما كان الذين من خلفي يواصلون تقدمهم.. اصطدم المتراجعون بالمتقدمين، فتعثر سير التيار.. خطوة إلى الأمام، خطوة إلى الخلف.. استبدت بي الحيرة، فتجمدت شفتاي، وهجمت علي الأسئلة.. لابد أن هناك سببًا للتراجع.. لابد.. وما إن تبادر إلى ذهني أول سبب حتى تفصدت عرقًا باردًا.. هو الخوف إذن يهز جسدي كله، يشل حماسي وطمأنينتي وانسجامي.. اشتد علي الضغط من الخلف والأمام، فيما كنت أقاوم خوفي منحيا عن عيني صور القضبان والأغلال والسياط والحفر الباردة والخوازيق والعدوانية الصارخة.. لم أستطع، رغم خوفي، أن أحدد اتجاه سيري.. الضغط يشتد، وعرقي يجف، إلى أن استعدت صفائي.. أقصد أني تخلصت من الخوف والحماس، من الانتماء إلى المتقدمين أوالمتراجعين.. لبثت في مكاني لا أتحرك، كأني أتفرج على لعبة لأتبين خيوطها.. المتقدمون يعرفون لماذا يتقدمون، والمتراجعون يعرفون لماذا يتراجعون، أما أنا...!؟.. صمدت في مكاني لا أتقدم لا أتقهقر.. يدفعني المتقدمون إلى الأمام، يدفعني المتراجعون إلى الخلف.. تنقلع قدماي من الأرض بفعل الدفع، فأميل حينا إلى الأمام، وحينا آخر إلى الخلف.. أترنح وأكاد أسقط، لكني أتحامل على نفسي محاولا استعادة ثباتي.. المتقدمون والمتراجعون يخترقون بعضهم بعضًا، في ما أحاول أن أبقى قيد مكاني.. أدرك عبث المحاولة: إني لست في مكاني تماما، بل أنا بعيد عنه بخطوة أو أكثر، مرة إلى الخلف، ومرة إلى الأمام.. هل لذلك أهمية؟.. كنت متشبثا بقراري: لا مع هؤلاء ولا مع أولئك.. لن أتحرك حتى أفهم.. واشتد الضغط فجأة من الأمام، كأن المتراجعين صاروا أكبر قوة وأكثر عددًا من المتقدمين..خف الضغط على من الخلف، شيئًا فشيئًا، حتى تلاشى أو كاد.. ووجدت نفسي في مواجهة تيار جارف من الأمام، تيار زاعق بلا شعارات.. جرفني التيار قليلاً، لكني استنفرت كل قواي.. قاومت برغبة، بإرادة، وعيناي مفتوحتان.. كنت أطمح إلى الفهم.. ولم تجرفني قوة التيار، بل سقطت على الأرض، بين السيقان، وأحسست بالأقدام تدوسني.. آلاف الأقدام تطؤني كلي، تطحنني دفعة واحدة، عضوا عضوًا.. عميقًا أحس بالألم في وجهي وبطني وحجري.. عميقًا أحس أني أغور في التراب الذي تحتي.. أتألم وأصرخ، وتظلم الدنيا.

  • نحن إزاء كاتب خبير بمسارب القصة القصيرة، تهدّى إلى أن القصة القصيرة تعبير عن لمحة ما، وهي، ها هنا، لحظة كابوس ألم ببطل القصة، ولم يحل العنوان الذي اتخذ من «الكابوس» اسمًا له، دون ما حف بحركة السرد من دهش ورمز، واختتمت القصة دون أن يفصح القاص عن فكرة ما، أو شعار ما، حتى لو تكررت في نصّه هذه الكلمة.

عن الخالة إديل
رياض الأمين - لبنان

          شكّلت الحرب كومة كبيرة من الركام، ألقت بثقلها فوق الكثير من الحكايات الصغيرة، فقد كان عبور رصاصة في فضاء الشرفات والأحياء الساهرة على أزيز الرصاص المتسكع، كفيلاً بلجوء تلك الحكايات إلى سباتها. المدنيون كانوا الضحايا، لكنهم بدورهم كانوا أيضًا متحاربين بشكل أو بآخر، فالانتماء إلى طائفة معينة كان يعني في أحيان كثيرة، الانتماء إلى متراس أو محور أو عقيدة حربية ما بـ(الراء)، أو في أحسن الأحوال كان يعني الانتماء إلى جهة جغرافية حدودها خط أخضر قيل إنه كان وهميًا، والانفصال نفسيًا عن الجهة الأخرى، كان الموازي العقلي للنزول إلى الملاجئ، أو إقامة جدار من البراميل عند مداخل الأبنية.

          بالرغم من كل ذلك، وبعيدًا عن أي ادّعاء أو تطبع، كان لغريزة الأمومة حياتها الغريبة وسط ذلك المحيط من الاقتتال والتحاقد، وتحديدًا في مكان ملاصق لواحد من أشهر وأخطر المحاور خلال سنوات الحرب الفائتة، وهذه واحدة من تلك القصص الجميلة والغريبة. يمكن أن نبدأ على النحو التالي: عائلة شيعية من الجنوب، تسكن في أحد الأبنية في منطقة الطيونة، وفي ذات المبنى تسكن سيدة مسيحية من بكفيا تدعى أديل. العائلة الشيعية مكونة بطبيعة الحال من زوج وزوجة وعدد من الأبناء بينهم الصغير علي، أما أديل فكانت تعيش بمفردها، تجاوزًا لكل هذه التفاصيل، أفضل أن أكمل القصة كما سمعتها:

          ... إنه وفي ذروة المعارك التي كانت تدور هناك، كانت أديل تصرخ لجارتها أم علي أن تنتبه، فتارة تطلب منها أن تنزل إلى الملجأ، وأخرى تكتفي بالطلب إليها أن تحذر الوجود في ناحية معينة من الشقة، وذلك بحسب وجهة النيران، لكنها كانت تردف في كل مرة بسؤال: «وينو علي..؟»، فإما أن تأخذه عندها، أو تنزل إليه لتحتضنه وتطمئن عليه.

          أحبّت أديل (علي) كثيرًا، إلى حد لامس الهوس، ولم تكن تتردد في إظهار حبها للصبي الصغير والعناية به، فتطعمه وتغسل ثيابه وتهتم بنظافته وصولاً إلى اللعب معه.

          كانت أديل مولعة بالشراب أيضًا، لكن ذلك لم يشكّل يومًا عائقًا بينها وبين جيرانها، ولم يكن ليفك الارتباط الوثيق الذي نشأ بين الأم التي تقطن في أعماق هذه السيدة، وبين أسرة مَن صار بمنزلة ابنها.

          اعتادت الـ Tante أديل، كما كان يناديها علي، الخروج في فترات الهدوء، مصطحبة الصبي معها، لتبتاع له كل ما يطلب وحتى ما لم يطلب، أما في البيت، فهو نزيل حنانها ودلالها، تتركه يسرح ويمرح ويعبث كيفما يحلو له.

          أضحت هذه العلاقة لازمة طبيعية في حياة البيتين، اللذين ربطتهما علاقة جيرة وصداقة وشراكة إنسانية عنوانها هو علي.

          في تلك الفترة، وتلك المنطقة، كانت العلاقة بين جارين، أحدهما مسلم والآخر مسيحي، لا تعد بالضرورة من العجائب، إلا أنها لم تكن أمرًا طبيعيًا أو تلقائيًا ويوميًا، بالخصوص إذا ما كان ابن أحد الجارين، نزيلاً دائمًا في بيت وقلب وعقل الجار الآخر.

          طيلة فترات القصف والقنص أو الاقتحامات المتبادلة، كان محيط المبنى الذي يقطنه علي، هدفًا بديهيًا لسقوط القذائف والقتلى، وعنوانًا رئيسيًا لنشرات الأخبار. وكانت الأحداث تأخذ مجريات غير متوقعة.

          حركة اللبنانيين خلال الحرب كانت متواترة، والتوزيع الذي أملته القذائف، كان أقوى من أي قرار أو رغبة أخرى. اضطرت عائلة علي للانتقال إلى أحد الأحياء القريبة من طريق المطار، فيما غادرت أديل باتجاه بلدتها بكفيا. في حالات وظروف مشابهة، يفترض أن كل أم ستحتضن أطفالها وتحملهم إلى الناحية الأكثر أمنًا، أما هنا فأم علي احتضنت ابن أديل وغادرت!

          مرّت السنوات، كبر علي وصار شابًا، ثم انتهت الحرب، وقررت أديل زيارة جارتها، أو أم ابنها كما كانت تعرّف عنها، صارت على علم بالعنوان، وبات من المؤكد أنها ستأتي. الحاج علي يبدو مربكًا بالرغم من اشتياقه!  عفوًا.. حاج؟ نعم أدى علي فريضة الحج، فهو الآن شاب ملتزم دينيًا، تزوج ثم سافر إلى كندا وأصبح لديه أسرة. وعندما سافرت زوجته إلى لبنان، كانت أول وصاياه لها، أن تزور مع طفله  (Tanteأديل) التي استقبلتهما في بكفيا بفرح ودموع، وكانت كلما طلبت زوجة علي من ابنها أن يكف عن عبثه وشقاوته في أرجاء منزل أديل، ردعتها هذه الأخيرة قائلة: (تركيه... هيدا علي عم يلعب قدامي). أما الآن فالحاج علي في موقف لا يحسد عليه، إرباكه أفقده أعصابه، حتى لاحظ ذلك كل مَن حوله، فما الذي يجري؟

          ... عاد علي من كندا ليزور أهله، سرعان ما اتصلت أمه بأديل تدعوها لرؤية حبيبها العائد، لكن علي يكاد يفسد الأمر برمته، إلى أن أفصح لوالدته الحاجة أم علي عمّا يزعجه ويربكه: (أكيد أديل بدها تعبطني وتبوسني...! وهيدا هلق صار شرعًا ما بيجوز.... أنا كثير مشتاقلها.. وحابب شوفها.. بس...!).

          أشارت عليه أمه أن يستشير رجل دين، علّه يرشده إلى مخرج، ثم راحت تبدد عنه مخاوفه من إمكان أن تصطحب أديل معها (قنينة ويسكي أو عرق)، على عادتها في المناسبات السعيدة، مما سيسبب له إحراجًا كبيرًا، سيما مع وضعه الجديد، الذي لا تعرف عنه أديل شيئًا، فهو بالنسبة إليها ليس إلا «علي» صغيرها وفلذة كبدها الذي مرت سنوات ولم تره.

          ظل الحاج علي حائرًا، يبحث عن مخرج لائق تارة، وأخرى يرد على غمز ومزاح أصدقائه، الذين راق لهم الموقف، لما يعرفونه عن شدة خجل صاحبهم، فغدا مادة دسمة لنكاتهم.

          أما الحاج، فلم يجد أي مخرج شرعي مقبول بالنسبة له. فقرر أن يواجه الموقف.

          وصلت أديل، وعلى الفور انطلقت حفلة نسائية من العناق والقبل، ولما اقتربت من ذلك الشاب الذي كان يومًا طفلها، استوقفها طلبه المؤدب، الذي تلاه بابتسامة لم تفلح في إخفاء الحياء الذي لون وجهه بالأحمر، تفهّمت أديل الأمر بكل طيبة خاطر، وخففت عن علي توتره بلهجة حانية: (ما رح بوسك... ولا أعبطك.. بدي أقعد حدك وملّس عليك بس...).

          أجلسته قربها، وأخذت تمسح بكفها على كتفه وساعده، وتتأمل وجهه الذي بدأ يتصبب عرقًا، فما كان منها إلا أن أخرجت منديلاً ورقيًا، ومسحت حبيبات العرق، ثم وضعت المنديل بين شفتيها لتقبل السائل الذي كان قبل لحظات عالقًا فوق جبين علي ووجنتيه.

          في آخر زيارة له إلى لبنان، توجه الحاج علي مع زوجته وأولاده إلى بكفيا قاصدًا أديل، لم تعرفه هذه المرة، فقد أنهكها كبر السن والمرض، وشتت ذاكرتها إدمان الشراب، لكن ما إن سمعت صوتًا يسألها: (شو... ما عرفتيني؟).

          حتى صاحت: (بلى... حبيبي علي).

          هذا كل ما أعرفه عن القصة، لم أسأل ولن أسأل المزيد عنها، فهي جميلة بهذا القدر. 

  • في القصة انتزع الكاتب مشهدًا إنسانيًا دالاً وسط الحرب التي اشتعلت في لبنان، فلم تستطع الحرب البشعة أن تجتث بذرة التنوع في لبنان، وشاهده تلك الرابطة الإنسانية المتينة، التي ربطت بين أسرتين، إحداهما شيعية والأخرى مسيحية.

-----------------------------------
* كاتب من السعودية