أسئلة الدهشة الممتدة ليبيا متحف حضارات العالم

أسئلة الدهشة الممتدة ليبيا متحف حضارات العالم

أدهشتنا ليبيا, فهذا البلد قادر على منح زواره ذهولاً لا ينقطع منذ أن تطأ قدمه أرضها البكر وحتى موعد المغادرة, ولعل هذا ما حدث معنا تماماً. كانت ليبيا في الذاكرة محاطة بغلالات خادعة, حجبت في أحايين كثيرة القدرة على (تلمس) عطر حضاراتها القديمة ونموذجها الفريد, فغابت عنا وغيبتنا عنها, حتى فاجأتنا تلك الزيارة بما يدفع إلى الروح ألق الاكتشاف, وما يدخل في النفس عبق التاريخ ودفء صناعة الحضارات. جئنا إلى ليبيا على محفة أجنحتها العروبية, وانطلقنا نجول فيما أذن الوقت لنا به. ما أجمل تلك البكارة التي وجدنا ليبيا عليها. أرض في كل شبر تختزن أثرا لحضارة, ويزين بحرها الطويل البيضاوي شواطئ باهرة الزرقة, كأنه الحلم حين يدهش, وكأنها المفاجأة... مفاجأة الابحار في الغامض حين يكتسي سحراً وغرابة.

علت زغاريد النساء وصرخات الاطفال المبتهجة, متزامنة مع قفزات الرجال الى الأعلى, عندما قال قائد الطائرة بصوت أجش متقطع (لقد عدنا بسلامة الله الى مطار طرابلس الدولى).

كانت لحظة يصعب وصفها, فرحة التقاط حياة كان ميئوسا من استمرارها قبل دقائق معدودة.

وفى صالة الانتظار التى عدنا اليها, تساءلت وزميلى المصور, عما اذا كانت قفزاتنا قد لامست سقف الطائرة أم لا?, كنا مذهولين تماما لدرجة اننا اعتبرنا ان حياة اضافية كتبت لنا, بعد ان رأينا بأم أعيننا جناح الطائرة وهو يحترق ويتصاعد الدخان منه بكثافة بعد ساعة واحدة من مغادرتها بنا المطار الدولى, لم ينتبه الركاب الآخرون لما يحدث قبل ان يقول قائد الطائرة, (بسبب عطل طاريء نحن مضطرون للعودة من حيث جئنا), عندئذ حبس الجميع أنفاسه, وبقيت وزميلى ناظرين الى جناح الطائرة ودخانه الكثيف, فيما كانت الساعة القادمة التى تفصلنا عن المطار أكثر بعدا وأصعب احتمالا من قرون, قرأنا كل الآيات القرآنية التى نحفظ, وتمتمنا بأدعية نلجأ لها فى مواقف شديدة الصعوبة دائما ما تصادفنا فى عملنا الذى عادة ما يكون فى المناطق ذات البؤر الساخنة فى العالم, أو تلك التى لاتخلو من خطورة.

سألت زميلى لأستمد بعض جلد فيما اللحظات التى سبقت هبوط الطائرة تبدو وكأنها كسيحة, إن كان قد شاهد من قبل احتراق جناح طائرة خلال سفراته التى انتشرت على مساحة ربع قرن وغطت أرجاء الكرة الارضية, كنت احاول استجداء مايعين الروح على ادعاء الشجاعة, ومايدفع الى القلب المضطرب لمسة من دفء زائف, ولكن كيف لكل هذا الخوف الثقيل ان ينداح بكلمة, فيما مصيرنا ومصير من معنا مرهون بتصرف رجل يقود الطائرة ويسابق زمنا وحريقا كان لايزال متأججا فى الجزء الأيسر المدبب من جناحها.

كلفنا هذا الجناح ساعات طويلة من المكوث فى المطار انتظارا للمغادرة من جديد, لكن حلاوة الروح التى اكتشفنا لحظة الاختبار أهميتها دفعتنا للاحتمال, اذ ان الساعات التى أخذنا نقضيها أعقبت فقدان الأمل فى الحياة أصلا, لكن ما أبهج الروح حقا, كان اكتشاف بلد مثل ليبيا له كل هذا الحجم الهائل من الغموض, وبه كل هذا التراث الانسانى الممتد عبر حضارات عدة, وبه كل تلك الامكانات الكبيرة التى تؤهله لتحقيق قفزات كبيرة فى مجالات مختلفة.

جئنا الى ليبيا التى اصبحت جماهيرية, يتبعنا الغامض منها, والقليل من الحقائق اقتنصناها من مراجع عصية على من يطاردها, لكن هذا البصيص الخافت, كان دافعا للركض فى انحاء هذا البلد العربى الشقيق بحثا عن حقائق غيبها ـ لزمن طويل ـ ركام الشعار وتداعيات السياسة والمصالح الدولية.

قصة شيخ

عندما يأتى ذكر ليبيا, يقفز على الفور الى الذاكرة اسم بطلها العربى الرمز عمر المختار, فالشيخ الذى اختار مجابهة محتلي بلده فى سنوات عمره المتأخرة, ارتضى الاعدام على يد الغاصب الدخيل كي تظل شعلة رفض المهانة متأججة فى الصدور, حتى ينتهى الأمر باستقلال الوطن وطرد الدخلاء المستعمرين, بطل مثل عمر المختار كان لابد من ان يطاردنا تاريخه طيلة رحلتنا الى ليبيا التى امتدت بين الكثير من مدنها, والتى حاولنا فيها ان نقرأ فى صفحات هذا البلد العربى المهم, تراثا وحضارة وعطاء وزمنا بهيجا ظل يرفرف على مساحته الهائلة, ويلقي بشعاعات ضوئه على جيرانه ومحيطه عربيا واوربيا وافريقيا ومتوسطيا, ان ليبيا التي تبلغ مساحتها مليوناً و957 ألف كيلومتر مربع والتي تتعدد مناخاتها هي قصة جميلة لحضارة مضيئة, ظلت تشع طويلا , ومازالت قادرة على الاشعاع.

بعد ثلاث ساعات من الطيران انطلاقا من القاهرة, حطت بنا الطائرة فى مطار طرابلس الدولى, الذى افتتح قبل عام من وصولنا بعد رفع حظر الطيران الدولى عن الجماهيرية, كانت شعارات (الكتاب الأخضر) تدور فى كل ركن فيه بلونها الأخضر, فيما كانت لافتات أخرى كثيرة تصطف خارج بوابة المطار وتظل ترافق الزائرين طيلة الطريق المتسع الطويل الى وسط العاصمة, كل شيء كان أخضر من اللافتات الشعارية الى ملابس الضابطات اللواتى يتولين الكثير من المهام الأمنية والادارية فى المطار, الى نوافذ البيوت وأسوارها, حتى الجداريات الكثر التى تتحدث بود عن المصير المشترك مع افريقيا (السوداء) كان لونها أخضر أيضا. قـــبل وصولنا الى (الفندق الكبير) وهو فندق جميل تديره هيئة تنشيط السياحة فى الجماهيرية الليبية, الى جانب العديد من المرافق الفندقية الراقية, والتى تستعين فيها بالخبرة الوطنية, كان التنظيم الرائع للطرق والنظافة اللامعة فى الشوارع من بين ما لفت انتباهنا, طلبنا من السائق ان يدور بنا فى ارجاء المدينة, لاحظنا عندئذ هذا العدد الكبير من الأفارقة ببشرتهم المميزة وهم جالسون على الأرصفة حاملين أدواتهم الحديدية, غسالون للسيارات وحدادون وصباغون فى انتظار الزبائن, كان الجو رائعا فى بدايات الشتاء, مادفعنا الى وضع امتعتنا فى غرفة الفندق, والانطلاق الى (كورنيش) طرابلس الممتد والعريض في دولة تمتد شواطئها البحرية مسافة 1900 كيلومتر, كان منظر البحر ساحرا وكانت أفواج البشر تسير رواحا وغدوا, بينما تتصاعد أصوات أجهزة التسجيلات لباعة الشرائط الغنائية المسجلة, مرافقة للسائرين فى ذلك الأصيل البحرى البهي على البحر الأبيض المتوسط. حين طلبنا من أحد أكشاك الباعة مشروبا باردا, أشار لنا الى عدة أصناف منها: (كوثر) و(سعادة) و(مرادة) و(روعة) و(بومس), وهى بدائل للمشروبات الغربية المثلجة والمنتشرة بكثرة فى بلادنا ودول العالم, ومع انها تحمل اسـمـا مـغـايــرا أو مـعـربا الا انهـا تحـتفـظ بنـفس العــلامــة التجــارية ونفس حجــم الــعبوة وأيضــا نفس المذاق.

وقد لمسنا فيما بعد ان التعريب لم يشمل المشروبات الباردة وحدها, فسيارات الأجرة هى الأخرى تحمل مسمى (ركوبة), وأعلى التاكسيات ذات اللون المميز هناك لافتة مثلثة صغيرة تشير الى انها (ركوبة عامة), تمييزا لها عن الركوبات الخاصة الصغيرة عادة وقديمة الطراز فى معظمها, فيما لم نشهد طيلة رحلتنا أى سيارة من طراز أميركى تجوب الشوارع, ولايتوقف التعريب عند هذا الحد فهو يشمل كل شيء من الفنادق التى لايوجد منها أى نوع من تلك المنتشرة والمعروفة فى معظم دول العالم, والشركات مهما كان مجال النشاط الذى تزاوله, والمجمعات والأندية الترفيهية والسياحية.

حتى الشهور أيضا لها قاموس ليبى متفرد, وكذلك الأعوام, فشهر يناير الذى نعرف, اسمه فى ليبيا (النار), وفبراير (النوار), ومارس (الربيع), وابريل (الطير), ومايو (الماء), ويونيو (الصيف), أما يوليو فاسمه (ناصر) على اسم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وتيمنا بثورته التى شهدها شهر يوليو, وأغسطس (هانيبال), وسبتمبر (الفاتح) وهو اليوم الأول من الشهر الذى قامت فيه الثورة الليبية بقيادة العقيد معمر القذافى, واكتوبر (التمور), ونوفمبر (الحرث), وأخيرا ديسمبر ويطلق عليه (الكانون).

ولايقتصر الأمر على الشهور, فالسنوات أيضا لها ما يناسبها وفقا للرؤية الليبية, فالتقويم الليبى يبدأ اعتبارا من وفاة الرسول محمد (ص), وسنة 2002 تعني في هذا التقويم الفريد سنة 1370 ب. و (أى بعد وفاة الرسول).

لم نمكث طويلا فى طرابلس التى ادهشتنا بساطتها, وود اهلها وجمال شوارعها, وساحتها الخضراء الجميلة التى تتحول كل مساء الى نهار مضيء, تصبه كشافات في أبعد نهايات الأعمدة الكهربائية المرتفعة, وقد حضرنا فيها الكثير من الأعراس التى كان يأتى اليها الاهالى لالتقاط الصور التذكارية للعروسين فوق عربات خشبية مغطاة تجرها الاحصنة تدور بهم فى الميدان الفسيح قبل ان تعود لإقامة الزفة الليبية المميزة وسط أبواق السيارات المبتهجة التى تزينها زركشات ملونة من ورود طبيعية واوراق شفافة وبالونات منتفخة , ومن هذه الساحة انطلقنا الى السوق القديم, حيث باعة الذهب والمشغولات اليدوية والملابس التقليدية والجلود والتحف, الذى كانت تصدح فيه مسجلات للصوت بأغاني أم كلثوم. ومن الساحة ايضا انطلقنا ولساعات طويلة نسير فى شارع عمر المختار الممتد طويلا والذي يبدأ من مبنى وزارة الداخلية ومصرف الامة, وفى شارع أول سبتمبر وهو شارع تجارى مهم تباع فيه الملابس الايطالية الراقية و تتناثر على جانبيه محلات العطور والمكتبات والأجهزة الكهربائية, سرنا الى شارع آخر اسمه الكاظمية, فظللنا ندور حتى اعادنا التعب الى الساحة من جديد ومنها الى الكورنيش الذى كانت أصوات الموسيقى الغربية تعلو فيه رويدا رويدا على صوت حنجرة أم كلثوم, فيما طريقة الملابس التى يرتديها الشبان صغار السن وقصات الشعر, تشير الى ان هناك جديدا يزحف وان كان بطيئا, وان تغييرا ما رأينا بداياته فى مؤشرات كثيرة كان يحث الخطى لاقتناص موقع له.

إلى سلوق

من طرابلس خرجنا ذات صباح منطلقين إلى بنغازي, كان عمر المختار لايزال يطاردنا, وكأنه يدفعنا دفعاً للذهاب إليه, وكأننا ونحن الذين نذكره مع كوكبة من نجوم العرب اللامعين, قد أخذنا بسحره فقررنا الانطلاق إلى حيث كان يناضل, وحيث أعدم, وحيث يرقد الآن في مقره الذي أصبح مزاراً.

بعد ساعة من الطيران, حطت بنا الطائرة في مطار بنغازي, انطلقنا بعدها إلى شوارع المدينة مع مرافقينا خليل العريبي أمين (نقيب) رابطة الفنانين في شعبية بنغازي, وسعد نافو أمين (رئيس) تحرير مجلة الثقافة العربية وأمين فرع المؤسسة العامة للصحافة في بنغازي, وهو كاتب ساخر ومذيع نشط.

ومن بنغازي انطلقنا معا إلى الغرب, فيما كان صوت رخيم للمطرب الليبي الشهير محمد حسن ينطلق من مذياع السيارة بإيقاعات جميلة للغاية لائما الحبيب الذي تتأخر خطاباته). بعد 40 كيلومترا بالتمام والكمال, قطعناها وسط مزارع بها خزانات مياه تستفيد من مياه النهر الصناعي, وصلنا إلى (سلوق) وهي قرية تعتمد على الرعي, والزراعة بها موسمية, ولا يزيد عدد سكانها حالياً على 20 ألف نسمة, لكنها تضم مقبرة عمر المختار, في الساحة الترابية المسورة التي تحيط بالقبر لافتات إحداها يقول (مازلنا نقاتل يا شيخ المجاهدين), في هذا المكان الذي شهد إعدام عمر المختار يوم الاربعاء 16 سبتمبر عام 1931 تم قتل 22 ألف مواطن ليبي, كان قد ألقي بهم في معتقل سلوق, ندخل إلى منطقة المقبرة, المكان مفتوح لا سقف به, وحول ضريح المختار أشجار قليلة ونخيل وأعمدة كهرباء مرتفعة ترفرف أعلاها أعلام خضراء دون كتابة عليها, فيما سور المقبرة مطلي باللونين الأبيض والأخضر, نسير على بعد خطوات قليلة حتى نصل إلى مكان الإعدام الذي يشهد كل عام احتفالاً سنوياً بالذكرى بعد أن تقرر نقل رفات المختار عام 1981 من مدينة بنغازي التي كان مدفوناً فيها إلى سلوق حيث المكان الذي أعدم فيه.

نخرج إلى القرية, شوارع صغيرة, هدوء حتى يخيّل للمرء أنه لا أحد هناك يتحرك, بيوت واطئة وقليلة, ولكن من هنا وفقاً لما يقوله التاريخ مرت جميع الغزوات إلى ليبيا, فهذه القرية بموقعها هي ممر للقبائل, ولعل اختيار الاستعمار الإيطالي إعدام عمر المختار فيها لم يكن عبثاً على الرغم من أن المختار ولد في منطقة الجبل الأخضر وهي المنطقة التي شهدت كهوفها أيضاً ملاحم كفاحه, فقد قصد المستعمر أن يكون الإعدام على مرأى الجميع بهدف ردع أي محاولات جديدة للثورة.

من سلوق خرجنا باتجاه الشرق قاصدين (درنة) التي سنقضي فيها ليلتنا, كان الطريق طويلاً جداً يتوسط أراضي سهلية جرداء على جانبيه, تلوح المرتفعات, فتصعد السيارة بنا, ثم تعاود الهبوط وتدور حول الجبال غير الشاهقة, وتلف في وسطها, جمال ترعى وحيدة سائرة على الطريق الإسفلتي, فيما لاتزال الصحراء شاسعة, ها نحن أخيراً وصلنا إلى أول مدينة تصادفنا, إنها (الأبيار) التي ترتفع عن سطح البحر نحو 300 متر.

أعشاب صحراوية تنبت بكثافة في الأراضي السهلية, وظلال تلقى بها السحب المارّة على الأرض الجرداء فتبدو كبقعة داكنة فوق بساط أصفر, نمر بقرية (المليطانية) حيث البيوت ضامرة ومتناثرة على قلتها, بعدها ندخل في صحراء بنية اللون لا تتركنا قبل أن تسلم موكبنا إلى مدينة (المرج) المشهورة بأنها إحدى المدن الإغريقية الخمس التي تأسست في شرق ليبيا, وكان اسمها (بارشي) أو (برقة) كما كان يطلق عليها خلال الاستعمار الإيطالي, وفي ليبيا برقتان الأولى برقة البيضاء وهي الآن (المرج) وبرقة الحمراء والتسمية في كليهما تعود إلى لون التربة وإن كانت من أخصب الأراضي التي تضمها البلاد ومشهورة بالقمح, قطعنا نحو 90 كيلومترا من سلوق حتى مدخل مدينة المرج حيث الورش الصناعية والمدارس ومحلات تجهيز الأعراس, هذه المدينة تعرضت لزلزال كبير عام 1961 وأعيد بناؤها من جديد على النمط الحديث.

نترك المرج ونسير وسط طريق مليء بالأشجار الضخمة التي تظلله, هناك مزارع كبيرة, قبل أن يواجهنا مرتفع جبلي, إنه (الجبل الأخضر) الذي يرتفع في أعلى منطقة (الحمرى) إلى 850 مترا يمتد طوله 200 كيلومتر ويصل عرضه إلى 75 كيلومتراً, تماماً مثل مساحة لبنان, في هذه المنطقة كان الاستعمار يسعى لتوطين خمسة ملايين من جنوب إيطاليا وتسليمهم مزارع جاهزة فيها.

ظللنا سائرين في طريق يصل امتداده إلى 225 كم مواز للجبل الأخضر الذي يبدأ من (عقبة الباكور) غربي مدينة المرج ويتنهي عند (وادي البقر) الواقع شرقي مدينة درنة بنحو 5ر1 كيلومتر, هنا تحديداً كانت المنطقة التي شهدت الجهاد ضد الإيطاليين.

ندخل إلى تلك المنطقة التي تنتشر في أواسط سلسلتها الجبلية مئات الكهوف التي أصبحت مزارات للسياح, حيث كان عمر المختار والمجاهدون الليبيون يتخذون منها مخابئ خلال هجماتهم المتواصلة ضد المستعمرين, نمر الآن بمنطقة وادي (الكوف) الجبلية, ونقف قليلاً تحت جسرها الذي تم بناؤه خلال تصوير الفيلم العالمي (عمر المختار) الذي أخرجه مصطفى العقاد وقام بالبطولة فيه (أنتوني كوين).

قبل هذا الجسر الذي علقت عليه الآن صورة لعمر المختار وتحتها عبارة (هنا أودية الجهاد وعرين الأسد المختار) رأينا من بعيد جسرا يصل بين جبلين مرتفعين, كان المنظر بديعاً من أسفل الجبل, إنه من أجمل جسور العالم المعلقة حقاً.

وادي (الكوف) الذي تم اعتماده دولياً باعتباره منطقة محميات طبيعية, به عدد هائل من الكهوف, ولا أدري لماذا سمى وادي (الكوف) وليس (الكهوف)... ولماذا حذف حرف الهاء منه?

أنوار درنة

اقتربنا من (درنة), مساء بعد أن قضينا اليوم منذ صباحاته الأولى في السير على الطريق, كنا لانزال نعاني من انسداد الأذن نتيجة الضغط الذي داهمنا ونحن في السيارة أعلى الجبال ثم الهبوط فالصعود فالهبوط مرة ثانية, ساورنا إحساس المسافر في الطائرة, فتحمّلنا الألم, وانطلقنا ندور في شوارع المدينة, المضاءة والمتسعة, حتى وصلنا إلى الفندق, فألقينا حقائبنا, وانطلقنا نستكشف ليل المدينة وناسها وعبق حاراتها.

في هذه المدينة التي يشطرها مجرى أحد الأودية الكبيرة المعروفة في ليبيا وهو وادي درنة يعيش 121 ألف نسمة, معظمهم من التجار, وبها جامعة حديثة بها كليات للعلوم الاجتماعية والتقنية والطبية, إضافة إلى المركز العالمي للمهن الشاملة ومعهد المعلمين.

ودرنة أنشئت في القرن الثالث عشر, واستعمرها البيزنطيون لفترة, ثم جاء الفتح الإسلامي واستمر حتى جاء الأتراك إليها, قبل أن يحتلها الإيطاليون عام 1914, ليقوموا بعد ذلك ببناء سور كبير حولها يمنع دخول المجاهدين إليها, ويمنع أيضاً عنهم أي إمدادات من أهاليها.

كان لابد لنا إذن لمعرفة المزيد عن (درنة) من الذهاب إلى مؤرخها الشيخ مصطفى الطرابلسي (80 عاما) وهو مؤلف كتاب (درنة الزاهرة), وقد ذكر لنا حين زرناه في منزله في اليوم الأول لوصولنا إلى المدينة, أن هناك درنة القديمة, ودرنة الجديدة, وإذا كانت الأولى قد ورد اسمها لأول مرة في التاريخ على لسان بطليموس الفلكي اليوناني, حين ذكر أن البطالمة خلفاء الاسكندر ضمّوا إليهم برقة, فإن درنة الجديدة نشأت وازدهرت بعد مجيئ العائلات الأندلسية, واستقرارها في الشمال الإفريقي إثر طردهم من الأندلس, وقد كان المكان المختار للاستقرار هو درنة, وفي هذا الوقت ازدهرت الزراعة فيها.

في هذه المدينة, يوجد مقابر للصحابة الــ 77 الذين استشهدوا في درنة, عقب عودتهم من فتح بلاد المغرب, كما أن فيها الكثير من دلائل التأثر بالأندلس, لدرجة أن طراز البناء يتجلى في بعض البيوت إلى جانب المساجد خاصة المسجد القديم, وقد وصف مؤرخ آخر هو (عثمان الكعاك) في كتاب له عن درنة طراز البناء الأندلسي قائلاً: (إن الخوف الذي كان يلاحق الأندلسيين نتيجة خروجهم من هناك, ألقى بظلاله على طراز العمارة الأندلسية في مدينة درنة).

ودرنة هي مدينة الفنانين في الجماهيرية, فيها عدد كبير منهم, وقد شاهدنا فرقاً مسرحية وأخرى للفنون الشعبية أثناء تأدية بروفات يومية لهم, ومن المعروف على المستوى الليبي أن بداية انطلاقة المسرح كانت في مدينة درنة عام 1930.

قضينا الليلة في فندق يطلق عليه (الجبل الأخضر), وهو فندق متواضع يقع في ميدان الثورة, الذي يضمه حي (البلاد) وهو واحد من عدة أحياء تضمها مدينة درنة, منها الجبيلة والساحل الشرقي وشيحا الشرقية والغربية.

في الصباح انطلقنا لزيارة مقابر الصحابة الــ77 الواقعة في حي سيدي بو منصور ويضمها مبنى ملحق بمسجد كبير ذي ساحة عريضة يطلق عليه مسجد الصحابة, المسجد واسع جداً وملحق به غرف كثيرة لتحفيظ القرآن وتدريس اللغة العربية, وبه بهو واسع جداً وكراسي خشبية للانتظار, وساحته يزيّنها الرخام, وللمسجد مئذنتان تتوسطهما قبة ضخمة مطلية باللون البني, ويحيط به من الخارج أسوار حجرية, كما أن بابه مرتفع على شكل أقواس النصر تحيطها قباب صغيرة خضراء اللون, في هذا المكان مقام (سيدي زهيربن قيس البلوي) قائد الفاتحين, وفي المبنى نفسه توجد حجرة مجاورة يطلق عليها (حجرة الشهداء) رضي الله عنهم, كما يوجد مقام سيدي عبدالله بن بر العيسى (مساعد قائد الفاتحين) ويطلق عليه أهل درنة اسم (سيدي الزوام) رضي الله عنه, وإلى جواره حجرة أخرى باسم قاضي الحملة (سيدي أبو منصور الصحابي) رضي الله عنه, وإلى جوار هذه الحجرات مكان به بئر ماء, وفي المبنى نفسه توجد حجرة للصوفية من الطريقة (العروسية) وزاوية للصحابة العروسية, وزاوية أخرى لابن عيسى وأخرى بها قبر الشيخ عبدالسلام الأسمر.

ندخل إلى (سوق الخرازة) أي سوق المصنوعات الجلدية, الذي يقع في وسط (حوش) مربع تتوسطه (فسقية) قديمة متهالكة, وتدور حول جوانبه المحلات واطئة فتكون الأبواب على شكل أقواس, لا بديل للمرء عن الانحناء قليلاً عند دخولها, محلات ضيقة كأنها علب الكبريت, وبها ماكينات لصناعة الجلود وإصلاحها.

على الأرجل نسير من مسجد الصحابة سائرين في شارع مسجد الصحابة عابرين السيارات المنطلقة بسرعة, ثم نلتف إلى اليمين لنصل إلى شارع زليتن أقدم شوارع درنة, فنجد في مواجهتنا المسجد العتيق وهو أكبر المساجد على الإطلاق فيها ويكتسي باللونين الأصفر والبني القاتم.

إبداع خجول

في ليبيا ثمة ظاهرة مدهشة, قد لا نبالغ إذا قلنا إنها لا توجد في غيرها, ففي هذا البلد يكثر الشعراء والأدباء ويتكاثر الخجل والتواضع إلى درجة قد تكون مرضية, فلم تحط أقدامنا ببلدة من مدن وقرى ليبيا إلا وجدنا حركة لافتة في المسرح وحركة الشعر والقصة والرواية, حشد هائل من المبدعين, ومن بين هؤلاء الجديرون باحتلال مكانة مرموقة في مضمار الإبداع العربي, لكن الأمر المحيّر حقاً هو هذا الخجل الذي ربما كان (غير حميد) في عرض ما يكتب المرء على الآخرين.

حيّرتنا هذه الظاهرة - وهي ظاهرة بالفعل - وتساءلنا كثيراً عن السبب, ولم تقنعنا الإجابات التي دارت معظمها عن طبيعة الإنسان الصحراوي التي تمنعه من السعي لعرض ما يكون نتاجاً لقريحته على الآخرين, ويشير هؤلاء إلى إنه في حال إذا ما أرسل أي منهم قصيدة إلى صحيفة ولم تجد طريقها للنشر, فإن عدم النشر هذا يكون كفيلاً بتوقف الشاعر عن المحاولة مرة ثانية, وربما يتوقف أصلاً عن الكتابة.

في اليوم الأول لوصولنا إلى مدينة بنغازي, قضينا الليلة بين مسارح المدينة التي كانت فرقها مشغولة بالاستعداد لموسم مسرحي جديد, وقضينا آخره في استوديوهات التلفزيون التي كانت محتشدة بكبار نجوم التمثيل الليبي, الذين يقومون بأداء أدوارهم في تمثيليات كانت ستعرض في شهر رمضان (الماضي).

وفي بنغازي وحدها هناك 13 فرقة مسرحية منها 12 فرقة أهلية بالإضافة إلى فرقة وطنية ترعاها الدولة, وإلى هذه الفرقة جاء فنانون من مصر (عمر الحريري عام 1967 وسيد راضي ومحمد توفيق) وقاموا بتدريب الفرقة وإخراج عدة مسرحيات لها.

والغريب في الأمر أن كل العاملين في تلك الفرق من ممثلين ومخرجين وكتّاب وعاملين آخرين هم من الهواة, فلا يتقاضى أحد منهم مكافأة عن مشاركته, وتقوم تلك المسارح بتمويل نفسها ذاتيا, وعلى الرغم من ذلك, فإنه لا تكاد تخلو مدينة ولا قرية من فرقة مسرحية.

وحول الفن في ليبيا, قال لنا (نقيب) الأمين العام لرابطة الفنانين وعضو المكتب التنفيذي لاتحاد الفنانين العرب جمال اللافي: إن في ليبيا تسعة مهرجانات تقام سنوياً تختص بالطرب والغناء والموسيقى والفنون التشكيلية والبصرية والمسرح والفنون الشعبية, مشيراً إلى أن الفن الليبي ليس جماهيريا بسبب عدم الاحتراف, رغم أن هناك نحو 40 فرقة مسرحية على مستوى الجماهيرية.

من جهتها, قالت لنا الفنانة خدوجة صبري وهي الأمين العام المساعد لرابطة الفنانين والتي حصلت على العديد من الجوائز آخرها جائزة مهرجان قرطاج عن فيلم (معزوفة المطر) والتي كرمت في مهرجان القاهرة الأخير للإذاعة والتلفزيون, إن الشركة العامة للسينما (الخيالة كما تسمى في ليبيا) تقوم بعمل فيلم روائي بالسينما كل 3 سنوات تقريباً, كما أن هناك مخرجات ليبيات في التلفزيون والإذاعة, وكذلك المسرح.

وفي الجماهيرية بمختلف مدنها يزدهر الشعر, ولكن الشعراء يغنون في العادة لأنفسهم, وفي طرابلس وبنغازي ودرنة التي مكثنا بها عدة أيام وليال, كانت لنا لقاءات كثيرة وندوات مع شعراء وقصّاصين وكتّاب مسرح ومؤلفي أغاني.

وفي ليبيا حاليا يوجد 333 شاعراً وفقا لآخر احصائية صدرت قبل نهاية عام 2001 والعديد من الروائيين وكتّاب القصة, وعن الشعر يقول شيخ الشعراء الليبيين حالياً حسن السوسي: إن الشعر في ليبيا تطور منذ الستينيات إذ عرفت قصيدة التفعيلة, وجاء هذا التطور متزامناً مع انتشار التعليم وزيادة المعارف العامة, حتى وصل إلى الزمن الحالي حيث أصبح شعراء ليبيا يشاركون في المنتديات العربية بشكل فاعل.

وفي بنغازي, كان لنا لقاء مع الشاعرة خديجة بيسكري التي تكتب زاوية في صحيفة الجماهيرية ولديها ديوان مخطوط, غير أنها أصدرت في بيروت عام 1994 ديواناً, وهي تؤكد أن كثيرات سبقنها في مجال الكتابة ومنهن فوزية شلابي (وزيرة سابقة) وعائشة إدريس وعائشة بظاما وكن يكتبن الشعر الحر.

وفي القصة التقينا سالم العبار وهو أمين تحرير صحيفة بنغازي وهو قاص معروف وباحث في الأدب الشعبي أيضاً, وهو يعتقد أنه على الرغم من كثرة عدد الأدباء في ليبيا, فإن الأدب الليبي غير منتشر في الخارج بالشكل الذي يستحقه.

ولا يقل الفن التشكيلي عن الشعر والقصة والمسرح في درجة الاهتمام العام, وفي دار الفنون بمدينة طرابلس شاهدنا العديد من اللوحات بالإضافة إلى ورش العمل التي يشارك فيها فنانون من الجماهيرية ويقومون بتجارب متميزة. وقد قال لنا أمين الدار العقيد خليفة المهدوي إن (الحركة التشكيلية في ليبيا هي أحد مفاخرها) مشيراً إلى أن لدى ليبيا عددا من الفنانين الكبار بالمقاييس العالمية.

الطريق إلى سوسة

كان الطريق رائعا للغاية, منذ أن غادرنا درنة في طريق العودة إلى بنغازي, فاجأنا منظر زاهي الجمال على الشريط الساحلي للبحر الأبيض المتوسط, التفافات ساحلية تقابلها سلاسل جبلية عالية, وشواطئ بكر لم تطأها قدم, تحيط بجزر صغيرة متناثرة زاهية الزرقة وسط بحر قليل الأمواج, لقد وصلنا إلى (سوسة) الليبية, وهي غير (سوسة) التونسية, من هنا تبعد جزيرة كريت نحو 400 كيلومتر, في شارع ضيق جداً, نسير وسط طريق ترابي تم تمهيده, لنصل إلى منطقة الكنائس الرومانية في منطقة (الأترون), هناك نشاهد الكنيسة الغربية البيزنطية, التي تم الكشف عنها في الستينيات عن طريق بعثة إيطالية, واستمر التنقيب في المنطقة حتى العام الماضي 2001 بواسطة بعثة فرنسية أشرفت عليها جامعة السوربون, وهي تقوم حاليا بترميمها وتصنيفها بالكامل.

خرجنا من هذه المنطقة وانطلقنا في طريق ساحلي ضيق حتى وصلنا إلى منطقة (رأس الهلال) على ساحل البحر, حيث الجبل يخترق البحر ويرسم مع الشاطئ قوسا هلاليا لم نر أبهى منه ولا أجمل... ولكنه خارج الاستفادة من أي مشروع سياحي.

يهبط بنا الطريق ثم يصعد, فنمر بمنتجع (قوس قزح) تحت الجبل, حيث تتناثر الأبنية صغيرة وبيضاء, بعدها بدقائق نصل إلى بيوت بيضاء أخرى في قرية سياحية عند الهلال البحري الجميل.

نسير بسيارتنا, بينما تلوح لنا أيادي بعض الناس الذين يعملون وسط المرتفعات الجبلية بالتوقف لتناول الشاي الليبي الأخضر, نشكرهم ونمضي في طريقنا إلى سوسة, تلك التي قال فيها أحد الشعراء قصيدته الشهيرة التي كنا قديما ندرسها في دروس اللغة العربية:

أرأيت سوسة والأصيل يلفها في حلة نسجت من الأضواء
أما أنا فلقد أخذت بسحرها لما وقفت هناك ذات مساء


عندما قلت إن المقصود بهذه القصيدة سوسة التونسية,وفقا لما كنّا نحفظه في مدارسنا, قال مرافقونا إن الشاعر كان يعيش هنا وإن الأوصاف الموجودة في القصيدة عن البحر وفـي مقابله الجبل لا توجد إلا في هذه المنطقة.

دخلنا إلى سوسة, وهي قرية صغيرة يعيش بها 10 آلاف نسمة على الصيد البحري, وانطلقنا إلى متحفها, وهو زاخر بتماثيل كبيرة مقطوعة الرأس, وأخرى صغيرة, ولوحات بالفسيفساء وأوان فخارية من الزمن الموغل في القدم.

ذهبنا إلى شاطئ البحر حيث الميناء, الذي تقول الأسطورة عنه إنه لما دمر الزلزال مدينة (تيرة) في اليونان, فإن الإله أبوللو الذي كان مقره في (دلفى) والذي كان الناس يزورونه للتبرك به, ذهب إليه ارسطو طاليس, وسأله عن مكان يذهبون إليه بعد أن ضاقت بهم الحياة في تيرة, فقال لهم: اذهبوا إلى سوسة في شمال إفريقيا, ويقال إن اليونانيين أرادوا قطع الطريق على الفرس القادمين إلى مصر, فجاء المهاجرون إلى سوسة من بومبي, حيث دلهم الليبيون على (قورينا) المسماة حاليا (شحات) فاختاروا بناء مدينتهم هناك وأسسوها عام 631 ق.م, وعندما أصبحوا في حاجة إلى ميناء, اختاروا سوسة (أبولونيا) ميناء لقورينا حيث تم تأسيسها بعد قورينا بـ 30 سنة, وسموها هكذا نسبة للإله أبوللو, وعاشت من ضمن المدن الخمس التي أسسها اليونانيون في برقة والتي كان يطلق عليها اسم (بونتابولس), وقد عاشت في العصرين اليوناني والروماني, وأصبحت في العصر البيزنطي عاصمة المدن الخمس, حتى غيروا اسمها من أبولونيا إلى (سوزوسا) وتعني المنقذ أي المسيح الذي أنقذهم من براثن الوثنية.

لكن زلزالاً ضرب المدينة عام 365 ميلادية, فغرقت, حتى أن نصف آثار تلك المدينة مازال موجوداً تحت الماء إلى الآن, وتقوم جامعة السوربون في الوقت الحالي بالبحث عنها.

على البحر نقف أعلى فجوة تحيط بها دائرة صخرية, تحتجز الكثير من مياه البحر فيها, الجميع من السكان ومن رجال الآثار يؤكدون أنه حمام كليوباترا, ولكن أي واحدة من السبع المسميات بهذا الاسم? لا أحد لديه الإجابة.

متحف الدنيا

ننطلق في طريقنا إلى (شحات) هكذا اسمها الآن, بعد أن كانت (قورينا), إنها مدينة مذهلة بالفعل, مساحات ضخمة تكسوها الآثار البيزنطية الرومانية.

في بداية شحات التي رافقنا فيها محمد علي شريط المرشد السياحي ورئيس أحد الأقسام في مراقبة الآثار, تنتشر المقابر المنحوتة في الجبل على امتداد كيلومترين, أعداد هائلة من تلك المقابر تتوزع على طول الجبل, رخامية وذات أعمدة وفي الداخل غرف كثيرة ومنمنمات حجرية ونقوش.

عدد هذه المقابر وفقاً لمصادر يزيد على 2010 مقابر, مكشوفة ومحفورة في الصخور الجبلية, المقابر الجماعية في الأعلى على طرز مختلفة باختلاف العائلات الحاكمة, والمقابر الفردية في الأسفل وهي أفقية, وقد استعملت المقابر عدة مرات. اليونانيون كانوا أول من استخدمها في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد, ثم استخدمها الرومان بعد ذلك.

عبرنا منطقة المقابر ودخلنا إلى المنطقة الأثرية, وسط الجبل على الطريق نشاهد (معبد أبوللو) الذي يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد, هذه المدينة (قورينا) تنقسم إلى قسمين, الأول خاص بممارسة الشعائر الدينية ويطلق عليه اسم المنطقة المقدسة وتضم معبداً كان يشهد احتفالات الرعية.

وقد أعيد بناء هذه المنطقة في عصر الإمبراطور الروماني (هادريان) حوالي سنة 120 ميلادية, واستمرت المدينة كما هي إلى أن دمرت في زلزال سوسة عام 365 ميلادية, وكان مركز الزلزال مدينة (كوريوم) في قبرص.

أما القسم الثاني من مدينة شحات فاسمه (الأجورا) أي مركز المدينة الذي تقام فيه الاحتفالات والأسواق والمسارح والحمامات.

ويؤكد معظم الخبراء أن الذي اكتشف من تلك المدينة حتى الآن لا يزيد على 40 في المائة فقط من آثارها, وإن ما خفي في باطن الأرض أكثر.

نذهب إلى حيث البوابة وأعمدتها الشاهقة التي تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد, وبجوارها مبنى (الاستراتيجون) أي مبنى القادة, ونمر في طريقنا بعد أن أجهدنا السير في تلك المنطقة المترامية بنبع ماء هو نبع (أبوللو) الذي يهبط الماء منه إلى أسفل الوادي فيما تقابلنا عشرات التماثيل لأسود مجنحة وتماسيح وحيوانات أخرى مجهولة الأسماء.

وإذا كان اليونانيون هم مؤسسي تلك المدينة عام 631 ق.م, فإنهم استمروا فيها حتى عام 96 ق.م عندما جاءها الرومان وأخذوها تنفيذاً لوصية كان أوصى بها بطليموس أبيون شقيق حاكم مصر بطليموس, فقد قال في الوصية: (إذا متّ, ولم أرزق بمولود يرثني, فإن أملاكي تئول للرومان), الذين كانوا يدعمونه, وعندما مات دون ولد جاء الرومان وطالبوا بتنفيذ الوصية وظلوا في حكم قورينا حتى عام642 ميلادية, وهو العام الذي فتح فيه عمروبن العاص ليبيا وطردهم منها.

نصعد إلى أعلى الجبل, حيث معبد الإله زيوس, وهو أكبر المعابد اليونانية في الشمال الإفريقي, وهو يضاهي إن لم يكن يتفوق على معهد (البارسينون) ـ الأكروبول ـ في أثينا باليونان. وهذا المعبد يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد, وهو مبني على طراز (الأركابك) البدائي, وبه ثمانية أعمدة من الأمام و17 عموداً من جهة اليمين, و17 أخرى من جهة الشمال وثمانية من الخلف وعمودان بالداخل أي ما مجموعه 52 عموداً.

وهذا المعبد مقام على مساحة 62 مترا طولا, في 34 مترا عرضا, ويوجد في الداخل قاعدة التمثال التي كانت تحمل في السابق تمثال الإله زيوس, وهو رب الأرباب لدى المؤمنين بالتوحيد في ذلك الزمن السحيق.

بسيارتنا المجهزة للخوض في الأماكن الجبلية المرتفعة, نخترق منطقة جبال الصنوبر, متجهين إلى المسرح الأثري الذي كان مخصصاً للألعاب الرياضية, ومنها ندخل إلى منطقة جمانزيوم تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد, حولها الرومان في بداية القرن الأول الميلادي إلى (فوروم) وتعني الساحة أو الميدان, وهو مبني على الطراز (الدوري) الكلاسيكي.

ويبلغ طول هذا الجمانزيوم 96 مترا وعرضه 84 مترا, وبه 110 أعمدة, وهذه الأعمدة مزركشة وقد سميت وقتها (شيزاريوم) من كلمة القيصر أي العظيم, لأنه بناء هائل.

ندخل إلى شارع (باتوس) أول ملك لقورينا ومؤسسها, وحول هذا الشارع يدور خط السكك الحديدية, هناك مسرح روماني يعود للقرن الثاني الميلادي, وقد جاء الرومان إلى قورينا عام 96 ق.م, وكان المسرح مرتفع البناء, وله ثلاثة أدوار, وهناك منطقة معدة للتمثيل فوقها, ولكن الزلزال الذي حدث عام 365 ق.م هدم المدينة.

كان لدى الرومان نمطان من المسارح, (أوديون) وهو خاص بالغناء والموسيقى والرقص, ويعود هذا المسرح إلى القرن الرابع قبل الميلاد. إلى جانب المسرح الآخر الذي يتم فوقه التمثيل.
ننتقل إلى رواق هرقل الذي يمثل القوة, وهرمس (رسول الآلهة) ويمثل السرعة, وهما معا في تمثال واحد يضمهما الجمانزيوم.

من هناك ندخل إلى منطقة الآجورا أي الساحة العامة أو السوق حيث المحلات, وهناك تم بناء العديد من المذابح التي تقدم عليها القرابين للإلهة, كان الناس يأتون إلى السوق ويقدمون قرابينهم. في هذه الساحة يوجد مذبح الحورية (قورينا) وزوجها أبوللو, ويوجد نصب البحرية المبني في القرن الرابع قبل الميلاد, تخليداً لمعركة بحرية بين اليونانيين والفينيقيين, وفوقه تمثال (نيكى) أو فيكتوري إلهة النصر, ويزين النصب دلافين, أما تمثال الإله (نيكي) المجنح فهو موجود حاليا في متحف اللوفر بباريس ويعرف باسم (نيكي ساموتراسيا).

خرجنا من المنطقة الأثرية التي يمنع السكن والبناء فيها, والتي سجلتها منظمة اليونسكو ضمن مدن التراث العالمي تحت رقم (222), قاصدين المدينة الحديثة (شحات) التي يسكنها حاليا نحو 25 ألف نسمة يمتهنون الزراعة والتجارة وتربية الحيوانات, والتي تشتهر بأجود أنواع التفاح, لكننا في الطريق عرجنا إلى متحف الآثار, وهو مكان يصيب المرء أيضاً بالذهول, هناك رأينا أعدادا هائلة من التماثيل معظمها مهمل وبعضها ملقى في الساحة الخارجية على الأرض, وداخل مبنى المخزن كانت التماثيل بأحجامها المختلفة تؤكد ما لدى الجماهيرية الليبية من كنوز أثرية لو امتلكتها دولة أوربية لصنعت منها مزاراً لا ينقطع السياح عنه, ومن تمثال الحسناوات الثلاث (آجاليا ويوفروسينا وفاليا) أي الماء والخضرة والوجه الحسن, من العهد اليوناني, إلى تمثال لآفروديت إلهة الجمال, وآخر للإله باخوس إله الخمر, وثالث لإيزيس وإلى جوارها تمثال للإلهة (ليبيا), ورأس تمثال أثينا إلهة الحرب, ثم إله الطب, فتمثال الإسكندر الأكبر المقدوني وحصانه, وعربته عندما زار بها واحة سيوة, وآمون الإله المصنوع على هيئة كبش وقد أصبح إلهاً مصرياً ليبياً, ثم هناك تمثال سفنكس الذي لا يوجد منه إلا ثلاث نسخ في العالم, واحدة في (شحات) والاثنتان الأخريان في اليونان, وهو تمثال أشبه بأبي الهول.

غادرنا هذا المتحف العالمي الذي لم يستفد أصحابه منه بعد, وانطلقنا من (شحات) قاصدين طريق العودة الطويل, إلى بنغازي, لكن شيئاً ما كان يحرضنا على التوقف في مدينة (البيضا) مرة أخرى لزيارة ضريح الصحابي الجليل رويفع بن ثابت الأنصاري.

ووسط طريق تحيط به المشاتل والبيوت ذات القامات القصيرة تقابلنا فنادق المدينة وبناياتها العالية ثم الميدان الرئيسي وإبريق الشاي المنتصب وسطه حتى يأخذنا الطريق الطويل الشجري إلى ميدان آخر يفضي بنا إلى الضريح الذي هو عبارة عن حجرة يحيط بها سور كبير ومدخل مشجّر, والذي يقع وسط غرفة مربعة, ويلتف بقماش أخضر كتب عليه باللون الأحمر (لا إله إلا الله محمد رسول الله), ومن البيانات المكتوبة أنه (شهد فتح مصر, ثم ولاّه معاوية على طرابلس).

بعد أكثر من 400 كيلومتر, قطعناها بالسيارة, عدنا إلى بنغازي, وفي الصباح تجولنا في المدينة انطلاقاً من جسر (محمد جمال الدرة) إلى شارع 23 يوليو والشارع الآخر الموازي له (جمال عبدالناصر), ذهبنا في ذلك الصباح إلى جامعة (قار يونس) وهي الأقدم من بين 11 جامعة في ليبيا, وقد أنشئت بها أول كلية عام 1955, والتعليم بها مختلط, وندخل المكتبة المركزية التي تقع على مساحة 37 ألف متر مربع وتحتل أربعة طوابق وتضم نحو ثلاثة ملايين كتاب من بينها قسم خاص لجميع إصدارات (مجلة العربي) متاح للدارسين والباحثين ومنهم من حصل على رسالة الماجستير حول (مجلة العربي), كما أبلغنا محمد إدريس مدير إدارة المكتبة.

أخذنا طريقنا إلى منتجع أبو دزيرة السياحي المخصص للعائلات, بعد أن مررنا على منطقة شعبية اسمها (الفندق) تضم سوقاً للخضراوات ومحطة للباصات الخارجة من بنغازي, ثم ذهبنا عبر منطقة (كركورة), إلى المنطقة القديمة واسمها (الصابري) خرجنا بعدها إلى كورنيش البحر المتوسط لنشاهد (منارة بنغازي) القديمة واسمها منارة (سيدي خرايبيش), ثم إلى بنغازي القديمة لزيارة مسجدها العتيق, ومنه إلى سوق الظلام القديم فسوق الظلام الجديد, ثم ميدان البلدية الرائع والمبني على الطراز الإيطالي وهو يشبه ساحة روما.

آخر المطاف

لأن الأيام الجميلة تمضي هي الأخرى, فقد انتهت جولتنا في الشرق الليبي, لتقلنا طائرة الخطوط الداخلية, عائدين إلى مطار طرابلس.

من هناك التــقيـــــنا القائم بالأعمال الكويتي النــــشط فهد الظفــــيري الذي قــــدم كل التسهيلات لــــنا لإنجـــاز مهـــمتــنـــا الصحــفـيـــــة على الوجــــه الأكــــمل.

... ودّعنا طرابلس, وتوجهنا إلى مطارها في الصباح التالي, كان الطريق مبللاً والأمطار تلقي بزخاتها على زجاج السيارة, وأرضية الشارع, بعد عشرين دقيقة وصلنا إلى المطار, لكن الصباح الندي لم يكن كافياً لينتهي يومنا في هدوء, فقد فوجئنا بذلك الدخان المتصاعد من جناح الطائرة... وبالرعب الذي استغرق ساعة ونصف الساعة, كان دهراً كاملاً...

عدنا من ليـــبيا وفي قلـبـــيــنـــا نحتــــضن هذا البلــــد العربي, وعلى وجهــــينا دهشة السؤال... وذهوله.

 

زكريا عبدالجواد







صورة الغلاف





ليبيا متحف حضارات العالم





ضريح عمر المختار في المكان نفسه الذي شنق فيه





أحد الكهوف التي انطلق منها عمر المختار للجهاد





الجسر الذي تم بناؤه في منطقة (وادي الكوف) لتصوير فيلم عمر المختار





وثيقة نادرة بخط عمر المختار





آلاف المقابر منحوتة في الجبال منذ العصر الروماني مازالت باقية حتى اليوم





أمام بحر (سوسة) الليبية حيث غنى الشعراء





جانب من مدينة (قورينا) الاثرية المتخمة بمئات التماثيل والأعمدة وشواهد الحضارتين الرومانية والبيزنطية





حمام كليوباترا لايزال مفصولاً عن البحر





وجه من إحدى مدن الشرق الليبي





الجامع العتيق في مدينة درنة وهو الأكبر والأقدم فيها





خادم مقابر الصحابة في درنة





مقابر الصحابة الـ 77 الذين استشهدوا تحولت الى مزار مهم في مدينة درنة





شلال درنة الهابط من اعلى جبالها





معبد زيوس في (قورينا) الليبية أكبر حجماً وأعمدته أكثر عدداً من أعمدة معبد الاكروبول في أثينا





اهتمام فائق بالفن الشعبي في ليبيا





 





عمودان تابعان لكنيسة في منطقة (الأترون) وفي الاطار فتاة بالزي التقليدي الليبي





مسرح (أوديون) في القسم الثاني من مدينة (شحات) الأثرية حيث كانت تقام الحفلات





جانب آخر من بقايا آثار مدينة (قورينا), هنا كانت الأسواق والحمامات في العصور البعيدة





خطوط للسكك الحديدية تلف اسوار المدينة الأثرية. استخدمت للتنقيب عن الآثار ولسرقتها ايضاً





إحدى الفنانات تصور مشهداً داخل الاستديو في بنغازي





سوق (الظلام) في مدينة بنغازي حيث لاتدخل الشمس أبداً





الفنانة الأولى في ليبيا (خدوجة صبري)





جامعة (قار يونس) في مدينة بنغازي





هكذا بدت طرابلس في مشهدها الصباحي ذات يوم شتائي