الطبيعة والفن

الطبيعة والفن
        

          صديقان، يجمعهما حب الفن، الموسيقى الكلاسيكية، الرسم، الشعر، لكن الفن التشكيلي كان المؤثر الأول في حبهما للفن.

          ذاك اليوم، كان جميلاَ ساحرًا، ألوان الطبيعة كانت واضحة، الأزرق، والأخضر، والأصفر، كل الألوان كانت صافية، وخريف بيروت هو أجمل فصولها.

          التقيا قبل الظهر، لا غاية معينة من لقائهما سوى تمضية نهار في أحياء بيروت وشواطئها.

          - انظر زرقة السماء، كأنها زرقة السماء في لوحة لبول سيزان! آه ما أجملها!

          - ماذا تقول؟ أنت تكفر!!

          - أكفر أنا؟ كيف؟

          - تشبّه لون السماء بلون سماء في لوحة رسام؟

          - صحيح.

          - السماء والأرض من عمل الله. واللوحة من عمل الإنسان.

          - هذا صحيح أيضًا.

          - تقول صحيح وتوافق وكأنك بريء.

          - ما بالك؟ وأنا أتكلم عن جمال الطبيعة، وأنت تكفّرني، وكأنك لا ترى ما أراه.

          - كأن حضرتك تعتبر أن الجمال في الطبيعة قد خلق لك، وأنك تصف الأشياء بالأشياء وتضعها في أماكن بعيدة، أبعد من السماوات...و...

          - يا صديقي، كل ما قلته هو أن الطبيعة جميلة، وأن الأزرق فيها ساحر...

          - بل قلت إن أزرق السماء كأزرق في لوحة رسّام.

          - بول سيزان Paul Cezanne.. نعم... وأين الخطيئة؟ وأين الكفر؟

          - تشبيهك للطبيعة وجمالها بعمل الإنسان. والعكس هو الأصح.

          - تعني ماذا هنا؟

          - أعني أن الإنسان أتى بعدما كانت الطبيعة. ونظره تعلّق بها وفيها عندما ولد وتنفس من هوائها. الطبيعة هي الأصل يا صديقي الإنسان يأتي بعدها.

          - مَن قال؟ مَن قال هذا؟ لماذا تجعل المخلوقات في درجات في أعمار مختلفة، في عهود لها مساحات من الوقت، من الزمن، من الأمكنة، كل شيء أتى مع كل شيء.

          - كل شيء أتى مع كل شيء! هل تكلّمني الآن بالعربية؟

          - أتكلم بالعربية. ستقول إني الآن أكفر للمرة الثانية.

          - أنت تقول هذا.

          - أمّا أنت ففي فكرك الآن... الآن.

          - ليس في فكري الآن إلا شيء واحد.. هو أنت.

          - شكرًا... هذا جميل... أهكذا أصبحت صداقتنا، صارت...

          - صارت تملأ فكري وتفكيري.

          - وتكفرك أيضًا.

          - هذا من حبك لي وصداقتك... المشكوك فيها.

* * *

          كانا يسيران وهما ينظران كالمشدوهين إلى السماء... إلى سحبها البيضاء الزاحفة... المتغيّرة دومًا.. ترى رءوسًا لأشخاص أو لحيوانات أو لنساء تسبح في الأزرق.

          وصلا إلى خارج بيروت، إلى شواطئها، في جنوب بيروت، في مكان له من جمال ورقّة وبساطة تجعل منه مكانًا فريدًا، رمال الشاطئ ناعمة بيضاء، بعض شجر النخيل موزع هنا وهناك، منزل حجري، لقرميده لون برتقالي كأنه لم يكن يومًا مسكونًا إلا بالذكريات.

* * *

          وصلا وقد ساد الصمت بينهما كالسكون على هذا الشاطئ، إلا من وشوشات أمواج آتية من حيث لا أدري، ترتمي على رماله التي تمتصها وكأنها تطبع على الشط قبلة آتية من أفق البحر، من الإسكندرية، من أثينا، من نابولي، من مرسيليا أو برشلونة، قبل كأنها أتت لتستريح على شاطئ الأوزاعي، عدما كان شاطئًا يسكنه السكون ويحلم به الشعر وتتغذّى من ألوانه العيون.

          وصلا إلى هذا الشاطئ، جلسا قريبًا من مرمى الأمواج، وراح الصمت يلفّهما وكأنهما اتفقا على ما كانا يتحدثان وهما يسيران وعيونهما معلقتان في السماء.

* * *

          بقيا كذلك ومرارًا يأخذان بعض الرمل وينظران إلى حباته تتساقط حبة حبة.

* * *

          - أين الأزرق الآن؟ قال الصديق. لقد اختفى.

          - الأزرق؟

          - نعم. أين صار الآن؟ لن تقول لي أن أزرق السماء يختفي وأزرق الرسام...

          - بول سيزان.

          - نعم وأزرق سيزان يبقى!

          - لا، لن أقول هذا، بل أنت قلته. لكني أؤكد لك أن العمل الفني لا صلة له بالطبيعة. هو طبيعة ثانية.

          - بل الأولى تعطي الثانية.

          - أو الثانية تنطلق من الأولى أي من الطبيعة لتخلق حياة خاصة بها.

          - هذا ليس شرطًا.

          - لا لم أقل هذا شرط، الإنسان الذي يملك غذاء روحيًا وإحساسًا بكل ما في الحياة والطبيعة، والإنسان الذي يصل إلى فهم الحياة والتعرّف على أسرار جمالها، هو ذاك الإنسان المثالي، الفن لا يحيا إلا في الحياة وجوهر الحياة في الطبيعة المتمثلة بأشجارها وجبالها وسهولها وبحورها وناسها وحيواناتها وأزهارها وأشواكها، وفرحها وحزنها ونهارها وليلها ونورها وظلها.

          كل هذا... وأكثر... هذه هي الطبيعة. أرى أن نعود الآن، لقد غابت الشمس وغمق الأزرق وتلوّن بأحمر الغروب، وصارت السماء ملطخة بألوان غامقة، لا تنظر إلى القمر هناك، انظر إلى الأرض لئلا تقع.

          وسارا عائدين، وكأنهما قد اكتشفا جديدًا.

          أما الصديق فكان يبدأ بكلمة ثم يسكت، وهذا لمرات عدة، كأن الجملة لم تكتمل في رأسه وعلى لسانه ليقول ما يريد قوله، أما صديقه فهو يلتقط هذه النتف من الكلمات ولا يقول شيئًا منتظرًا اكتمال الجملة، وهزّ الرّأس، كأن يديه تحاور رأسه، عندئذ قال له صديقه:

          - مابك؟ خرست؟ يداك ورأسك يتحرّك، وكأنك تحاور شبحًا!

          - لا أقول... أقول..

          - تقول لمن؟ أنا لا أسمع شيئًا.

          - أقول لنفسي لعلك على حق.

          - الحق؟ نحن لا نتكلم عن الحق أو الباطل.

          - بلى، نتكلم عن الجمال، والجمال حق وخير.

          - صحيح... نتكلم عن الجمال، إذن نحن في قلب الكمال، يا صديقي اسمعني قليلاً، ما سأقوله لن يعجبك الآن، ولعلك سترميني بنظرة حانقة، أو بحجرة.

          - أنت قل، وأنا أقرّر بماذا سأرميك.

          - إن أسمى ما يفعله الإنسان هو الفن. الرسم، الموسيقى، الشعر.

          إنها كلها من فعل الإنسان وليست من فعل الطبيعة، وأزيد أيضًا أن أجمل ما يراه الإنسان أو يسمعه أو يقرأه هو نابع من أعماق الإنسان؟ أمّا الطبيعة فهي التي تزوّدنا بأشكال وألوان هي الغباء الجمال، لكن هذا القاموس ينقصه التنظيم.

          - تقصد أن الطبيعة غير منظمة؟

          - الطبيعة هي قاموس الفنان، والفنان يختار من القاموس ما يحتاج إليه منه ليعبّر بواسطته عن فنه، عن ذاته، ثم إن الطبيعة لا تعبّر عمّا يعبّر الفن. هي لم تمسسها يد إنسان - لتصير فنًا، أعني وأكرّر أن الفن هو من عمل الإنسان والطبيعة من عمل الخالق.

          - لا تقل لي إن كل ما يلمسه الإنسان يصير فنًا!

          - أنا أتكلم عن الفن والفنان، دعني أكمل، الطبيعة إذن كالقاموس فيه كل ما تريده من كلمات وشرح، دوره ينتهي هنا، فالكلمات المجمّعة على صفحاته تفسّر ذاتها، إلى أن يأتي مَن يختار من القاموس كلمة، ويحييها في جملة أو في بيت شعر أو فكرة فلسفية، أمّا الفنان فهو يستعين بهذه الكلمات، هنا أقصد كلمات الطبيعة، أي أشكالها

          وألوانها ويترك لإحساسه وذكائه أن يضعها أو يجد لها مكانًا في عمله ويخلق عندئذ العمل الفني.

          - كأنك تقول إن الفن أغنى من الطبيعة.

          - أقول إن الطبيعة هي التي تعطي المادّة والفنان يعطي للمادة روحًا، أو يحوّل المادة إلى مادة أسمى، إلى «روح» إذا سمحت لي باستعمال هذه الكلمة، لأن الشعور الروحي في الدّين مشابه للشعور الذي يضعك فيه العمل الفني الكبير، أقول العمل الفني الكبير، ولا أقصد أبدًا الفوضى الفنية، أعني أنه ليس شاعرًا كل مَن ركّب كلمة على كلمة، أو كل من لطّخ ورقة بلون وكل مَن فتح فاه صار موسيقيًا.

          - لن ندخل بموضوع، بهذا الموضوع، لقد تأخّرنا، إلى أين سنذهب الآن، الليل قد طغى على كل شيء، ما قولك بـ....

          - أفضّل أن أعود إلى البيت الآن. نلتقي غدًا إذا أردت.

          - كالعادة!

          - إلى الملتقى.

جفْنُه علّم الغزل ومن العلمِ ما قتل
فحرقنا نفوسَنا في جحيمٍ من القبل
ونشدنا، ولم نزل حُلُمَ الحبِّ والشباب
حلم الزهرِ والندى حلم اللهوِ والشراب


الأخطل الصغير

 

أمين الباشا