هنري روسو.. الغابة الاستوائية

 هنري روسو.. الغابة الاستوائية
        

          لعب هنري روسو في تاريخ الرسم الحديث دورًا يكاد يعادل الدور الذي لعبه مايكل أنجلو في عصر النهضة وروبنز في القرن السابع عشر. والمدهش في الأمر أن هذا الفنان هو في الأصل مفتش في الجمارك، علّم نفسه بنفسه، وماهي إلا سنوات قليلة حتى ضمت صفوف مقلديه والمعجبين به معظم أساتذة الربع الأول من القرن العشرين: بيكاسو، براك، فلامنيك، دوارن وغيرهم... والسبب في النجاح هو أن أعمال روسو تميزت بصفات كان  الفنانون آنذاك يتطلعون إلى الوصول إليها: الرؤية المباشرة، التقنية العفوية، والمزاج الساذج.

          رسم روسو هذه اللوحة عام 1909، أي قبل وفاته بسنة، وهي تمثل مشهدًا من غابة استوائية، تتشابك فيها أوراق النبات والزهور، وتأخذ أحجامًا ومقاسات أكبر بكثير من مقاساتها الحقيقية. ومن بين هذه النباتات تطالعنا وجوه بعض الحيوانات المستوحاة من القردة والبوم أو غير ذلك ....

          على الرغم من طغيان اللون الأخضر الموحّد للوحة، يكتشف المتأمل أن كل عنصر فيها قد رسم بأكمله على حدة، فلا شيء يذوب في ظل الأشياء المحيطة به وصولاً في ذلك إلى كل ورقة من أوراق كل نبتة في هذا الدغل.

          ويكشف التأمل في الطريقة التي تشابكت بها هذه النباتات، وتدرجت فيها أوراقها، أن روسو كان فعلاً من أساتذة مصممي الديكور الذين لايمكن تجاوزهم.

          ولكن الأهم من كل ذلك، وقبل كل ما تقدم، هو المزاج الشخصي الذي رسمت به هذه اللوحة، والذي يصطدم به المشاهد منذ اللحظة الأولى لوقوفه أمامها.

          إنها طبيعة خصبة وكئيبة حتى حدود الحزن، تضج بالحياة وفي الوقت نفسه تصطف فيها النباتات بشكل يشكل حاجزًا لا يمكن اختراقه. وليس وجود الحيوانات هو ما يضفي على هذا الدغل طابعه الرهيب المخيف، بل اللون الأخضر الداكن المعبر تمامًا عن ظلام الغابة.

          كان روسو يعتبر نفسه واقعيًا، والأمر يكاد يشكل طرفة، لأن الحقيقة هي أنه أراد أن يكون واقعيًا وتمنى ذلك، ولطالما حسد الرسامين الأكاديميين على قدراتهم في نقل الواقع وتصويره بدقة. ولكن الأهم من ذلك بالنسبة إليه هو التعبير عن ردة الفعل العاطفية عند الفنان أمام أي مشهد يرسمه. وفي مجال التعبير عن المزاج هذا تجلت موهبة هذا الفنان.

          فقد ترك لنا الشاعر الفرنسي غيوم أبولينير الذي كان صديقًا لروسو شهادة عن طريقة عمل هذا الأخير، فقال: عندما كان روسو يرسم موضوعًا مخيفًا، كان يقوم عن كرسيه بشكل عفوي وصادق ليفتح النافذة، فبالنسبة إليه كانت للوحات حياتها الخاصة، وهذه الحياة الخاصة تتجلى بوضوح شديد في هذه اللوحة ... قلنا إنها كئيبة صاخبة ومخيفة, أوليس هذه تمثله الغابة الاستوائية في وجدان الكثيرين؟.

 

عبود عطية   





هنري روسو، (1844 - 1910)، «الغابة الاستوائية»،1909، (140 × 129 سم)، مجموعة شستر دايل