ينتمي الخالدي إلى جيل ما بعد الرواد في الحركة الفنية التشكيلية
السورية المعاصرة، فهو من مواليد دمشق عام 1935. درس الرسم والتصوير المتعدد
التقانات اللونيّة في كلية الفنون الجميلة في القاهرة، وتخرّج فيها عام 1962. عمل
رسامًا في التلفزيون السوري، ثم مديرًا لمركز الفنون التطبيقية بدمشق، ثم معاونًا
لمدير الفنون في وزارة الثقافة، ثم رسامًا في عدد من المجلات والصحف السورية، ثم
أمينًا، لسر نقابة الفنون الجميلة السورية، ونقيبًا للتشكيليين السوريين، وأمين
السر العام لاتحاد الفنانين التشكيليين العرب. ومنذ العام 1979 انتقل للعمل في
قيادة منظمة طلائع البعث وبقي فيها حتى رحيله.
أقام خلال حياته عشرات المعارض الفردية، وشارك في العديد من المعارض
الجماعية داخل سورية وخارجها، وبتاريخ 3 / 5 / 1996، حاز درجة دكتوراه في علوم الفن
من الأكاديمية الملكية من لندن. كانت له مساهمات في تحكيم مسابقات فنية، ومثّل
سورية في مهرجانات محلية وعربية وعالمية، وقام بتدريس مادة تاريخ الفن وفلسفة علم
الجمال في المعهد العالي للفنون المسرحية، والمعهد العالي للموسيقا.
اهتمامات متعددة
إلى جانب انكبابه المواظب والمجتهد على إنتاج اللوحة الحجرية
والجدارية المتعددة التقانات، مارس الفنان الخالدي، وبخط مواز، كتابة الأدب والنقد
الفني، فوضع في الحقلين 13 كتابًا، منها أربعة كتب في الأدب والسيرة الذاتية هي:
(مع أدباء العروبة في بلودان) صدر عام 1956، ومجموعة قصص قصيرة بعنوان (ناس من
دمشق) صدرت عام 1992، و(حكايات من السيرة الذاتية في تاريخ الفن في سورية)، صدر عام
1999، و(عشرة عمر) صدر عام 2004. أما كتبه الفنية فقد توزعت على علوم الفن وفلسفة
علم الجمال، وعلى التوثيق والتأريخ للحركة الفنية التشكيلية السورية المعاصرة،
وأبرز روّادها ومنها: (أربعون عامًا من الفن التشكيلي في سورية)، صدر عام 1971،
وكتاب حول الفنان الرائد (سعيد تحسين) صدر 1994، وآخر حول (برهان كركوتلي: فنان
الغربة والحرمان) وكتاب حول (ناظم الجعفري: المؤسس الرائد) صدر عام 2006.
فنان ملتزم
كرّس الفنان الخالدي قسمًا كبيرًا من أعماله للقضايا الوطنية
والقومية، وآخر ما قدمه على هذا الصعيد لوحته، التي عرضها في المعرض السنوي
للفنانين التشكيليين السوريين عام 2006 والمكرّسة لانتصار المقاومة اللبنانية
الأخير على العدو الصهيوني.
لقد نوّع الخالدي في طرائق تناوله للموضوعات الملتزمة بالهم الوطني
والقومي، فأخذها بشكل مباشر، وبصيغة واقعية مبسّطة كما في لوحته (بطل عملية قبية)،
و(انتصار المقاومة في لبنان). وفي أعمال أخرى، لجأ إلى الجمع بين الصيغة المباشرة
(فدائي، مقاتل، خوذة جندي، بندقية)، وبين استعارات ورموز ضمنها أشكالاً اصطلاحية
متداولة بين غالبية الفنانين مثل: (الأطفال، الحمائم، الأحصنة، الأشجار الضاربة
الجذور في التربة)، كما في لوحة (ملحمة تشرين)، و(الفدائي) و(الشهداء) و(قدسنا)
و(تحية إلى دمشق الصامدة) و(القدس المصلوبة) و(فلسطين خارج فلسطين). كما جمع في
أعمال أخرى، بين تاريخ الأمة البعيد وحاضرها، مُسقطًا الماضي على الحاضر، والعكس
صحيح أيضًا، بهدف إلقاء الضوء على الجوانب المضيئة، في حياة الأمة العربية،
استنهاضًا للهمم، وشحذًا للإرادة، واستحضارًا لقيم عظيمة، تفتقدها هذه الأمة في
حاضرها!!. يمثل هذا التوجه لوحة (تحية من زنوبيا إلى دمشق) و(سورية الحضارة
والبطولة).
هذا النبض الوطني العربي، في تجربة الخالدي، أشارت إليه بجلاء ووضوح،
الدكتورة نجاح العطار بقولها: (عربي هو، جوهرًا وأصالة، وقومي هو، تعبيرًا وإيحاء،
ومناضل بالريشة والقلم، ومسكون بحب الوطن والشعب، ومفعم بالعزم على ترجمة هذا الحب
إلى لوحات تحكي عن قضايانا، مدننًا، أريافنا، وأزهار غوطتنا الجميلة. لوحات لاتتميز
بالقدرة، والشفافية، ودقة التناول، وتناغم الظلال فحسب، بل بما هو إنساني أو مؤنسن
في الطبيعة والكائنات).
دمشق القديمة
الموضوع الثاني الذي شغل وجدان الخالدي وأخذ حيّزًا مهمًا من تجربته
الفنية، وكتاباته الأدبية هو (دمشق القديمة)، التي خصها بعشرات اللوحات. ودمشق
القديمة كما يراها الخالدي، أحد الأشكال التي يستعيدها من الطبيعة، ليصوغ لوحة ذات
قيم تشكيلية متكاملة، ولكن حبه للشام، وحبه للتاريخ في هذا البلد الذي ولد وترعرع
في حواريه القديمة الضيقة الرافلة بالطمأنينة والحب والسلام والخير الكثير، جعله
يركّز على هذه المدينة العريقة، المتفرّدة بنسيجها المعماري، ويتأمل خيوط الشمس وهي
تتسلل إلى الحارة من خلال (الظل والنور) في تعانق الجدران، محاولاً البحث عن أجمل
علاقة بين اللون واللون، أو بين النافذة والنافذة، أو بين الباب والباب، لتكون جميع
المعطيات مفردات أساسية في تكوين اللوحة، وفي هذا المنحى، تخاطبه الدكتورة نجاح
العطار قائلة: (مجد دمشق الذي قرأناه في القلوب والكتب، قرأناه في لوحاتك أيضًا،
فكأنك أيها الفنان الرائع ريشة وشخصًا، مسكون بهذه المدينة التي كانت، فكانت قمة
التاريخ، واستطالت بعدها، حتى لانعرف إلا أنها الطريق المستقيم، وطريق الحق، ثم
طريق الكفاح، الذي به وحده تؤرخ أمجاد المدن).
وتضيف قائلة: (في أعمالك عالمان، دمشق القديمة، الأثيرة، والخريف
الجميل، وبينهما صلات، هي في الترجمة مسحة ماض بعيد، مسحة حزن أصيل، يتفجر لأنه،
عطاء إنساني، ولأنه، تحت ريشتك، باللون الأصفر والذهبي، يحكي حكاية النفس المودعة
لفصل فيه نضجت الغلال، والمستقبلة لفصل فيه تجمع، والدنيا من بعد، رفة هدب ينداح في
أمداء الخيال).
يرى الخالدي أن النسيج العمراني لدمشق القديمة، يختلف تمامًا عن أي
نسيج معماري في العالم لتنوّعه وجماليته وخصوصيته، ثم إن هذا النسيج جزء مهم من
التراث، وله أبعاده الإنسانية التآلفية الحميمية، وتختزل في الوقت نفسه، تاريخًا
طويلاً من النضال السياسي لأبناء الشام.
بحث وتجريب
اشتغل الفنان الخالدي على عجائن لونية مختلفة، جرّب وبحث فيها عمّا
يمكن أن يخدم موضوعات لوحاته ويميّزها، ثم حاول توظيف نتائج بحثه لمصلحة قيم لوحته
التشكيلية والتعبيرية، ومن ثم إيجاد وشائج قوية ومتينة، بين عناصر ومفردات هذه
اللوحة وبين موضوعها الذي ظل لصيقًا بالواقع المحيطة به.
تبدّت نزعة البحث والتجريب التقاني بشكل واضح، في أعمال معرضيه
الفرديين اللذين أقامهما في صالة الشعب للفنون الجميلة بدمشق. الأول عام 1972
والثاني عام 1974، حيث قام الفنان الخالدي باستنباط إمكانات غير معروفة أو مطروقة
في العجينة اللونية الزيتية، تتعدى خواصها التقليدية، وتتجاوز كشوفات المصورين
الآخرين فيها، معتمدًا على نوع من الاختزال والتلخيص والتكثيف، واللعب بطريقة تأسيس
اللوحة، بهدف إيجاد بنية تشكيلية وتعبيرية جديدة ومتفردة.
ارتاد الخالدي شواطئ عدة على هذا الصعيد، غير أنه كان دائم الارتداد
والعودة إلى أسلوبه الخاص، ومدرسته الواقعية المبسطة التي تربّى فيها، وأخلص لها
طوال حياته، والتي ظل فيها الخط (الرسم) أقوى عناصرها، وأشدها حضورًا في لوحاته
المتعددة التقانات اللونية.
مع ذلك، قدم الخالدي مجموعة من اللوحات التي حملت ألوانها دسامة
انطباعية مرصعة بخبرة واضحة، رصفتها ريشة حساسة، التقطت نبض الواقع، وبعفوية كبيرة،
سكبته في العجينة اللونية فوق السطح الحامل.
حرص الخالدي في غالبية لوحاته المكرسة للمنظر الطبيعي، على تنفيذها في
أرض الواقع، ما جعل ألوانه تتوهّج بنوع من السعادة التي تعكس تفاعل الفنان مع
موضوعه، ومع المؤثرات الطبيعية، من ضوء، وهواء، وحركة.
يقول الخالدي: (حتى أدافع عن الوطن، يجب أن أحبه، وحتى أبرهن عن هذا
الحب، لابد لي أن أرسم أجمل ما في هذا الوطن. المرأة عندي حالة من العطاء
اللامحدود، وهي رمز الخصب والجمال. أما الحصان، فيعني الشموخ والقوة والكبرياء،
وتاريخنا العربي حافل بهذا الرمز. إنه جزء من هوية الوطن العربي. والشجرة عندي تعني
الخلود، فهي باقية، متجذّرة في الأرض، لا يمكن اقتلاعها، تموت وهي واقفة).
بين الواقعية والواقعية التسجيلية
المرأة، والطفل، والشجرة، والحصان: عناصر رئيسة، تكرّرت كثيرًا في
أعمال الخالدي، بها ومن خلالها، عبّر عن رؤاه ومواقفه، تجاه موضوعات اجتماعية،
وسياسية، وجمالية، وذاتية عدة، بأسلوب واقعي نفى عنه وقوعه في التسجيلية بقوله:
(أنا لم ألتزم الواقعية التسجيلية أبدًا، حتى عندما رسمت أول لوحة عن الطبيعة، كان
عمري آنذاك 61 سنة، وقفت في ساحة المرجة (وسط دمشق) ورسمت العمود الذي يمثل أول
تنوير للخط الحجازي، كما شعرت به، وليس كما هو تمامًا).
ويضيف مؤكدًا: (الفن التسجيلي هو الفن التوثيقي، وأنا كفنان ليست
مهمتي التوثيق، فأنا أغيّر وأبدّل وأضيف على ما تراه عيني).
ولعل هذا ما ذهب إليه الناقد والمؤرخ الفرنسي (فرانسوا بيرجراك)
بقوله: (شهدت لوحات كثيرة لفنانين من الشرق يرسمون مدنًا عريقة، وحارات وأحياء
قديمة وأصيلة، كنت أراهم يرسمون ما يشاهدونه بعيونهم، أما هذا الفنان الخالدي، فإنه
يرسم بقلبه، ويضع إحساسه المتحيّز لمصلحة هذه العمائر التقليدية التاريخية بكل
حماسة واندفاع).
ويلفت (بيرجراك) الانتباه إلى أن الخالدي لا يلوّن اللون الذي يراه
الناس في هذه الأحياء (لون الباب، لون الجدار، لون السماء، لون الجزئيات المعمارية
الأخرى)، بل يترجم الألوان بالطريقة، التي يريدها في اللوحة الواحدة، بمعنى أن
الخالدي لا يحفظ لونًا معينًا، ويكرره آليًا، بل يفكر ويتأمل الطبيعة، ثم يحوّلها
إلى وسيلة لإنجاز عمل فني يحمل طابعه الشخصي. أي أنه ليس مؤرخًا، ولا مصورًا
توثيقيًا، بل يقوم بابتكار اللون وتوظيفه توظيفًا مجردًا.
الناقد الإيطالي (ماريو ماريوني) أكّد المعنى نفسه عندما أشار إلى أن
الخالدي يتملّكه عشق متراكم، وحب عميق، لبلده ومدينته دمشق، ما دفعه إلى ترجمة الظل
باللون، والإيحاء بالأبعاد من خلال تتابع درجات اللون الواحد ومشتقاته، فهو يتناول
الطبيعة والأحياء القديمة، كوسيلة لبناء لوحة متكاملة الهيكل، وكل لوحة لديه، تعيش
في جو لوني مختلف عن الأخرى. بمعنى أنه لا يكرر ألوانه، ولا حلوله التشكيلية، وفي
الوقت نفسه، يحافظ (وبخبرة معلم قدير) على طابعه وأسلوبه الفني المتميز.
غازي الخالدي، بإنتاجه الفني العملي والنظري، وحيويته اللافتة، في
المفاصل التي أدارها، واشتغل فيها، خلال حياته، التي ناهزت الثانية والسبعين، وهي
مفاصل لصيقة بالحركتين الفنيتين التشكيليتين السورية والعربية المعاصرتين، سيبقى
علامة بارزة في تاريخ هاتين الحركتين/علامة رُسمت بدأب واجتهاد وأناة وتنوّع إبداعي
لافت.