القلم الرائع

 القلم الرائع

أجمل ما قرأت، هو ما كتبه القلم أو اليراع كما كان يسمى في العصور السابقة، على الورقة البيضاء، أو الصفراء، أو على أي صفحة عذراء. اليد التي أمسكت باليراع أو بالقلم، وخطت أحرفًا وركّبت جملاً، لم تفعل سوى الإمساك بالقلم والسير معه على سطح صفحة لا غبار عليها، ولم يمسسها إنس ولا جن.

أقف على كلمة «اليراع»، فيتبادر إلى بالي كلمات وأفعال وصفات، وهل هناك أروع من كلمة أو فعل راع وروعة ورائع ورائعة؟.. عجيب.. عجب.. على رأس لساني وفي أذني وفي نظري اسم رائع.. «بوتيشللي» Botticelli أرى اسمه لأني أرى فينوس Venus, مولدها من أمواج جزيرة قريبة من بيروت، تلامسها، تحاكيها، تتبادل وإياها أناشيد الحب والجمال والحكمة.. أمواج آتية من جزيرة قبرص الغافية على حضارات آتية من صيدا وصور وجبيل التي رأت عشتروت على ظهر عاشقها تمرّ من بين الأمواج والسحاب.

رائع. يراع. روعة. أحرف تتكرّر، وتتكرّر في مخيلتي لوحة بوتيشللي التي أسكرتني عندما رأيتها للمرة الأولى لست أدري في أي متحف.. في «البرادو» El Prado مدريد، أم في متحف «أوفيزي» في فلورنسا «Firenze»؟.. ترى هل كان لقائي بها في باريس، في متحف «اللوفر» De louvre؟

كل هذا لا يهم، المهم أني أعرف كل زوايا اللوحة.. أين هي الآن في أي مدينة أو أي متحف؟ سيّان عندي، شكرًا لليراع الذي أوصلني إلى الروعة.

لكن.. لكن.. أين كنا؟ هل هذه القفزة من فكرة إلى فكرة، هي هروب من قلمي وأوراقي؟ لنعد إلى آلهة الحب والجمال، إلى بوتيشللي الذي وُلد في اليوم ذاته، لكنه لم يمت، أعماله تحكي عنه، بل صوته، أشكاله وألوانه تتكلم، هذا يكفي، وفينوس أو عشتار أو عشتروت أو ملكة من ملكاتنا أو من ملكات الإغريق، مازالت كل منها تنشر أناشيد الحب وتبعثها مع الأمواج التي تحطّ على ذاك الشاطئ، حاملة الأناشيد والتراتيل إلى شواطئ قبرص وإسكندرية وشواطئ اليونان وجزرها وأبعد منها.. إلى إيطاليا.

كل ساعات النهار والليل، لا تملُّ الأمواج من السفر، من ذاك الشاطئ إلى أوربا، مرورًا بكل شاطئ. «أوربا».. الجميلة.. العاشقة.. المعشوقة.. الخاطفة والمخطوفة، التي حوّلت الإنسان إلى حيوان، والإنسان الذي تحوّل هو بنفسه إلى ثور طائر بعشتار.. إلى هناك، إلى بلاد بعيدة، حيث تغيب الشمس عندما تشرق هنا، طار الثور الإنسان بعشتار، أوربا، أعطى اسمها إلى حيث وصل، صارت الأرض هناك لها اسم، أوربا. هنا انكسر القلم، ولم يعد يسير على الصفحة البيضاء، انفلت من بين أصابعي واختفى ونشفت الأحرف والكلمات، وتحرّكت ثم امتزجت ببعضها، فاختلطت الأحرف بالأحرف والجمل بالجمل وصارت كلها كلمة واحدة، بل رسمًا واحدًا كأنه البحر، كأنه الأمواج، كأن المكان ليس ذات المكان، والشاطئ رمال من ذهب وفضة، عليه رمت شمس المغيب رذاذ نورها المتلألئ.

انكسر القلم، وقفت يدي عن الحراك، رحت واعدًا نفسي بالعودة، سأعود إلى الشاطئ.. سأعود إليه، ربما كانت هناك، ربما عادت أوربا إلى أرضها، إلى شاطئها، إلى بساتين صيدا وصور.. إلى بيروت.

أغفو وأفيق على التمنّي، والتمنّي مائع كالماء، أمنياتي كشوق لا يتجسّد ولا يتحقق، وتمضي الأيام ويعيش المتمنّي على آهات، فيمضي وتمضي معه الأشواق.

أين القلم ليرسم على أديم البحر أنشودة؟ أين اليراع الذي يظهر ثم يختفي وتبقى الصفحات بيضاء كالسحاب البيض. يمتدّ الشاطئ من هنا إلى البعيد. تتلألأ رماله، تأخذها أمواج الصباح، رذاذها يخطّ أحرفًا وصورًا وأصواتًا، كأن مزمارًا أسطوريًا تنقل نغماته تنهّدات العاشقين.

آه ما أجمل أن أكون في قلب الأمواج تطوف بي إلى حيث حمِلْت عشتروت ولم تعد، خذيني أيتها الأمواج إلى أي شاطئ، خذيني إلى حيث للحب معنى، إلى حيث لا بغض ولا كراهية، إلى أرض بساطها فرح، خذيني يا أمواج واجعلي مني موجة طليقة، رفيقة للسحاب، للطيور.

تُرى هل تتحقق الأماني؟ وهل يكفي الانتظار؟ والحسرات؟

وتبقى الآهات والتمنيات والأحلام. أحلامي ترافقني في ليلي ونهاري لأصبح رفيقًا لنسيم الربيع وعطره، ولزقزقة طيوره. خذوني إلى دفء الشتاء وسحر الغيوم، وألوان الخريف وطلاّت شمسه، ونور الصيف وزرقة أجوائه وبياض السحاب.

آه لو تسمعون ندائي فتتحقق الأماني وقد طال الوقت ويكاد أن ينتهي.
---------------------------
* فنان تشكيلي وكاتب من لبنان.

 

أمين الباشا*