التفكير المستقبلي فريضة إسلامية

التفكير المستقبلي فريضة إسلامية

استرعى انتباهي ما توليه مجلتنا الأثيرة (العربي) من اهتمام بارز بقضايا المستقبل وسعي حثيث من أجل دمج رؤى الغد في فعالياتنا الثقافية العربية المعاصرة.

ونحن إذ نبارك هذا المسعى ونشد على يد القائمين عليه, نود أن نلفت النظر إلى أن التفكير في المستقبل واستطلاع آفاق الغد ليس مجرد استتباع حضاري للآخر أو استنساخ لأفكار الغير. بل هو في الأصل استجابة لفريضة إسلامية مغيبة ندعو إلى  إحيائها وبعثها من جديد, ذلك أنه من ملامح الفكر الإسلامي الحق أنه فكر مستقبلي يرمق الصبح القادم ويأبى أن يحتبس في الحاضر أو يستغرق في الماضي.

وفي مرجعياتنا الإسلامية قرآنا كان أو سنة أو سلفا شواهد تؤكد هذا المعنى وتدعمه.

الرؤية المستقبلية في القرآن الكريم: تجلى توجيه القرآن المسلمين نحو المستقبل - تدبيرا وتخطيطا - فيما قصه من أخبار الأنبياء والصالحين - في إطار العبرة والموعظة الحسنة - ومن ذلك ما قصه القرآن من أخبار النبي يوسف الصديق عليه السلام الذي أنجا الله على يديه مصر من أزمة اقتصادية قاسية بفضل تخطيطه وتدبيره المستقبلي. كما أورد القرآن قصة ذي القرنين الذي شيد سده العظيم لوقف هجمات قبائل يأجوج ومأجوج.وساق القرآن بشائره - في سورة الروم - إلى الجماعة المؤمنة بمكة بأن المستقبل للروم - أهل الكتاب - في صراعها مع فارس ألم. غلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

الرؤية المستقبلية في السيرة النبوية: وفي السيرة النبوية الشريفة نلمح شواهد بارزة على حضور الرؤية المستقبلية في الدعوة المحمدية. إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مشدودا إلى حاضر دعوته مشغولا عن مستقبلها, بل كان يرنو إلى الغد ويحث أصحابه على النظر إلى المستقبل بثقة وتفاؤل. وفي الحديث الذي يرويه خباب بن الأرت حينما جاء يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يتعرض له المسلمون من تعذيب بمكة, ويؤكد له النبي صلى الله عليه وسلم بيقين بعد حديثه عن الإيذاء في سنن من قبلهم والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه, ولكنكم تستعجلون .

وجاء على لسان أحد المنافقين في حصار المشركين للمدينة (معركة الخندق) قوله (كان محمد يعدنا أن نأكل من كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط).

ولا يحسبن البعض أن هذه الرؤية المستقبلية في السيرة النبوية هي من بنات أحلام العاطلين أو من أوهام المتسكعين الحالمين بل هي رؤية نبوية عملية تقوم على مبدأين أوردهما الدكتور يوسف القرضاوي في أحد كتبه:

أ - (يقين النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا الواقع لا بد أن يزول لأنه يحمل بداخله بذور فنائه وإن البديل القادم هو الإسلام).

ب - أن هذا المستقبل المنشود إنما يتحقق وفق سنن الله في رعاية الأسباب وإعداد المستطاع وإزاحة العوائق عن الطريق).

الرؤية المستقبلية عند السلف: ولا شك في أن هذه النظرة المستقبلية قد استمرت عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين متأثرة بالبيان القرآني والنبوي ومن أمثلة ذلك:

- مشروع كتابة القرآن الكريم في مصحف - في عهد أبي بكر الصديق - تحسبا للمستقبل (بعدما استفحل القتل بالقراء في معركة اليمامة وغيرها من معارك حروب الردة).

- ومن ذلك موقف عمر من قسمة أرض العراق بعد فتحها, حيث كان المألوف أن تقسم الأرض التي فتحت على الفاتحين باعتبارها غنيمة (لكن عمر اختار ترك الأرض كما هي يعمل فيها أصحابها مقابل خراج يدفعونه عنها) مبررا ذلك بقوله (أتريدون أن يأتي آخر الناس وليس لهم شيء).

وكانت تلك بصيرة عمرية نافذة رأت أن تأمين أرض العراق فيه ضمان اقتصادي لمستقبل الأجيال القادمة.

في الشواهد السالفة يتجلى تقرير الفكرة التي أردناها وهي: أن الإسلام - في مسيره - لم يكن يخلو من تأملات المستقبل وتغيرات الغد, كما لم يكن استشراف المستقبل عند سلفنا ترفا فكريا عاشوه بل كان في نظرهم فرضا إسلاميا استجابوا له والتزموا به.

ولعله قد يكون من دواعي التفكير المستقبلي اليوم أن نتجاوز به حالات الإحباط والإخفاق التي تلف حاضرنا وتشل فينا كل رغبة في الحراك الحضاري الشامل.

لحسن عبدالمالك
ولاية أدرار - الجمهورية الجزائرية

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات