تلك الخريطة الشيطانية

تلك الخريطة الشيطانية
        

          يثير مقال الأستاذ الدكتور سليمان إبراهيم العسكري، المنشور في العدد (578) يناير 2007، كثيرًا من القضايا الحيوية والجوهرية، ويلمس  كثيرًا من هموم وأوجاع وآلام الأمة العربية في محنتها الراهنة، وما تعانيه من الضعف والوهن والهوان والمذلة والضياع في وسط القوى الدولية، وفي ظل هيمنة القطب الواحد، ولا نقول القطب الأعظم، لأن قوة أمريكا، التي تمارسها على الدول الضعيفة ليس فيها شيء من «العظمة».

          ويلفت هذا المقال الأنظار إلى تلك المخطوطات الاستعمارية والعدوانية، التي تحاك للدول العربية، وإن كان الاختيار «يسير بالدور»، وكأن لكل دوره المحتوم. وتكشف أحداث العصر عن غبار الحلول العسكرية والمنهج العسكري في تحقيق الأهداف، التي تنشدها القوى الكبرى، وبالطبع هي أهداف غير مشروعة وعدوانية، وتنطوي على الرغبة في سلب ثروات البلاد والسيطرة عليها، وإدخالها عنوة في تحالفات أو كيانات كبرى كالشرق الأوسط الجديد أو الكبير، وكلها مخططات عدوانية تستهدف السيطرة والهيمنة والسطو على البلاد العربية ونهب ثرواتها. فالأهداف عدوانية، والمناهج أكثر عدوانية وأكثر غباء، ولذلك فإنها جميعًا مآلها إلى الفشل الذريع، وعلى الأمة العربية أن تنتبه إلى الأسلوب الجديد أو المنهج الجديد في العدوان وهو زرع الفتنة والصراع والنزاع بين الدول فيما بينها وإطلاق أسماء على بعضها، كمحور الاعتدال ومحور التطرف، وكلها أكاذيب ولا أساس لها على أرض الواقع، والحقيقة أن جميع الدول العربية دول معتدلة ومحبة كلها للسلام. وتستهدف هذه الأساليب الخبيثة والحقيرة زرع الفتن داخل المجتمع الواحد، وخلق الصراع والنزاع والاقتتال بين أبناء الوطن الواحد، ولاحظ ذلك في لبنان الشقيق، وفي العراق وفي الصومال وفي السودان، وذلك بغية قيام الاحتراب الداخلي مع الانضمام إلى فريق من الفرقاء ضد فريق آخر، وبعد هزيمته تتولى القوة، التي حرّضته هزيمته هو أيضًا، وبذلك يقضى على كل الأطراف، وليتذكر العالم العربي أن أمريكا كانت في يوم من الأيام مع صدام حسين، ثم انقلبت عليه.

          ولذلك فإن كل مَن يطيع شرور الأعداء، فسوف تلحقه نيرانهم. ويصاحب هذا الصلف العسكري والاستخدام الغاشم للقوة، يصاحب ذلك نوع من التهّور الفكري أو الشذوذ الفكري. فتقسيم الشرق الأوسط الحالي وإقامة شرق أوسط جديد على أنقاضه فيه خسارة للجميع. من ذلك ما يشاع عن فلسفة «الفوضى الخلاقة» كيف تكون الفوضى منطقيًا خلاقة؟ وتعني تدمير المجتمعات الحالية على أمل بناء غيرها.

          ولن يفلح الاستعمار الجديد في خلق دويلات صغيرة ضعيفة وموالية له، لأنها سوف تقوم على أساس سلالي أو عرقي أو مذهبي أو ما يعرف باسم الخريطة القائمة على أساس «صلات الدم». ولكن الحقيقة أن اللغة هي أقوى الروابط الثقافية بين أبناء الأمة العربية. فنحن أبناء قومية ثقافية واحدة، ولذلك لا يمكن للاستعمار أن ينال من الهوية الثقافية، التي هي أقوى من صلات الدم. وينسى الاستعمار الجديد، بما اتسم به من حمق، أن هناك وحدة العواطف والمشاعر والاتجاهات العقلية والميول والاهتمامات والعادات والتقاليد الراسخة، فاللغة يتكلمها الجميع، وهي الوعاء الحقيقي للفكر، وهي التعبير عن العواطف والوجدان القومي. ولذلك علينا أن نحترس من محاولات تمزيق الأمة العربية، وإثارة النعرات الطائفية والعرقية والمذهبية، لأننا نتعايش جميعًا على وئام ووفاق عبر عهود طويلة. ولذلك فإن هذه الهجمة تحتاج إلى مزيد من التماسك والتوحد والتضامن العربي، وإلى اليقظة والانتباه لأخطار الحاضر.

د. عبدالرحمن محمد العيسوي
أستاذ علم النفس بكلية الآداب
جامعة الإسكندرية - مصر