في ذكرى وفاة د.طه حسين وكتابه (الشعر الجاهلي)

في ذكرى وفاة د.طه حسين وكتابه (الشعر الجاهلي)

هل حقا نحن في حاجة إلى الكتاب?

عرضت مجلة (العربي) في العدد 539 أكتوبر 2003 مقالا بقلم (د.سهيل إدريس) حول الراحل (د.طه حسين) بعنوان (طه حسين والأمانة القديمة).. حيث أشار إلى ذكرياته وأرائه مع الدكتور المثل والتاريخ. ولأن ذكرى الرجل لن تهون على العرب ولا العربية.. إلا أنها الضرورة أحيانا تجعلنا نتوقف قليلا, لنتساءل إن كان من المجدي أن يكون ذلك مسلكا وفكرا, حتى على المستوى الفردي. ما بال أن يكون عن قامة مثل (طه حسين).

منذ أكثر من نصف القرن صدر كتاب (الشعر الجاهلي) للدكتور طه حسين, اعتمد فيه الكاتب على أفكار الفيلسوف الفرنسي في (الشك المنهجي), وجعله الخطوة الأولى في البحث.. لأي مبحث, سواء أكان الموضوع جديدا أو قديما (تراثيا), وتضمن فيما تضمن الشك في بعض المسلمات التراثية. وكانت الطامة الكبرى, فلا العقلية المستقبلة تتقبل الفكرة, ولا الفكرة (فكرة الشك المنهجي) مفهومة بالمعنى الصحيح.

ومع ذلك يبقى العقل دربا أساسيا من دروب المعرفة أو طريقا ووسيلة مؤكدة إليها. مع قناعة خاصة بمقولات (الفتوحات) أو (الخبرات المتوارثة).. حتى أن رجال التربية يقولون إن طفل اليوم يحمل في عقله ونفسه منجزات التاريخ البشري, منذ أن كان الإنسان يعيش في الكهوف حتى عرف سفن الفضاء ووسائل الاتصال المعاصرة.. وأن الطفل في تأمل مراحل نموه منذ ولادته يمر بمراحل الإنسان على طول تاريخه.

كيف الخلاص

تصدق النية, فالكل يرجو الغد المشرق, وتختلف الوسيلة. ويبقى قبل كل شيء ضرورة أن نلتفت حولنا الآن وليس الأمس لنرى ونفهم كل المتغيرات.. وأظنها نقطة البدء.

فخصائص العصر الجديد متناقضة, فلا العقلانية تعد من الأفكار العصرية كما يقول الفيلسوف (كارل بوبر). كما أن الخاسر هو صاحب ثنائية الفكر: إما هذا وإما ذاك?! فالكمبيوتر الآلي خلصنا من هذه الثنائية, ذلك باللجوء إلى الحدس. بل أين الإنسانية بينما يسعى الإنسان إلى (أنسنة) الروبوت أو الإنسان الآلي.. كما يسعى هؤلاء إلى (روبتة) الإنسان نفسه?

وياله من تحد جسيم ذلك الذي ينتظر أمتنا العربية في هذا العالم المغاير, فيلوذ الكاتب إلى الأسئلة الذهبية حسب تعبير الإغريق: ماذا ولماذا وكيف? ماذا يجري من حولنا? ماذا جرى لنا? ماذا سيجري لنا?

ما يجري من حولنا.. الحديث عن التكنولوجيا والثقافة تداخل حتى يبدو أن الجميع على قناعة بأن صناعة الثقافة أهم صناعات العصر الجديد. فكرة (الإنترنت) أو المعلومات فائقة السرعة وقد أصبحت ضمن البرامج السياسة للحكومات والأحزاب في أغلب دول العالم. إلا أن السؤال: حول كلفة إنشاء هذه البنية التكنولوجية تقدر بتريليونات الدولارات? أما وقد حدث أن استدعى الكونجرس الأمريكي كاتبا للخيال العلمي كي يتحدث عن مستقبل المعلومات.. ترى هل تاهت الخطوط الفاصلة بين الواقعي والمحتمل والخيالي?! كما أن البعض يفسر سقوط الاتحاد السوفييتي القديم إلى وسائل المعلومات الجديدة مثل الإنترنت وأننا نعيش عصر الشفافية وبالتالي فشلت حكومة السوفييت في تضليل شعبها وسقطت. ثم هناك أكثر من 500 قمر صناعي يبث إرساله إلى العقول الإنسانية لمختلف الجنسيات. كما يمكن الإشارة إلى (الجات) وما يقال حولها.. ما لها وما عليها. أصبحت (التربية) مفهوما في مقابل التنمية وهو ما عبر عنه قلق رجال التربية في الولايات المتحدة من تخلف الطفل الأمريكي في التحصيل مقارنة بالطفل الياباني وغيره. كذلك هناك اتجاه نحو تجزئة بعض البلدان والمواقع كما في البلقان وما يسعون إليه في السودان والعراق. وماذا يعني مشروع (الجينوم) أو التركيب الوراثي للإنسان?

ماذا يجري حولنا..?

بداية ماذا جرى لنا نحن العرب من تشتت بينما التكتلات الاقتصادية والسياسية من حولنا تنمو?! لماذا لم نصنع فلسفة كبيرة ولا توجد سوى أسماء قليلة متفرقة, وكذا في مجال اللغة والأعلام والتربية وغيرها. كيف نرى من بيننا من يعتقد أن الديمقراطية وحقوق الإنسان من الأمور الغريبة?

ولماذا نجهل تفاصيل كثيرة عن النمو العلمي لبعض البلدان المجاورة لنا وفي قلب العالم العربي? إقامة المآتم على جوانب ثقافتنا من إبداع وإنتاج سينمائي ومسرحي مع موت الشعر وغيره. ثم الإهمال التام للغة الأم. نرى دائما أن النهضة تقوم على غياب بقية أطراف الجوانب الفكرية.. فإما عربية أو إسلامية (مثلا) وكذلك مع بقية التيارات. كيف تركنا إسرائيل تغزو أسواقنا دون أن ندري, وتحت شعار أن تلك البضائع صناعة أوربية أو غيرها. إذا تشكك البعض عندنا في أهمية الثقافة العلمية, لا يعلم أن الهند بصدد إنشاء 1000 متحف للعلوم على أرضها. وما هذا التخلف في مجال الترجمة عموما?!

ماذا سيجري?

سوف تتقلص سيادة الحكومات بفعل العولمة. ربما تتآكل مواردنا المحدودة ونعجز عن بناء البنى التحتية لطريق المعلومات الفائقة السرعة. كما قد تتقلص فرص العمل بفعل العولمة أيضا. قد تعجز مؤسسات التربية عن تحقيق أغراضها الكبرى لزيادة تكلفة التربية والتعليم. سوف تخترق إسرائيل الأسواق العربية. سيواجه إبداعنا صعوبات في عملية التسويق العالمية. سوف ندفع مبالغ باهظة في موضوع الحقوق الفكرية ورسومها المنتظرة. وهناك صعوبات متوقعة أمام لغتنا العربية وتداولها العلمي العالمي واستخدامها, مما قد يجعلنا نلجأ إلى اللغات الأجنبية. كما ستتمادى إسرائيل في تشويه الثقافة العربية والإسلامية.

وعن مواجهة التحديات الداخلية.. يلزم حشد التكتل العربي ضد محاولات الفرقة والتفرقة. كما يلزم بالضرورة لم شمل النخبة المثقفة وإقامة الحوار بينها. التصدي للروح السلبية وفقدان الثقة في الذات العربية. تفعيل قنوات الاتصال بين مثقفي المشرق والمغرب العربي مع مثقفي المهجر.. فالثقافة لم تعد أحادية, وبات (العلم) ثقافة. ثم التصدي لمظاهر إهدار العقل العربي من محو الأمية التي هي داء وبال يجب الانتباه له.. مع ضرورة التخلص والتصدي لأزمة اللغة العربية تنظيرا وتعليما واستخداما. نزع فتيل التناقض المفتعل بين العلم والدين. الاهتمام بالمرأة والطفل. استيعاب التكنولوجيا الحديثة للأجيال الجديدة وإنتاجها وليس استهلاكها, مثل الاهتمام بصناعة المعلومات, مع الاهتمام بالتراث كمورد ثقافي. العمل على إحياء الفكر الفلسفي, والتصدي للنظرة المتدنية للفكر الفلسفي والنظري عموما, وتهيئة المناخ للنخبة القادرة عليه لممارسة حقها في التأمل!

من أين نبدأ?

أما منجزات العصر الحديث وعلاقة المبدع والمثقف العربي مع عصر المعلومات الجديد, هناك عدة نقاط جديرة بالتوقف والتأمل.. (من كتاب الثقافة العربية وعصر المعلومات).

فممارس الإبداع في العالم العربي مهامه مضنية في مناخ خانق للإبداع, غير محتف به, حائر بين تراث ثقافته وثقافة عصره, وما بين متطلبات إنتاجه, ومطالب حياته وأمنه, وهي حال المثقف نفسه. غير أن ذلك لا يعفيه من الوفاء بمهامه العاجلة التي يفرضها عليه المتغير المعلوماتي, والتي تشمل ضمن ما تشمله:

اكتساب مهارات لازمة لاستخدام تكنولوجيا المعلومات في مجال تخصصه. البحث عن إنتاج فني كثيف الإبداع, لا كثيف التكنولوجيا, نظرا لعدم توافر مصادر التمويل, أو الوسائل التكنولوجية أو كليهما. تحديث عتاده المعرفي, تلبية لمطالب فنون المعلومات ذات الطابع الذهني. التصدي لمحاولات نهب موارد التراث الفني سواء من الداخل أو من الخارج, فهي بمنزلة الرصيد الإستراتيجي لإبداعنا الفني. مع بلورة دور الإبداع الفني في مواجهة الغزو الثقافي المصاحب لظاهرة العولمة. استعادة جمهوره الذي سلبته منه أجهزة الإعلام الجماهيري. كذلك الشروع في التجارب الفنية لاستخدام تكنولوجيا الواقع وهي في بدايتها.

كما يتسم العمل الإبداعي لفنون عصر المعلومات بسمات أساسية عدة, يمكن تلخيصها في عدد من العناصر:

الطابع الذهني.. الذي يكشف لنا في عصر المعلومات عما تحدث عنه فيثاغورث بشأن تناغم أنساق الأرقام. مع العلم أن ذهنية الفن تختلف عن ذهنية العلوم, فالفن الذهني لا يحث على الفهم, بل يهيئ الذهن لتوقع المستقبل.

الطابع التفاعلي الدينامي.. وهو الذي يعطي للمتلقي فرصة التحكم في العمل الإبداعي, كأن يغير في الإيقاع الموسيقي, أو من باليتة الألوان المستخدمة في العمل التشكيلي.. لم يعد هدف العمل الفني التأويل أو إثارة المشاعر أو التذوق فقط.. بل الهدف حاليا هو المشاركة بين المتلقي والعمل الفني.

الطابع المزجي.. الذي يمزج بين أنساق الفنون المختلفة, وكذلك بين التراث الفني عبر الثقافات والحضارات. إن مبدع عصر المعلومات يقدم عمله الإبداعي على هيئة شظايا قابلة للاندماج مع شظايا فنية غيرها.. وليس تقديم عمل فني متكامل في نهايته.

الطابع الخائلي.. حيث سينحو العمل الفني صوب التخلص من المادية, ليرسم الفنان التشكيلي في الفراغ الثلاثي الأبعاد, ويؤلف المبدع الموسيقي بلا آلات, وتعزف الموسيقى بلا عازفين. وقد نحتاج إلى سينما وثائقية جديدة تسجل ما يحدث في عالم الفضاء من أحداث معرضة للضياع بسبب فورية الإعلام.

سقوط الحواجز بين أجناس الفنون, مثلا يقترب الرسم ذو الأبعاد الثلاثة مع النحت, وفي الأداء المسرحي يقترب من فن الرقص.. وغير ذلك.

كلمة الخاتمة..

من أين نبدأ? هي (التربية) وتطوير التعليم على كل مستوياته ومناحيه.. و(اللغة) هي جوهر كل ما نرجوه, لأنها مستودع الأفكار وطريقة التفكير.. ولن يتأتى هذا سواء في التربية أو اللغة إلا مع وعي ثقافي مغاير, ثقافة تؤمن بأهمية جذور العلم ومفاهيمه الأولية وإن اختلفنا في معطياته (أحيانا وخصوصا في موضوع أخلاق العلم والعلماء), مع عدم إهمال مناحي المعرفة الأخرى! ولن تكتمل الحلقة وتتحقق إلا بتوافر مناخ من الحرية. وهنا نتذكر كتاب (الشعر الجاهلي) لطه حسين.. نؤكد على أهميته ثم يلزم سريعا تجاوزه إلى ما هو أعلى وأشمل, حتى لا ننتظر طويلا, بل ندخل المعترك ونتعامل مع المعطيات اليومية والحياتية.. وربما نجدنا استوعبنا ما جاء في الكتاب من أفكار ومارسناها دون أن ندري?!!

وليس أجدى من أن نعي حاضرنا بمتغيراته ومفاهيمه الجديدة, وسيلة لفهم وتقديم ولائم التكريم الى د.طه حسين في ذكراه.

السيد نجم
كاتب من مصر

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات